31 October 2014

وجهي القبيح

وجهي القبيح




بمناسبة الهالوين..
سأريكِ الليلة يا حبيبتي وجهي القبيح!
أعلم أنك كنتِ تتطلعين لهذا في الخفاء في عتمات روحكِ.
أمّا أنا..
فلطالما أردتُ أن أحز عنقك بطرف لساني
وحين يتضرج بالدم..
أحشره في خزان دمكِ الحرام.. الخزان الذي طالما عذبتيني بالحرمان منه.
أنا الدراكولا خاصتك هذه الليلة.
شفاهي دماء. عروقي دماء. ولا شيء في رأسي إلا الرغبة.
سأخمشكِ بأظافري.. أسوأ من قطٍ نذل، كان خطأُ أُمّهِ أنها لم تلتهمه وهو حديث الولادة!
سأخضّب الغرفة بعَرَقي.. والسماء ستمطر حمضا يذيب الأجساد.
وسأحول نهديكِ إلى نوتيللا.. ذائبةً ألَغْوِصُهَا بأصابعي العشر.
حتى عانتكِ قد أنتفُها وأتعمدُ أنْ آلمكِ، إذا لم تؤلِمِي عانتي بما يكفي.
أنا الشر الليلة.
أنا الجوع. أنا اللزوجةُ انقذفتْ على عينينكِ الصابئتين. أنا مسمارُ الرحمةِ في نعشِ الجسدِ الظامئ.
أنا من سيدغدغ باطنَ قدميكِ باللعق حتى تحتارين هل تركليني أم تعصريني.
أنا صليبٌ ﻷلفِ مسيحٍ يبحثُ عن الخطيئة.
أنا مُستَقَرُّ الحليبِ المتقاطر، المعصورِ عنوة.
أنا حيثُ تستريحُ تأوهاتكِ الوحشية.. وحيث ينبتُ العشبُ الطالما اشتاقَ للمطر.
انعصدي الليلةَ كمن تتشهى دورَ المغتَصَبة.
أنا الغاصبُ فلتتشقق الشمسُ من صرخاتنا البرية.. وتسقطَ على الأرض ساعةُ الحائطِ--مفككة الأزرار.
الليلة يا حبيبتي سأريك وجهي القبيح.. الطالما اشتقتي إليه.
الليلة أنتِ الملاكُ الذي سيقتلني بدم بارد، بكل حرارةِ الكونِ التي أحبها فيك.

21 October 2014

عن أمهاتنا في الطفولة التي عشتها

نساء في زمن البساطة!


قضى والدي –رحمه الله- آخر عشرين سنة من حياته في السعودية، عاملا بسيطا كغالبية أبناء جيله، يكدح لتنشئة عائلة في دواخل عُمان؛ البلد التي لم يكن يتسنى له أنْ يزورها إلا مرة في السنة لأقل من شهر (وقطعا كان أكثر حظا من غيره في هذا). قبل السعودية كان أبي قد عمل في قطر والكويت بأعمال أكثر مشقة منذ كان مراهقا. أما أمي فلم تزر السعودية إلا عندما أصيب أبي بنوبة قلبية أدخلته العناية المركزة لعدة أيام، وزارتها لاحقا للحج والعمرة. في ذلك الزمن، لم تكن البنوك موجودة أصلا في ولايتنا، ولذا كان أبي –حاله كحال مغتربي عُمان في دول الجوار- يرسل مبلغا سنويا أو نصف سنوي مع أحد رفاقه العمانيين المغتربين. يأتي الرجل بالمبلغ نقدا يسلمه كأمانة إلى أهل الرجل الآخر المغترب—الذي هو أبي في هذه الحالة.

