13 August 2014

عن الفرح الممنوع في البلاد التي تحاربه!

ظِلال الحياة

في لحظات الإحباط، يبدو لي أحيانا أنه ليس لي من الحياة سوى ظلالها. ليس لي سوى انعكاسات حياة الآخرين في السينما وفي المواقع التي تعرض صورا فوتغرافية خلابة، حيث يبدو بشر تلك الأماكن؛ بل وحتى الطبيعة والأشجار، نابضين بحياة هائلة وفرح يمكن اتيانه بسهولة. أما في الحياة الحقيقية للمرء، فإن اقتناص الفرح ليس سهلا أبدا—على الرغم من أنني أزعم أنني مِن الأشخاص المواظبين على استدراج الفرح والساعين للذهاب إليه في عقر داره.


هذه الفترة التي أشاهد فيها أفلاما سينمائية روائية رائعة بوتيرة كبيرة، وأنغمس فيها أيضا في مواقع إنترنتية تعرض صورا جميلة متجددة للحياة من الشرق والغرب، هذه الفترة هي الفترة التي أدرك فيها أكثر من غيرها أنني لستُ اللاعب الأهم القادر على جعل حياتي مليئة بالفرح أو أنْ أتركها تتحول إلى حياة عابسة مضجرة. قد أكون اللاعب الأقل شأوا في هذا الأمر، فأقوى مني هو المجتمع المحيط وثقافته ومحرماته وحمولاته الثقيلة من العادات والتقاليد، وأقوى مني الطبيعة الحارة التي تجعل المرء حبيس جدران المنزل عدة شهور، فالخروج إما محفوف بالحرارة العالية الشاوية للوجه، أو بالرطوبة الخانقة المانعة للتنفس. وبجوار أسيجة الطبيعة والعادات الثقافية والاجتماعية، هناك غيلان التزمت الديني والتعصب المتربصة خارج الباب، وجحافل الطفيليين الذين لا توجد تشريعات تردعهم عن التدخل في الحيوات الخاصة للآخرين. العالم يبدو مختلفا تماما في الأفلام السينمائية والصور الفوتغرافية القادمة من أوروبا والأمريكتين. ليس القصد أن الناس بالخارج سعداء على الدوام، فهذه فكرة ساذجة للغاية، وقد عشتُ شخصيا في عدة دول غربية بما يكفي لأدرك أن الحياة ليست سهلة هناك أبدا. ومع ذلك، فأبواب الفرح هناك أوسع بكثير، وفتحها أسهل وأسرع؛ فخيارات الحياة متنوعة، والمحمولات الموروثة –فيما يخص العادات والتقاليد- أقل تشددا، والحرية الفردية مقدسة؛ وهي جُل ما يحتاجه المرء ليدخل للفرح (إذا كان له نصيب مقبول من الدخل المادي). في أماكن أخرى حيث أبواب الفرح موصدة وفتحها صعب، الدخل المادي قد يكون جيدا، لكنه لا يساهم كثيرا في تعبيد الطريق لتنتشر عليها زهور البهجة، فماذا تفعل تلك الزهور حين تدوسها أقدام المتطفلين الغليظة، وتنسكب عليها سموم المتزمتين والموتورين، وتحرقها شمس الطبيعة القاسية مثلها تحرقها حمم الكبت والقمع السياسي والاجتماعي وبراكين التعصب والتطرف؟ الفرح في هذه الأماكن صعبٌ الوصول إليه، وهو نادر، وأحيانا فاتورته مكلفة لأصحابه!

