17 October 2019

هل العائلة الكبيرة نعمة أم نقمة؟


الأسرة الجورجية في فيلم (عائلتي السعيدة)


قضيتُ في صيف العام الماضي (2018) عشرين يوما في جورجيا، التي توصف عاصمتها تبليسي بأنها واحدة من أكثر ثلاث عواصم أمانا في العالم. زرت أربع مدن وتعرفت على أشخاص جورجيين رائعين مازلتُ متواصلا مع بعضهم لغاية الآن. الذي لفت نظري في جورجيا، من الناحية الاجتماعية، مقدار الأمان في المدينة رغم تدني مستوى المعيشة. ورغم أنني عشت وسط عائلتين هناك في مدينتين مختلفتين، وتناولت طعام المنازل الجورجي الذي يحضّرونه لأنفسهم، إلا أنني في نهاية المطاف كنت مجرد سائح عابر لم يسبر تماما أغوار المجتمع الذي يعيش فيه. لذا، فكثيرا ما تساءلتُ وأنا هناك: ألا توجد مشاكل في هذا المجتمع الهادئ؟ ما القضايا التي تشغلهم حقا؟ وقد كنت أعرف أن السينما هي خير نافذة سأطل منها على المشهد الجورجي بصورة واضحة وعميقة لو تمكنت من مشاهدة بعض الأفلام السينمائية الجورجية الجيدة.

بعد عام من هذه الزيارة، تسنى لي أن أعرف جورجيا أكثر، وأن أستعيد ذكريات زيارتي لها، وذلك من خلال الفيلم الجورجي (عائلتي السعيدة) الذي شاهدته مؤخرا والذي كان أول فيلم جورجي أشاهده. (عائلتي السعيدة) من تأليف نانا إكفتيميشفيلي وإخراجها بمشاركة سيمون جروب (إنتاج 2017)، وهو موجود لغاية لحظة كتابة هذه الأسطر على شبكة نتفليكس. ترى عن أي شيء سيتحدث فيلم جورجي؟ إنه بالطبع عن العائلة! هذا أول ما فكرت فيه، ففي بلد هادئ وآمن ماذا لدى السينما كي تتعمق فيه، لا شك أنها العائلة. لا بد وأن تكون العائلة محورا رئيسيا في السينما الجورجية، لسبب أساسي، ففي جورجيا لا يزال الناس يعيشون بنمط العائلة الممتدة، حيث لا يزال يسكن البيتَ الجورجي الواحد ثلاثةُ أجيال بل وأحيانا أربعة! ولكن، هل هذا يجعلها عائلة سعيدة أم تعيسة؟



تتمحور قصة فيلم (عائلتي السعيدة) حول الأم "منانا"، في أوائل الخمسينيات من عمرها. نعيش مع "منانا" وعائلتها في تفاصيل حياتهم اليومية، حيث أول مشهد في الفيلم هو لمنانا تشتري جريدة من نوع صحف الإعلانات المبوبة، في المشهد التالي نجدها تعاين شقة ترغب في استئجارها، فقد آن لها أن تعيش بعيدة قليلا خارج محيط العائلة المتطلب. منذ تلك اللحظة يكون الفيلم نوعا من الفلاشباك الطويل، لنعيش وقائع الحياة اليومية لمنانا في محيط العائلة، لنتعرف على التفاصيل التي قادتها في نهاية المطاف لاختيار خيار العيش بمفردها، ولكن بدون قطيعة مع العائلة، وكذلك بدون الذوبان الكامل الذي تلتغي معه شخصيتك الفردية.

عائلة "منانا" تتكون من ثلاثة أجيال، فهي تعيش مع أمها وأبيها الكبيرين في السن ولكل منهما احتياجاته ومتطلباته. يقيم معهم في البيت زوج "منانا"، وولداها الشابان (فتى عاطل عن العمل، لذا يمضي معظم وقته في البيت، و فتاة يتواجد خطيبها في بيت العائلة معظم الوقت). كل هؤلاء البشر بمقدار ما تحبهم ويحبونك، فإنهم يشكلون أيضا ضغطا هائلا عليك، فأنت تقضي عمرك في تلبية احتياجاتهم وتكاد تنكر نفسك، وحينما يأتي اليوم الذي تبحث فيه عن مساحة شخصية لتتنفس تتكالب عليك العادات والتقاليد متهمة لك بالعقوق. هذا هو جوهر الصراع الداخلي العميق الذي تعيشه "منانا"، والذي نتابعه في الفيلم بأسلوب عرض التفاصيل اليومية الدقيقة لواقع الحياة في بيت عائلة جورجية عادية جدا. جودة هذا الفيلم تأتي من اشتغاله المتقن على التفاصيل الصغيرة التي تصنع في النهاية الصورة الكبيرة، حيث ننتهي بالسؤال الذي يكاد يكون بلا إجابة: ما العائلة؟ وإلى أي مدى يمكن أن نعطيها دون أن ننكر ذواتنا؟