هكذا عندما كان سالم بن علي القيوضي –أعز أصدقاء أبي- (أعطاه الله الصحة أو أسبغ عليه رحمته إنْ كان قد غادر دنيانا).. أقول عندما كان القيوضي –طيّب الله ذكره- يعود من السعودية إلى بلدته في نفس ولايتنا، كان يأتي للبيت لتسليم الأمانة عندما تسنح له ظروفه. لم يكن هناك هاتف لنعرف أن الرجل سيزورنا اليوم أو غدا، ولكن لعل أحد أبناء تلك البلدة يزورنا او يزور جارا لنا فنستعلم منه أن القيوضي قد وصل، ولأنه يحمل أمانة فسوف يحرص على تسليمها في أقرب فرصة متاحة لديه. كنا جميعا أطفالا. وأكبر أخوتي كان مراهقا. وكانت الحال بسيطة. ولم تكن الفواكه تتوافر في البيوت إلا في الأعياد وعند وصول نبأ أنّ ضيفا سيحل على بيت من بيوت القرية. لذا كان الرطب أو التمر (حسب الموسم) والقهوة الطازجة هي كل أدوات إكرام الضيف. وإذا توافر السفرجل أو الموز العماني فتلك مائدة فاخرة. لم يكن في هذا "الحال البسيط" غضاضة بين الناس البسطاء المتكافلين المتراحمين. فالجود بالموجود. ولكن أمر الجود لا يقف هنا فحسب، فزيارة ضيف لبيت أحد من أبناء القرية كانت تعني تكاتف القرية كلها لضيافته. هذا هو الشيء الجميل الوحيد الذي أستعيده من حياة القرية، وهو شيء أتذكره بمناسبة يوم المرأة العمانية. فالحكاية كلها هي حكاية امرأة ودورها في المجتمع وصلاحياتها آنذاك والآن.

عند وصول الضيف القادم من بلدة أخرى، ستعرف الحارة جميعها أن بيت (ولاد قوم فلان الفلاني) جايينهم خطّار. الكل حاله واحد، أو متقارب، من مُتع الدنيا. ولكن الكل سيبذل أفضل ما لديه. بيتٌ من بيوت الجيران سيرسل دلة قهوة صنعوها للتو. بيت ثانٍ سيرسل وجبة دنجو و "سِفّ خبز" بلدي. بيت ثالث سيرسل السفرجل، وربما عنبا محليا، وربما الجح. وسيأتي أقرب الجيران الشيّاب لاستقبال الضيف لأنه يعتبره كأنه قادم لبيته، فهذا الجار نفسه يعتبر أن بيتنا هو بيته ولذا من واجبه الترحيب بالضيف. ولكن قبل وصول الجار تكون أمي قد استقبلت الضيف وصافحته وهي تلف يدها بطرف "الوقاية" التي ترتديها، وأدخلته المجلس ورحبت به، وسألته عن العلوم والأخبار وعن جديد أهالي بلدته جميعا. بعد القهوة سيسلم الضيف الأمانة التي جاء من أجلها. مبلغ المال الذي جاد به الزمن على والدي. و كيسا من الهيل. و مَنٌّ مِن القهوة (المَن: وحدة تعادل أربعة كيلو)، كلها مرسلة من أبي. وقد يكون هناك كيلو هيل من نوع آخر هدية من الضيف نفسه. أو نوع من الدنجو الملون الجاهز للأكل كهدية من الضيف للعائلة وتفريحة للأطفال. المشهد إجمالا هو التكاتف والإخاء في أنبل صوره وأطهرها. ستكون الصورة واحدة سواء كان الضيف ضيفنا نحن أم ضيف الجيران. الكل سيؤدي ما يؤمن أنه واجبه إزاء حقوق الجيرة. ولن يلوم أحدٌ امرأة أنها جلست مع الضيف. بل سيشيد بها الكل أنها تصون بيتا كاملا في ظل غياب الأب—فما أكثر البيوت التي كانت كبيتنا بأب غائب حاضر وبأم هي تجسيد للمهارة والكفاءة في إدارة شؤون عائلة تتكون غالبا من سبعة أطفال إلى اثني عشر طفلا!

