15 August 2014

سرطان الخرافة يلتهم الدماغ العربي

كُتبت بتاريخ 12 يونيو 2009م. ونشرت في تلك الفترة في مجلة الرؤيا.
يمكن للمرء أن يلاحظ في المقالة الجذور التي أدت اليوم إلى ظهور داعش وأشباهها من أيديولوجيات التجهيل والظلامية.


سرطان في الدماغ العربي!

وصلتني مؤخرا رسالة مُعمّمة بالبريد الإلكتروني معززة بالصور عن أحابيل وخدع تم تلفيقها عمدا وإعدادها تقنيا وتوزيعها على الناس بوصفها حقائق ومعجزات خارقة، مثل عثور مُزارع على بطيخة منقوش عليها "لا إله إلا الله" أو قيام علماء أوروبيين بتسجيل صوت حفيف أوراق الشجر وتحليلهم لذلك الصوت حيث وجدوا أن الأشجار تقول "الله أكبر.. الله أكبر"--الأمر الذي أدى إلى دخول هؤلاء العلماء في الدين الإسلامي!، وما إلى ذلك من هذه الأشياء التي يتم تقديمها للناس بوصفها معجزات فريدة جاءت لتؤكد للضالين أنه لا مناص من الإيمان بوجود خالق لهذا الكون، وأنّ المعجزات لا تزال مستمرة، وأن كل ما يعشش في أذهان عامة المسلمين من أفكار غيبية هي حقائق يثبتها العلم الحديث يوما بعد آخر.. هذا ما أتى ذلك الإيميل للتحذير منه، إذ سعى معد الرسالة الإلكترونية أن يوضح أن أمثال تلك الأحابيل هي ترهات لا أساس لها من الصحة، وأن الدين الإسلامي لا يحتاج لمثل تلك الأحابيل التقنية -التي تم تصميم معظمها ببرنامج الفوتوشوب- لإثبات عظمة الإسلام ونُبل رسالته.. إلى هنا تبدو الرسالة منطقية ومعقولة، فما أكثر الإيميلات التي يتلقاها الناس في عالمنا العربي عن خرافات وترّهات يتم الترويج لها على أنها معجزات إلهية، وهي ليست سوى أكاذيب ملفّقة مدعّمة بصور معدة ببرامج حاسوبية مختلفة.. وبطبيعة الحال فإن كثيرا من الناس في مجتمعاتنا العربية يتلقون هذه المواد المفبركة بالتصديق الكامل لها دون مساءلتها بالعقل والمنطق، ذلك أن أدنى استخدام للعقل والمنطق في مجابهة أمثال هذه الأوهام كفيل بأن يثبت سخف تلك الألاعيب وحقيقة أنها مجرد صور وأخبار مفبركة.. من هنا تأتي أهمية مثل هذا الإيميل الذي جمع عددا جيدا من الصور والفبركات التي طالما تناقلها الناس باعتبارها معجزات، وهو هنا يسعى لكشف الفبركة الحاصلة فيها.. إن الأهمية هنا أن إيميلا من هذا القبيل يسعى إلى مواجهة الخرافة بالمنطق والسببية لهو شيء نادر في زخم ما يتم سكبه في صناديق بريدنا الإلكترونية من رسائل لا هم لها سوى نشر الخرافة وتعزيز سلطتها. إلا أن الجزء الذي أختلف فيه في الرأي مع معد ذلك الإيميل هو اعتقاده بشكل راسخ أن مصدر جميع تلك الأباطيل هو موقع إلكتروني خاص بالملاحدة يقومون فيه بنشر أمثال هذه الأفكار بين أوساط المسلمين بغرض السخرية منهم. قد يكون هناك من حاول أو يحاول فبركة مواضيع مثل هذه من "الملاحدة" بغرض السخرية من أولئك الذين تنطلي عليهم مثل هذه الأحابيل، لكن المصدر الأكبر لأمثال هذه الترهات لا يأتي من أعداء متوهمين ناقمين على الإسلام والمسلمين، لكنه يأتي من عامة المسلمين أنفسهم، فإذا كان "الملاحدة" قد فعلوها مرة فإن عامة الناس أنفسهم يفعلونها كل يوم، والخطر يكمن فيهم هم لا في سواهم.. إن المرء لا يحتاج سوى أن يتواجد بين عامة الناس من حوله ليرى مدى ترسخ الفكر الخرافي في الشارع العربي، وليرى إلى أي مدى يغيب التفكير السببي عند الكثير من الناس، ويتضاءل العقل والتحليل العلمي الناقد في نظرة هؤلاء الناس للأمور، وتجد الخرافات والأوهام طريقها إلى العقول بلا أدنى تمحيص لدى الغالبية العظمى من أبناء هذا المجتمع.. إن عامة الناس هم الخطر الأول على عقولهم بإلغائهم لهذه العقول واستعدادهم لتقبّل أية أفكار خرافية كحقائق ومسلمات بلا أدنى تفكير أو تمحيص لها.