02 October 2019

الأيام الأخيرة في اعتصامات الربيع العماني (2011)


هل فشلنا في بناء الإنسان العماني؟*


علّمنا خطابُ الإعلام الرسمي أن الإنسان العماني "هو المحور الذي تدور حوله كافة المحاور"، أيْ محاور التنمية. ومنذ أربعين عاما تسعى الأهداف النظرية المعلنة للنهضة العمانية إلى "رفاه الإنسان الذي هو باني النهضة". وفي كل احتفال رسمي بافتتاح مشروع من المشاريع، نجد خطيبا يتحدث عن "أهمية ذلك المشروع للنهوض للإنسان العماني باعتباره صانع التنمية". اليوم يأتي سؤال الفرز: أين وصل بناء الإنسان العماني؟ وما الذي نفهمه عن مستوى نضج هذا الإنسان من خلال الأحداث التي وقعت بالبلاد مؤخرا -ولازالت مستمرة- من مظاهرات سلمية وغير سلمية؟

يوم السبت من هذا الأسبوع، هاجم معتصمون في ولاية صور مدير عام المديرية العامة للتربية والتعليم وطردوه من مكتبه، ورفضوا حتى أن يخرج في حماية الشرطة أو الجيش، وقبلها اضطر مدير إدارة حكومية بعبري للقفز حافيا من سور مبنى الإدارة وكأنه لص يلوذ بالفرار، أما شاهد عيان فقد روى لي ما شاهده بعينيه من قيام "معتصمين" بدوار صحار بمطالبة السيارات المارة بدفع أتاوة قدرها 20 ريالا إذا كانوا يرغبون في المرور بسياراتهم من الدوار، وفي صحار نفسها كان هناك ملثمون يطوفون بسياراتهم يؤججون الناس داعين إياهم إلى "حرق عُمان"، مؤكدين أن هذه فرصة لن تتكرر ليقوموا بذلك! وإضافة لكل هذه الحوادث، فهناك إحراق لولو صحار وإدارة إسكان عبري وتعطيل العمل في ميناء صحار وحجز شاحنات في دوار ضنك تمهيدا لحرقها، والأحداث لا تتوقف عند هذا، ففي كل يوم هناك من يعطل حركة المرور باسم الاعتصامات والإضرابات العمالية، فما الذي يمكن أن نصف به مثل هذه السلوكيات؟
حسنا، تلك ليست الصورة الكاملة، فهناك معتصمون مسالمون، وإنْ لم يكونوا مسالمين تماما! ففي اعتصام مجلس الشورى تكررت أكثر من مرة حوادث مهاجمة معتصمين متشددين دينيا لآخرين يخالفونهم الرأي، ومع ذلك لم يقع للآن تخريب مادي كبير (هذا إذا تجاهلنا التخريب الفكري الحاصل حاليا أمام مجلس الشورى بقيام المتشددين دينيا بغسل أدمغة المعتصمين وتحويلهم إلى أشباه طالبانيين). وبعيدا عن الاعتصامات السلمية، أو قريبا منها لا فرق، توجد "مظاهرات" إلكترونية على شبكة الإنترنت تنادي بمطالب لا أول لها ولا آخر، بداية من إسقاط الديون ومرورا بما لا حصر له من المطالب الشخصية الفردية، وصولا إلى تصفية الحسابات بين الفئات المختلفة، كقيام البعض بشن حملة استعداء ضد جماعة الدستور التعاقدي واصفين إياهم بالخونة، أو قيام السلفيين بتكفير كل من يخالفهم الرأي ودعوتهم، مثالا لا حصرا، إلى قطع لسان الناشطة الحقوقية حبيبة الهنائي! إنه بدون شك موسم تشويه السُمَع وتصفية الحسابات بلا ضمير أو رادع، وقد تهيأت لذلك منتديات إلكترونية تخصصت في إزكاء روح الكراهية وانتفت عنها أية صفة إشرافية لضبط "حوار" الأعضاء بما لا يتجاوز حدود آداب الحوار. إنها منتدياتٌ آن للمواطنين أن يتقدموا ببلاغات للإدعاء العام لإغلاقها بوصفها "محل جريمة" لأنه لم يسلم أحد من تشويه السمعة فيها.

بين المتنورين الليبراليين من صفوة مثقفي هذا البلد، وبين جماعات الإسلام السياسي السلفية، توجد شريحة عريضة هم غالبية أبناء عمان، هم البشر العاديون، أيْ: عموم الناس. ما مطالب هؤلاء، أو بالأدق، ما مواقفهم مما يجري؟ البعض اختار الصمت وعدم المشاركة، ولكن بالطبع لديه موقفه الخاص في صميم ذاته مما يحدث، لكن قِسما كبيرا من عموم الناس لهم مطلب كبير هو زيادة الرواتب، وعدد أقل من هؤلاء يضيف مطلبا ثانيا هو تكفّل الحكومة بسداد ديونهم. فئة أخرى من "الأغلبية الصامتة" قد وصلوا الآن فعليا إلى مرحلة "القرف" من كل هذه الاعتصامات لأنهم يرون أنها "أصبحت موضة وقد زادت عن حدها كثيرا"، والبعض الآخر بات يشعر بالقلق من زيادة حجم المطالب اللامنطقية والتعجيزية لكثير من الناس وكأنهم يريدون أن تُصب في جيوبهم آلاف الريالات شهريا وهم نائمون في بيوتهم لا يفعلون شيئا!

