17 August 2014

اللاهون في الجحيم

فيلم: ووك-أباوت
Walkabout

ووك-أباوت Walkabout (وأجتهد هنا في ترجمة العنوان إلى "التطواف الهائم") هو ثاني فيلم للمخرج البريطاني نيكولاس روج Nicolas Roeg، وقد رأى النور عام 1971. قبل ووك-أباوت أخرج روج فيلما واحدا حمل اسم "الأداء" تعاون في إخراجه مع مخرج آخر هو دونالد كاميل Donald Cammell، ولذا فإن ووك-أباوت هو الفيلم الأول الذي يخرجه نيكولاس روج لوحده بلا تعاون مع مخرج آخر، إلا أن تجربة روج السينمائية أقدم من ذلك بكثير.


نيكولاس روج بالأصل مدير تصوير، أي الشخص المسؤول عن جماليات التصوير والإضاءة والألوان وتناسقها في الفيلم السينمائي. كمدير للتصوير، تميز روج عن الآخرين، إذ كانت له دائما رؤاه الحساسة لمكونات اللقطة السينمائية، وقد شارك كمدير تصوير في عدة أفلام لها اليوم أهميتها في تاريخ السينما. من الأفلام التي عمل فيها روج في مجال التصوير السينمائي فيلم "لورانس العرب" عام 1962 مع المخرج ديفيد لين. حيث كان نيكولاس روج مسؤولا في هذا الفيلم تحديدا بشكل كامل عن كافة تفاصيل مشهد تفجير القطار وهو أحد المشاهد الرئيسية في الفيلم. تدور أحداث فيلم "لورانس العرب" في البادية العربية، حيث تحظى الصحراء بحضور باهر وأساسي كشخصية من شخصيات الفيلم. إن حضور الآفاق الممتدة المعروفة بالـ لاندسكيب Landscape ، مثل الصحارى، يعد ثيمة أساسية في عدد من أفلام روج، وهو ما سيتضح أكثر عند الحديث عن فيلم ووك-أباوت.
* * *
يجسد ووك-أباوت مسألة رئيسية في سينما نيكولاس روج، ألا وهي التصوير في الفضاءات المفتوحة والسفر خصيصا إلى أماكن جديدة لتكتشفها كاميراه وتلتقط بصيرته السينمائية أبعادها الجمالية. في السبعينيات لوحدها أخرج روج أربعة أفلام يدور كل واحد منها في بلد مختلف. أو بالأدق، يدور في بلد جديد خارج بريطانيا موطن المخرج ومقر إقامته. ففي أفلامه التالية: "ووك-أباوت"، "لا تنظر الآن"، "الرجل الذي هوى إلى الأرض"، وأخيرا "توقيت سيئ"، في هذه الأفلام الأربعة ذهب روج إلى أربع بلدان مختلفة للتصوير. ذهب بالتسلسل إلى: صحراء أستراليا، القنوات المائية في مدينة البندقية الإيطالية، جنوب غرب أمريكا، ومدينة فيينا. أي أن أفلام السبعينيات جميعها التي أخرجها روج قد قام بصناعتها خارج المملكة المتحدة!
يبحث روج عن شيء خاص. عن مكان خارج البنايات الشاهقة والغرف الضيقة. يبحث عن أمكنة جديدة على عينيه مثلما هي جديدة على عيني المشاهد. وقد نُقِل عن روج التساؤل التالي: "كيف نستطيع أن نزعم أننا نفهم من نحبهم فهما كاملا، إن لم نضعهم في إطارهم المكاني الكبير؟". يضع روج المكان كمفتاح لفهم الشخصية الإنسانية. هناك مؤلفون وصناع أفلام يختبِرون شخصياتهم بوضعها في مواقف خطرة لفهم تصرفاتها، لكن ذلك لا يقدم لنا نظرة بانورامية عن سلوك الشخصية في السراء والضراء، فهو يكتفي برصد ردة فعلها في الظروف الحالكة. أما نيكولاس روج فيختبر شخصياته من خلال علاقتهم بالمكان الذي يعيشون فيه. لعل الشخصية وما تقوم به ليس الهدف الأصلي للحبكة، لعل المكان هو بيت القصيد، وما الشخصية إلا مطية للتعرف على جماليات الأمكنة وخواصها.
* * *
تدور أحداث فيلم ووك-أباوت في أستراليا. جزء بسيط جدا منه يقع في مدينة سيدني، أما الجزء الأكبر فتدور أحداثه في الصحراء الأسترالية المعروفة بالـ آوت-باك OutBack. كلمة ووك-أباوت والتي يتسمى الفيلم باسمها، عبارة عن لفظة حديثة لوصف طقس قديم خاص بسكان أستراليا الأصليين. جرت العادة العتيقة في مجتمع سكان أستراليا الأصليين، على أنه حين يصل الفتى سن البلوغ، فإنه يغادر عشيرته ويهيم وحيدا في الصحراء مدة من الزمن تمتد عدة أشهر لا يختلط فيها بأي تجمع بشري من السكان. هذا الطقس هو طقس الـ ووك-أباوت، وبترجمة قد لا تكون دقيقة يمكن تسميته بـ "التطواف الهائم". غرض التطواف الهائم هو تعليم الفتى أصول الاعتماد على النفس للبقاء حيا في بيئة شحيحة الموارد. يحمل الفتى في فترة تطوافه خلاصة ما تعلمه من قومه من فنون الصيد والبحث عن الماء في الصحراء القائظة. يطبق الفتى هذه العلوم، فإن اجتاز هذا الامتحان الصعب ونجا من مهالك الصحراء فإنه يصبح خليقا بدخول عالم الرجولة.