في ذلك الوقت، أي ما تستعيده ذاكرتي من ذكريات أواخر السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، كانت المرأة العمانية لها كلمتها في محيطها. كانت تستقبل الضيوف تماما كما كان سيفعل زوجها الغائب، بذات الترحاب وحسن الضيافة. كانت تذهب للحقل وتعود جالبة البرسيم وطعام الحيوانات على رأسها. كانت تذهب تروّي الماء و الهاندوّة على رأسها. وفي بعض القرى، كانت تخاشم الرجال كما يفعل الرجال مع بعضهم البعض. كان هناك تقاسم قديم للأدوار بينها وبين الرجل فرضته ظروف المجتمع الاقتصادية والتاريخية قبل أن تفرضه العادات والتقاليد. باختصار، كانت المرأة ذات مقدار معقول –وفقا لطبيعة زمنها- من الأدوار القيادية فيما يتعلق بالبيت والعائلة. وكانت كثير من ممارساتها الفطرية عادية وغير مستنكرة. لم تكن العباءة بالطبع موجودة، والبرقع كان لظروف محددة مؤقتة فقط في الحياة الريفية والحضرية وليس شيئا يتم ارتداؤه طوال اليوم. لم يكن البرقع أداة قمع متعمدة، بل كان مجرد جزء تقليدي من زي بعض المناطق. اليوم، ذهبت الكثير من هذه الأشياء أدراج الرياح، وتحاول شابة اليوم استعادة بعض مناخ "المشاركة في لعب الأدوار القيادية" كما كانت تفعل أمهاتهن. اليوم اختفت المصافحة، أو بالأحرى تقلصت، بينما كان مخاشم المرأة للرجال لا غبار عليه قبل 30 عاما! واختفى البرقع التقليدي كزي تقليدي، وفُرِض مكانه على بعض النساء نقاب أسبابه دينية وإقصائية وعنصرية، وصارت هؤلاء العواجيز أنفسهن يرتدين قفازات سوداء بعد أن كانت سواعدهن مشَّمرة للعمل في الحقل! حتى بعض الأمثال الشعبية التي كانت تستخدمها النساء في حوارهن اليومي العادي، لو استخدمها أحد اليوم لبدت صاعقة، وأترك هنا لمن هم في مثل عمري وأكبر أن يتذكروا بعض الجمل الشعبية التي لم تعد نساء ورجالات اليوم يستطيعون تبادلها في حواراتهم العامة.

ليس الأمر هنا تباكيا على الماضي أو تقليلا من شأن الحاضر. ولكنه استعادة لزمن كان أكثر فطرية وتسامحا حين لم يكن ذوو اللحى الكثة قد تناسلوا وسمموا المجتمع بأفكارهم حول الحلال والحرام. كان الناس يعرفون الحلال والحرام بدون مشايخ الفضائيات وبدون أطنان من الرجال بدشاديش قصيرة ونوايا خبيثة شديدة الطول. لأن أمثال هؤلاء قد توغلوا في حياتنا، تضاءلت البراءة. فحين تنتشر الذئاب تصبح الحملان كثيرة التلفت خوفا حولها، وقد تُؤْثِر عدم الخروج إلى المراعي الخضراء. أما حياة الدعة الحالية لكلا الرجل والمرأة، فأدت إلى ضياع ما كانت تمتلكه المرأة من ثقل في اتخاذ القرار بشأن حياة أسرتها، لأن دورها قد تضاءل بوجود أكثر من نصف المتزوجات مَعيلات من قبل الزوج حالهن كحال الأطفال والقُصر. بينما لم تكن أمي ونساء جيلها يعتمدن الاعتماد الكامل على ما يبعثه أبي سنويا أو كل ستة أشهر مع القيوضي من السعودية، بل كانت لديهن أبقار وأغنام ودجاج تلبي احتياجات العائلة جزئيا، وكن يعملن في الحقل. كن يساهمن في نصف اقتصاد المنزل. الحظ الأوفر اليوم لتحقيق الذات واستعادة أدوار المرأة المُشارِكة في اتخاذ القرار في مجتمعها وعائلتها هو في يد النساء العاملات المستقلات اقتصاديا والواعيات فكريا، المساهِمات بدخلهن في الإنفاق على الأسرة في احتياجات الأسرة الفعلية، وليس من ينفقن مرتبهن في شراء سيارة فاخرة منذ أول يوم للتعيين ويصرفن فيها ثلاثة أرباع المرتب، ويبقين لآخر الشهر معولات كليا من قبل أزواجهن كالأطفال والقُصّر! بلا مشاركة اقتصادية فاعلة في إدارة شؤون العائلة اليومية، لن تتحقق للشابة اليوم القدرة الكاملة على أخذ دور مهم في تقرير مستقبل العائلة ومصيرها، ولن تتمكن من فرض كلمتها وتعزيز موقفها المستقل في اختيار خياراتها بعيدا عن وصايا الرقباء والفضوليين وأصحاب الدشاديش القصيرة والنوايا الخبيثة الطويلة.