في عُمان فسيفساء متنوعة ينضوي تحت جناحها المزركش المعتصمون وغير المعتصمين من الناس، فهناك أصحاب المطالب السياسية الرفيعة من دعاة الديموقراطية الحقة مثلما هناك سواد الناس ممن لم يسعوا لأكثر من إسقاط "مكي و مقبول" وزيادة الرواتب، وهناك بالطبع جماعات الإسلام السياسي بأجندتهم المعروفة. وبعد مرور ثلاثة أسابيع على الاعتصامات فإن المزعج في خارطة هذه الفسيفساء هو زيادة شريحة رقعة محددة من الناس، هي شريحة الإتكاليين والكسالى والابتزازيين. كل يوم تتولد لدى الناس مطالب جديدة تشترك جميعها بدعوتها إلى المطالبة برفاه مادي مفرط دون أن يجني المرء ذلك بعرق جبينه! هي مطالبات من قَبيل أن تكون خدمة الماء والكهرباء مجانية، أو أن يحصل فاشل راسب في الثانوية العامة على 300 ريال شهريا وهو نائم في بيته طوال النهار، أو أن يصبح الجميع فجأة مدراء فلا يقوم أحد بالأعمال اليدوية، أو أن تزوّج الحكومةُ الناسَ وتدفع مهورهم، أو أن يداوم المعلمون نصف نهار فقط وليذهب التعليم إلى الجحيم!

رقعة هذه المطالبات الإتكالية الأنانية تتسع، وأصفها بذلك لأنها لا تراعي الواقع ولا ترى أبعد من المصلحة الشخصية. تتسع هذه النوعية من المطالبات لدى عموم الناس الذين كانوا قبل ثلاثة أسابيع يريدون فقط تحسنا معقولا في مستويات معيشتهم، واليوم تريد فئة منهم النوم في البيوت وتتكفل الحكومة بإطعامهم الطعام في أفواههم بملاعق من ذهب! إنهم يأخذون مطالبهم الغريبة هذه بجدية، ويسعون لممارسة ابتزاز على الحكومة ومؤسسات عملهم لتلبي مطالبهم عبر قطع الطرق والانخراط في اضرابات تشل حركة الإنتاج كما تشل حركة الشوارع. إن أقل ما يقال عن هؤلاء هو أنهم اتكاليون عديمو الجدوى، وأنهم أنانيون، ينضحون جهلا مريعا يدلل على عدم نضج أية رؤية واقعية لديهم، وهؤلاء لسوء الحظ كثيرون، وهم الذين يتسيدون مشهد الاعتصامات والإضرابات العمالية في عُمان اليوم.

هل نقول إذن أننا فشلنا في بناء الإنسان العماني، بمعنى بناء إنسان مثقف يمتلك حسا عاليا بالمسؤولية الاجتماعية ولديه وعي سياسي ووطني يمكّنه من الرؤية أبعد من سقف مطالبه الشخصية الإتكالية والنفعية؟ صحيح أنه ليس جميع أبناء عمان هم من هذه الفئة، فكما أشرنا فإن هناك فئات أخرى من المتنورين وعامة الناس يطالبون فقط بتحسين أوضاعهم المعيشية، ولكنه صحيح أيضا أن نسبة أصحاب المطالبات الاتكالية الأنانية هم في ازدياد، كما أن سلوكهم الابتزازي آخذ في التعاظم. إذن، ألم ننجح في بناء الإنسان "النافع لوطنه ومجتمعه"، أي الإنسان المنتِج الذي يحب العمل ويعشق التحدي، وكل ما حصدناه بدلا عن ذلك هو مواطنون يرغبون في الكسل وقطف الملذات دونما عمل؟ لو صح ذلك، إذن من سيبني عمان؟ وماذا كنا نفعل طوال الأربعين عاما الماضية؟

ثمة جرس إنذار يُقرع الآن حول مسألة بناء الإنسان العماني، جرس يقول أننا نحتاج إلى إعادة البناء، وأن نستثمر أكثر في الأجيال الصاعدة. نستثمر في تعليم وإعلام وتوعية حقيقية -وليست شعارات طنانة جوفاء- تسعى لبناء إنسان أكثر تحليا بالمسؤولية، وأكثر حبا للعلم والعمل، وأعمق تطلعا للبناء والابتكار، بعيدا عن ذهنية الأخذ فقط دون إعطاء شيء في المقابل.

*كتبت في 10 إبريل 2011، و نُشِرت آنذاك في صحيفة الرؤية العمانية.