في كل يوم في عُمان نسمع شائعة جديدة عن معجزات إلهية وعن كائنات خرافية يؤمن الناس بوجودها إيمانا جازما. هي ذي ساحرة عجوز تطير على مكنسة وترتطم بـ "الدِش الفضائي" في سطح أحد المباني. وهو ذا صوت غريب في ولاية كذا يشبه صوت أناس يتم تعذيبهم في القبر. وهذا قلب طفلة صغيرة منقوش عليه كلمة "محمد". وهذه صورة من وكالة ناسا للفضاء تبين مكان انشقاق القمر.. كل يوم هناك حكاية جديدة ينشغل بها الناس، وما دام العمانيون يؤمنون أن ولايات كاملة في هذا البلد أهلُها من السحرة والمتعاملين مع الجن فإن فرصة أن يصدق العمانيون أية حكاية مفبركة عن المعجزات وعالم السحر هي فرصة كبيرة للغاية. من هنا تأتي أهمية مناقشة ظاهرة الإيمان بالأوهام وكيفية معالجتها، وأهمية التوعية بضرورة استخدام العقل والمنطق في التعاطي مع كافة الأفكار التي يتم طرحها مما يبدو واضحا جليا أنه محض خرافات وأكاذيب.

عندما كانت أوروبا تعيش فترة سيطرة الكنيسة في القرون الوسطى (حوالي 500م إلى 1500م)، كانت الخرافات هي المتسيدة، إذ أنّ نشر الجهل وتعزيز الإيمان المطلق بالأوهام كان إحدى استراتيجيات رجال الكنيسة لإبقاء شعوبهم مغيبة عن الوعي وبعيدة عن المطالبة بأي حقوق مدنية. إن حاجة الناس للإيمان هي أقصر الطرق التي يمكن لرجال الدين –أيا ما كانت ديانتهم- أن يستغلوها لتغييب العقل ومعاقبة من يجرؤ على التفكير والنقد. ما أكثر النساء اللائي تم حرقهن أحياء في تلك الفترة بتهمة السحر، وما أكثر العلماء الذين تم إعدامهم، وما أكثر المكتبات التي تم تدميرها بالكامل. بل إنه حتى القطط قد نالت نصيبها من غضبة رجال الدين، فتم اتهامها بأنها وسائط يستخدمها السحرة في أعمالهم، ولذا تم القضاء على كل قط يمكن الإمساك به.. وهنا جاءت ردة فعل الطبيعة بعد الإخلال بتوازنها باسم الرب، لقد تكاثرت الجرذان والفئران فظهر الطاعون وامتد في أوروبا كلها وأودى بالضبط بحياة نصف سكانها! كانت تلك نتيجة مباشرة لسيطرة الخرافة في المجتمع، نتيجة قادت إلى الظلم والاستبداد والتعذيب ووفاة عشرات الملايين من الناس. إن حال الوطن العربي اليوم هو أشبه بحالة أوروبا في القرون الوسطى. فبعد عقود من الاستعمار العثماني تلاه استعمار أوروبي، ومجئ نظم عسكرية عربية مستبدة لا تقل ضراوة عن الاستعمار في قمع الحريات ومصادرة الفكر وبث الخوف وترويع الناس، يأتي اليوم دور سرطان التشدد الديني محاوِلا الإجهاز على كل بارقة باقية للتنوير في المجتمع العربي. إن الأمر كما كان عليه حال أوروبا في العصور الظلامية: سيطرة المتشددين دينيا (بتحالف مع السُلطة) ومحاربة الكتب وتكفير العلماء، وفي المقابل شيوع الخرافات والأباطيل والأوهام، وبالنتيجة النهائية: وجود مجتمعات متخلفة حضاريا وغير مواكبة لعصرها.

