20 August 2014

السَفَر الذي يبدأ بعد العودة للوطن

السَفَر الذي يبدأ بعد  العودة للوطن!

إلى سالم الذهلي.. عائدا من رحلة أخّرها القدر لتكون أكثر نضجا وإمتاعا

كانت لدي دوما قناعة بأن السفر الحقيقي؛ أي السفر الذي يترك أثرا عميقا في وجدان الإنسان، هو ذاك الذي يبدأ بعد العودة إلى أرض الوطن. ثمة سفر للفرجة العابرة، لا يهم المسافر فيه تفاصيل المكان الذي هو فيه لبضعة أيام فقط. لا يعنيه وضع الناس السياسي وعلاقتهم بالسُلطة في بلادهم، كما لا تعنيه أوضاعهم الاقتصادية -إلا بالقدر الزهيد الذي تؤثر فيه سلبا أو إيجابا على نفقات رحلته القصيرة-. هذا السفر هو السفر العابر، وهو لا عيب فيه سوى أنه عابر (وذلك إذا كان "العبور" عيبا بالأساس). ثمة سفر آخر طويلُ الأثرِ في الروح، هو ما يمكن تسميته بالسفر القار في النفس، أو المقيم، أو الحقيقي، أو غيرها من المسميات الشبيهة. إنه السفر الذي لا يكتفي بمجرد "تغيير الجو"، ولكنه يترك في وجدان المسافر أثرا عميقا يظل يلازمه طويلا، وفي بعض الأحيان يعيش معه حتى نهاية العمر. هذا النوع من السفر هو الذي يبدأ لحظة عودة المسافر إلى أرض الوطن، حيث يعيش المرء حالة مراجعات ذاتية واستعادات وتأملات، تجعله ينظر لمكانه الأم نظرة جديدة، ويفكر في واقعه بشكل مختلف، ويضع رؤى جديدة لقادم أيامه.


لا يستلزم السفر الحقيقي أن يبقى المسافر طويلا في رحلته، أي أن يقضي في البلاد الجديدة فترة طويلة من الزمن تجعله يشعر نوعا ما أنه أصبح تقريبا أحد أبنائها. إنها لحقيقةٌ أن المكوثَ في مكان السفر فترة أطول يعمّق لدى المسافر تجربة السفر، لكنه ليس شرطا دائما -كي يترك السفر أثرا عميقا في النفس- أن تكون مدته طويلة. ثمة رحلات قصيرة تترك هي الأخرى جرحها الحميم في الوجدان. إنه جرح ينزف عطرا وحنينا وشعرا وموسيقى. جرح يفتح مسامَ البشرة التي كانت مسدودة بالأتربة وهموم الحياة اليومية ومدى الرؤية المحدود الذي يسببه طول البقاء في المكان الواحد. هذا الجرح، وهي لغة مجازية بالطبع، هو نافذة الروح للتأمل والتلذذ واستعادة الذكرى والاستمتاع باللحظة المنقضية واللحظة الآنية. الوقوع في عشق الأمكنة خصلة روحية سامية، وفي الغالب فإن العاشق لا يدرك أنه واقع في العشق إلا بعد الابتعاد عن المعشوق. هنا تبدأ القراءة الذاتية للمكان الذي كنا فيه قبل السفر، أي موطننا الأم، لندرك أن كل ما يبدو لنا طبيعيا وعاديا ومن المسلم به هو مجرد عُرف خاص بمكاننا، ولكنه ليس بالضرورة "الصواب" أو "الخيار" الوحيد المتاح في الكون. إنه فقط استقرارنا على منظومة من المألوفات ما وَجَدتْ يوما من يهز ثقتها بنفسها، والسفر الحقيقي هو ذاك الذي يعيد النظر إليها ويشاكس استقرارها وطمأنينتها الراكدة.

أهدتني رحلتي إلى بولندا عام 1997، وهي السفر البعيد الأول في حياتي، ما لم أتوقعه يوما من مفاجآت، وفتحت لروحي منافذ ونوافذ ما كنت حتى أدرك أنها موجودة. لأول مرة أرى هواءً لونه أبيض! نعم، كان للهواء لون، ولا زلت لغاية الساعة لا أدرك حقيقة هذا اللون الأبيض للهواء الذي تكتنزه ذاكرتي. كم كان رائعا أن تلدغني لذعة برد آخر الليل وأنا عائد لغرفتي لأنام. كم كان "دافئا" ذلك البرد اللاذع. كم كان جديدا عليّ أن لا أرى العمالة الآسيوية حولي في كل مكان، فلأول مرة أدرك أن الحياة مع كل هذا العدد من الآسيويين هو ليس بالضرورة قدر جميع الأمكنة، وأنه ربما شأن غير صحي ببلادي--وأنا الذي عمري لم أنظر إليه يوما نظرة تساؤل أو تفحّص. لقد ولدتُ وكان الوضع هكذا، فلم أنتبه لأتساءل هل كان عليه أن يكون هكذا حقا. كم هو منظر لا ينسى كتابات ورسومات الشباب على دورات المياه -والممر المؤدي إليها- في النادي الليلي في تلك المدينة الضاجة بحياة الليل. إن هنا لونا من التعبير لم أألفه. ما أجمل المدينة القديمة هنا -التي لا تدخلها السيارات-، وما أعرق جامعة وارسو التي دخلتها دون أن توقفني بوابة وحرس مدججون بالمسدسات. يا للنظرة الأولى الشقية الفرِحة بالجديد. لقد سِرت في الشوارع ودخلت المسارح وعشت أجمل أربعة عشر يوما في مرحلة العشرينيات من عمري، وحين وقفت أمام النار المشتعلة دوما عند ضريح الجندي المجهول الذي يجسد بطولات الشهداء البولنديين الذين سقطوا بمئات الألوف لتحرير بلادهم في الحرب العالمية الثانية، خُيّل إلي أنني قرأت اسمي بينهم! لم أكن أدرك عند عودتي لمسقط، أنني كنت سأتغنى ببولندا لأشهر طويلة أضجرتُ خلالها الأصدقاء في لقاءات الليل التي كانت ما تزال حميمة آنذاك، فقد سئموا من حديثي عن بولندا وكأن "سُرّتي قد قُطِعت هناك" كما عقّب أحدهم! إنه السفر الحقيقي، لا العابر، هو ذاك الذي يبدأ بعد العودة للوطن، وهو ما حصل معي في التجربة البولندية، مثالا لا حصرا، والذي ما زلت أراه يحصل للأصدقاء حين يسافرون بلهفة للقاء أماكن يحبونها أو أخرى جديدة عليهم، لاسيما تلك الأماكن التي سمعوا طويلا عنها وتأخرت زيارتهم إليها.

No comments:

Post a Comment

Note: Only a member of this blog may post a comment.