تبدأ أحداث فيلم ووك-أباوت بعيدا عن هذا كله، بعيدا عن الصحراء وسكان أستراليا الأصليين. يبتدئ الفيلم بأُسْرة (بيضاء) تعيش في مدينة سيدني ذات البنايات الشاهقة. لا حوار في بداية الفيلم ولكن خليط من الموسيقى وصوت الراديو واللقطات السريعة لحياة مدينة مزدحمة خانقة.  نفهم من السياق أن الأب –رب الأسرة- يخطط للذهاب للصحراء الأسترالية البعيدة كل البعد عن حياة المدينة، لا نعرف بالضبط هل هو منقول للعمل في أحد المواقع هناك أم أنها مجرد رحلة خلوية. كل ما نعرفه من اللقطات التالية أن الأب يأخذ ابنته ذات الأربعة عشر ربيعا، وابنه ذا الأعوام التسعة وينطلقان إلى صحراء الآوت-باك الأسترالية الشاسعة.
في مكان مهجور بعيد عن كل شارع أو ملمح للحضارة البشرية، يقف الجميع في استراحة لتناول الطعام. الطفل الصغير يلعب بمسدس أطفال متخيلا نفسه في معركةٍ ما كما يفعل الأطفال الذكور ببراءة. الابنة تنزل لتغتسل في بركة ماء بالجوار. أما الأب فيخرج مسدسا ويصوبه نحو الطفل. نسمع طلقات رصاص. يتداخل صوت إطلاق الرصاص الفعلي مع صوت تقليد إطلاق الرصاص الطفولي الذي يمثله الفتى وهو يلعب. إن الجد والهزل يختلطان، وبراءة الطفولة تجابه عالم الكبار في إيقاع مونتاجيّ لماح. بعد كل أصوات طلقات الرصاص الحقيقي والوهمي التي سمعناها، نرى الأب وقد أضرم النار في سيارته وأطلق رصاصة على رأسه. لن نعرف أبدا سبب ذلك طوال الفيلم، لكن بإمكاننا التخمين أن المدنية المعاصرة قد نالت منه وأنه لا يريد أن يمضي أبعد من ذلك.
* * *
أب ميت. سيارة محترقة. وفتاة في الرابعة عشرة من عمرها مع أخيها ذي الأعوام التسعة متروكان وحيدين في صحراء شاسعة. ذلك هو توصيف المشهد لغاية الآن. وحين نقول صحراء شاسعة فنحن نعني ما تعنيه الكلمة حقا. فصحراء أستراليا واسعة لدرجة أن المرء يمكن أن يقطع مئات الأميات قبل أن يصادف في طريقه إنسانا آخر.
هنا تبدأ معاناة الأخوين للحفاظ على حياتهما. يبدآن المشي على غير هدى. ينفد ما لديهما من طعام. يبدأ التعب في النيل منهما، وتخيفهما حيوانات الصحراء وزواحفها، أما تسلق الصخور والتلال فيوهن جسديهما. تتبّع كاميرا فريق نيكولاس روج تفاصيل رحلة الشابين في مديح بصري لجماليات الصحراء ومخلوقاتها رغم المعاناة التي تحيق