12 October 2014

ما خفي عن عيون ركاب الطائرات

ما خفي عن عيون ركاب الطائرات!


نسافر في الطائرة مطمئنين، لا نعرف غير رقم مقعدنا، وربما كانت لدينا رفقة صغيرة من الأهل أو الأصدقاء، وربما كنا بمفردنا. ربما نكون –كأغلب الناس- محشورين في كراسينا الضيقة في الدرجة السياحية، وربما نكون مرفهين في درجة رجال الأعمال. كل ما نعرفه ان الرحلة تستغرق عددا محددا من الساعات. وأنه ستأتينا وجبة طعام بعد قليل. وأنّ لدينا خيارات من برامج الفيديو والأفلام والإذاعات المسموعة لنتابعها. نحاول في الرحلة أن نستجلب الراحة ونبعد عنا المنغصات. أنْ نتجاهل مثلا، احتمالية تعرض الطائرة لمطبات هوائية (أو ما هو أسوأ)، كما نتجاهل ثرثرة من يجلس خلفنا فيما نحن نحاول النوم. بل نحاول حتى أن نتجاهل كرسي الشخص الجالس أمامنا حين يميل به للخلف ليرتاح فيحشرنا في محيط ضيق لا نستطيع معه التنفس. نشغل أنفسنا بكل ذلك وقد لا تخطر ببالنا أسئلة أخرى. هل ثمة شيء تخفيه هذه الطائرة عنا؟ مَن يسافر أيضا على المتن؟ وهل جميع ركاب هذه الطائرة هم من الأحياء؟

لعل أكثر فكرة مخيفة لكثير من الناس، هي أن يتخيلوا أنهم خارجون في رحلة وبرفقتهم جثمان شخص ميت. لكنّ هذا أمر واقع في الكثير من الرحلات. جثث الموتى المجمدة تحملها الطائرات في الرحلات العادية. ليست هناك طيارات أو رحلات خاصة لنقل جثامين المدنيين. لكن هناك متسعا في الطائرات التجارية لجثمان ميت، وليس نادرا أن نسافر في رحلة مع شخص متوفى يُشحَن جثمانه إلى الهند أو الفلبين أو أية وجهة أخرى. يحدث في الحقيقة أحيانا، ولكن بشكل نادر، أن يتوفى شخص داخل الطائرة. يقع هذا غالبا لكبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة، ولذا فإن الطائرات يُسعدها أنْ يكون على متنها طبيب من بين المسافرين، فهو يُسعف في حالات كثيرة. وعلى عكس وفاة أحدهم، يحدث بشكل نادر جدا أن تضع سيدة مولودا مبكرا داخل الطائرة! إن ركوب النساء الحوامل للطائرة ممنوع منذ الشهر السابع وأحيانا السادس في بعض شركات الطيران، لكن هناك نساء جيدات في إخفاء الحمل (خصوصا المسافرات لأمريكا ليضعن مولودهن هناك كي يحصل على الجنسية الأمريكية تلقائيا)، مثلما هناك أجنّة مستعجلون للخروج إلى العالم. ترى ماذا يُكتب في خانة (مكان الميلاد) في جواز سفر طفل تمت ولادته في السماء؟