تتحكم العائلات إلى حد كبير في خيارات الأبناء والبنات، مثل تحديد تخصص الفرد في الدراسة الجامعية واختيار الزوجة، وأحيانا حتى في اختيار سيارة الفرد وأثاث منزله وتسمية أطفاله! ويستمر هذا التدخل مدى العمر. فما علاقة شخص يعيش عبدا لرغبات الآخرين بأي شكل من أشكال الفرح؟ إن الفرح يكون محددا فقط بما يُقرّونه هم أنه فرح، وما سواه فلا يجوز للمرء أن يدانيه وإلا لكان مارقا جالبا العار لعائلته وتاريخها! وتحت مسميات كثيرة، منها "الدين النصيحة"، يدس الكثيرون أنوفهم في شؤون الآخرين بصلافة ووقاحة. ويمنح الكثيرون نفسهم حق تقييم الآخرين والحكم على ما يقومون به في حياتهم الشخصية التي لا تخص أحدا سواهم. ويستمتع البعض بتأويل الكلام في الجلسات بغير مقاصده. هذا عدا الغيبة والنميمة، ونقل الكلام محرفا للآخرين، وهي هواية شائعة وليست من الاستثناءات! وتزيد الهواتف النقالة وتطبيقاتها الطين بلة في تعامل المقموعين-القامعين-لغيرهم معها، وهنا لا أتحدث فقط عن رجل وامرأة (زوجته مثلا) وقد خرجا للعشاء ثم وجدا صورتهما موزعة على الواتس-آب وتحتها تعليق بغيض، ولكن الأمر يطال نساء بريئات كنّ في أعراس غير مختلطة لزميلاتهن وأهاليهن، فيجدن صورهن العفوية –وهن بالطبع بكامل زينتهن- مادة يتناقلها الآخرون مسلولة من سياقهما وملغمة بالأكاذيب. أين يمكن للفرح أن يكون حين تترصد به المكائد إلى هذا الحد؟ حتى الأعراس –والتي تسمى "الأفراح"- يمكن أن تكون مدعاة للقلق وليس للفرح!

تقضي النساء المسكينات وقتا في المحلات لانتقاء ملابس أنيقة، لكنهن لا يعرفن لمن يرتدينها وكيف يُظهرنها. فالعباءة لابد أن تعلوها وتخفيها، وبذا يكون أمر التزين كوميديا سوداء مضحكة مبكية! ما أبله بنطال جينز تحت العباءة، وما أغبى قميصا ملونا زاهيا تحت جلباب أسود يجسد التفوق الذكوري العنصري! وإذا نجحت المسكينات وارتدين ذلك الثوب الأنيق للشخص المنشود، فقد يكون أول من سيتحسس من أناقتهن كونهن غير مأمونات كزوجات للمستقبل! ليست النساء وحدهن من يعانين في أمرِ ما يرتدينه، فهناك رجال يرغبون في الخروج مع زوجات أنيقات للفعاليات العامة، لكنهم مُكرهين لقمع الأناقة لدى زوجاتهم. ثمة من يسافرون للخارج فقط ليستطيعوا أن يروا الزوجة بنفس الإطلالة التي أحبوها عليها في بداية التعارف. إنهم لا يفرحون إلا في الخارج. حتى قطع القماش محرومة من الفرح في بلداننا!


لا يمكن أن يتواجد الفرح إلا في المجتمعات المدنية الحقيقية، والتي تُعتبر فيها الفردية أعلى قيمة حضارية، وتكون "حقوق الإنسان" ممارسة تطبيقا لا تنظيرا. أما المجتمعات التي يقرر فيها شيوخ القبائل ورجال الدين والعادات المتوارَثة ما يجب على الناس أن يفعلوه في كل كبيرة وصغيرة تخص حياتهم الشخصية، فهي مجتمعات ضد الفرح. حقا إن الفرح هو في مكان آخر، ولكن ماذا يفعل أولئك الذين أوجدتهم الصدفة في غير ذلك المكان؟ ليس بوسعهم سوى السعي لخلق الفرحة ولو تعمدا، واستدراج الفرح في كل سانحة ممكنة، وإلا فإن الأفلام ومواقع التصوير الفوتغرافي عبر الإنترنت ستكون هي الوحيدة التي ستعطيهم فكرة عما يكون عليه الفرح. لن يكون العيش في ظِلال حياة الآخرين مدعاة لفرح أحد، بل من المحتمل أن يفعل العكس. لذا، لا شيء باليد سوى الاستمرار في مطاردة الفرح مهما كانت كُلفة ذلك عالية، فبغير ذلك لن يكون في الحياة أشياء كثيرة جديرة بأن نحيى لأجلها.

No comments:

Post a Comment

Note: Only a member of this blog may post a comment.