تتطلب مناقشة موضوع الفعل التنويري في البلاد العربية نقدا جريئا للواقع، نقدا لا يعرف المهادنة ولا المداهنة. فنحن اليوم في الحقيقة أمة متخلفة حضاريا في نواحي الإنتاج المختلفة قياسا بالغرب المتقدم، وعلماؤنا ومفكرونا لا يستطيعون استعمال عقولهم إلا في الغرب، وهو ما يُعرف بهجرة الأدمغة العربية. والوضع في داخل المجتمعات العربية صار صعبا، فمن أنظمة غير ديموقراطية إلى تحفز شرس للمتشددين دينيا للقفز إلى كرسي السلطة عبر تجهيل عامة الناس بالأوهام والأباطيل واستخدام المدنيين كانتحاريين –بعد غسل أدمغتهم- لخدمة أهداف قادة هذه التنظيمات الدينية المتشددة. كل هذه الممارسات جعلت المناخ خصبا للغاية لازدهار الخرافة والأفكار الظنيّة، فقد استشرى الجهل واستوطن لدرجة أن عامة الناس أصبحوا ليسوا فقط مستعدين كليا لتقبل أية خرافات على أنها معجزات ومسلمات، ولكنهم أصبحوا منتجين للخرافة ومساهمين فاعلين في ترسيخها في مجتمعهم. هو ذا كاتب عماني مرموق (يُفتَرض بالكُـتّاب أن يكونوا متنورين، أليس كذلك؟!) ينهار زواجه لشجارات متكررة مع زوجته، فيُرجع السبب إلى "عَمَل" عمله أحد الأقارب ضده بواسطة السحر! وهو ذا طبيب يرى أن الوفاة المبكرة لشقيقه الأصغر هي من علامات الساعة (وليست نتاجا لجلطة دماغية!). وهو ذا مهندس زراعي يؤمن أن الأشجار تؤذن وتؤدي الصلاة! وهو ذا خبير حاسب آلي في شركة اتصالات يوزع للناس صورا معدة بالفوتوشوب لما يؤمن هو أنه سفينة نوح عليه السلام، مع أنه شخص خبير في الفوتوشوب ويعرف ليس فقط أن صناعة هكذا صورة أمر سهل، بل ويعرف أنه يمكن تقنيا تفحص هكذا صورة جاهزة والرجوع إلى أصل الصورة قبل إجراء أية تعديلات بالفوتوشوب عليها! الأمثلة لا تنتهي، لكنها تشير إلى استعداد تام لدى الناس لتصديق الخرافة بل والمساهمة في ترسيخها، والأدهى من ذلك أن هذه الخرافات لا تأتي من حاقدين على المسلمين كما ظن صاحب الإيميل التحذيري، لكنها في الحقيقة تنبع من عامة الناس أنفسهم ومن كيفية فهمهم للدين، وهنا جوهر الموضوع!

يؤدي غياب التفكير العلمي والنظرة السببية للأمور إلى خلق مجتمعات مخدّرة سلبية وغير منتجة. إن الإنتاج يتطلب الرغبة في الابتكار والتجديد والتطوير، لكن المجتمعات المؤمنة بالخرافة إيمانا مطلقا تغيب فيها هذه الرغبات، فما دام الناس بحاجة إلى من يقرر لهم ويُفتي متى يحق لهم دخول الحمام أو ماذا يقولون بعد التبول (وهي أفعال ذات طابع ذاتي بحت)، فإن هؤلاء قد أذعنوا، إذن، توكيلَ عقولهم للآخرين ليتصرفوا بها ويقرروا لهم بدلا عنهم، وما دام هناك من يفكر لهم نيابة عنهم فلا داعي للعقل ولا داعي للإنتاج، فكله مقدّر ومكتوب! إن اعتماد عامة الناس على مسلمات ويقينيات من هذا القبيل دون تشغيل للأذهان وإعمال للفكر، و تسليمهم أدمغتهم لآخرين ليفكروا لهم ويقرروا لهم بدلا عنهم، يؤدي إلى خمول الذهن، وهو يقود بدوره إلى غياب الإنتاجية، فيما يؤدي غياب الإنتاجية إلى التراجع فالتخلف الحضاري. وحين يصل المجتمع درجة التخلف فإنه من السهل استعباد الناس فيه بالخرافات والأباطيل وتوجيه العقول لتقبّل هذه الأفكار على أنها مسلمات، وبالتالي يسهل السيطرة على الناس بل وتوجيههم الوجهة التي يريدها مُطلِقو الخرافات وزارعو الأوهام. أعود هنا للتذكير بأن الحال الراهن في الوطن العربي أشبه ما يكون بحال أوروبا في العصور الوسطى في ظل السيطرة المطلقة للكنيسة. كانت الكنيسة تتمتع بسلطة دينية وسياسية معا، وكان بإمكان رجال الدين تنصيب الملوك وخلعهم. يلعب اليوم أمراء التشدد الديني ورجال الفتوى الذين تعج بهم الفضائيات والمنتديات الإسلامية دور كبار رجال الكنيسة في العصور الوسطى. إنهم يزرعون الخرافة ويكفّرون المتنورين وبالتالي تسهل عليهم عملية السيطرة على عقول عامة الناس وغسل أدمغتهم وتوجيههم لخدمة الغايات الشخصية لهؤلاء القادة الطامحين إلى مكاسب سياسية ومالية، ويكون المجتمع برمته هو الضحية، فيعم الاستبداد والجهل ويستشري نهب الثروات العامة. لقد دفعت أوروبا ثمنا باهظا للعصور الوسطى الجاهلة تمثل في مقتل عشرات الملايين بالتعذيب والتجويع والمرض وأخيرا بالطاعون الذي كان نتيجة لسيطرة الخرافات والأوهام، وما لم تنتبه المجتمعات العربية إلى واقع حالها اليوم الشبيه بأوروبا في عصور الظلام، وإلى النتائج الفادحة التي يقود إليها الإيمان المطلق بالخرافات والأوهام فإن النتيجة الطبيعية هي أن تدفع هي الأخرى ثمنا باهظا لهذا الاستسلام التام لخفافيش الظلام وللأباطيل التي تنتشر كسرطان مخيف في الدماغ العربي الذي لا يزال لحسن الحظ... يقاوم!

No comments:

Post a Comment

Note: Only a member of this blog may post a comment.