بالشخصيتين البريئتين المتروكتين لموت وشيك إن لم تتحقق معجزة ما. تأتي المعجزة على هيئة فتى من سكان أستراليا الأصليين، فتى شبه عار خلا من خرقة بسيطة وقد لف حول وسطه سحلية اصطادها مؤخرا. الشاب الأسمر هو فتى في مرحلة الـ ووك-أباوت، أو التطواف الهائم معتمدا على ذاته فقط ومعتزلا كل العالم من حوله. ثلاثة أبرياء من حضارتين مختلفتين، ما أكثر ما نالت المتفوقة صناعيا من الأخرى من سفك للدماء وإبادة تاريخية! لا لغة مشتركة بين الثقافتين، لكن الشاب الأسمر يفهم أن الفتى والفتاة بحاجة إلى شَربة ماء وإلا لهلكا عطشا. لا يبخل الشاب بمفاجئته حين يريهما أن الماء مخزون في الأرض تحت قدميهما وأن عملية حفر بسيطة ستأتي بالماء وتنقذهما! ورغم غياب اللغة الملفوظة بين الأطراف، تلتحق الأخت وأخوها بالشاب الأسمر ويلازمان خطاه في هيامه في الصحراء، فلعله يقودهما إلى شارع مسفلت يمكن أن يستقلا منه سيارة تعود بهما إلى المدينة، إلى حيث ينتميان.
* * *
تأخذ رحلة الفتية الثلاثة معظم وقت الفيلم. لنزور معهما سحر الصحراء الأسترالية وتشكلاتها الفريدة بين رمال جافة تارة وواحات مياه مؤقتة تارة أخرى. بين الطيور والسحالي والثدييات النادرة، وبين الأراضي القاحلة التي لا تحتوي سوى هياكل حيوانات نافقة.
الفيلم أيضا بحث في العلاقة بين حضارتين. هو تجربة بريئة من أمنا الطبيعة: حيث ثلاثة أطفال من حضارتين مختلفتين تلتقي طفولتهم في الأرض البكر، فهل هناك أيضا سيد وعبد في رحاب الطبيعة؟
يتحدث الكاتب لي هيل Lee Hill في مجلة "حواس السينما" عن شخصيات نيكولاس روج واصفا إياها بأنها شخصيات لا تدرك أنها تعيش في الجحيم لأنها تقضي معظم وقتها في حالة لهو، لكن حين تنتبه إلى ذلك يكون الأوان قد فات وتكون هي قد اجتازت نقطة اللاعودة. ذلك أيضا ما يحدث لشخصيات فيلم ووك-أباوت، فالفيلم ينتهي بقفزة إلى المستقبل حيث الفتاة تعيش في سيدني وقد تزوجت وتعيش حياة مدينية عادية جدا، أي رتيبة. ووسط تلك الرتابة تتذكر أنها حظيت يوما في مراهقتها بحياة أخرى في الفردوس في الصحراء الأسترالية في حضن الطبيعة الخالصة، قبل أن ينتهي بها المطاف في جحيم المدينة الرتيب.

No comments:

Post a Comment

Note: Only a member of this blog may post a comment.