لوحات تشكيلية ثمينة وذات قيمة تاريخية كثيرا ما تسافر معنا في الطائرات. هذه اللوحات تكون مسافرة لمعرض فني سيقام بإحدى البلدان. لن نعرف يوما عن لوحة مسافرة في طائرة إلا في حالة واحدة: إذا سقطت الطائرة وتحطمت! عدا ذلك فهناك مبلغ تأمين كبير لسفر اللوحات، وينبغي أن يظل أمرها  سرا خشية وصول الخبر للآذان الخطأ! يسافر أحيانا أشخاص مشهورون معنا في نفس رحلاتنا دون أن نعرف بوجودهم، هم بشهرة اللوحات الثمينة أو أكثر. مطربون وممثلون وكتّاب وشعراء يكونون –غالبا- في الدرجة الأولى. يحرص طاقم الطائرة على إبقاء وجود هؤلاء سرا، كي لا يتدافع عليهم المعجبون طلبا للتوقيع فتحدث فوضى قد لا تكون محمودة العواقب.

وماذا عن المسدسات والأسلحة؟ هل هي ممنوعة حقا لدى كافة المطارات وشركات الطيران؟ الحقيقة، كلا! المسدسات مسموحة لدى كثير من شركات الطيران حول العالم، ولكن بضوابط. يجب أن يكون المسدس مرخصا ومسجلا باسم صاحبه. وأن يتم الإبلاغ عن وجوده في استمارة خاصة بشركة الطيران. وأن يوضع المسدس في شنطة الشحن وليس في الحقيبة اليدوية. وأن لا يكون محشوا، بمعنى أن تُستخرج الرصاصات منه وأن توضع بجواره وليس داخل المسدس. وأخيرا، أن تكون الرصاصات مصنوعة من المعدن، وليس من مادة قابلة للإنفجار. وقبل كل هذا، أن تكون وجهة السفر تسمح بإدخال المسدسات إليها!

تحوي الطائرات أيضا أدوية مشحونة لإحدى البلدان، وتحوي أحيانا عينات من دم شخص مريض مُرسلة لأحد المختبرات الطبية في الخارج لفحصها وتحليلها. الجزئية الأخيرة ليست نادرة الحدوث في السلطنة، فعند ظهور أعراض مرض مجهول تُرسل عينة من دم المريض للفحص في مختبر إحدى الدول الأوروبية. تُنقل في الطائرات كذلك أعضاء بشرية مرسلة للزراعة في جسم مريض آخر. أيضا يُشحن في الطائرات الرسائل والطرود البريدية، وإذا كان معظم الناس يستخدمون اليوم البريد الإلكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي للتواصل مع ذويهم عبر البحار، فكم ساهمت الطائرات في الماضي في ربط شمل الأسر والاصدقاء وفي "جمع رأسين في الحلال"!

يحاول كثير من الناس تهريب أشياء ممنوعة داخل الطائرات. هناك من يحاولون تهريب حيواناتهم الأليفة (القطط والكلاب الصغيرة)، وهناك من يحاولون تهريب كائنات أكثر خطورة، مثل الثعابين وصغار التماسيح! وثمة من يحاولون تهريب الآثار وبعض التحف والهدايا النادرة. هناك بالطبع تهريب المخدرات الذي ينجح في بعض الأحيان. وهناك تهريب البشر بجوازات سفر مزورة. أما من أغرب الأشياء الممنوعة على متن الطائرات والتي تعرضتُ لها شخصيا، فهي عدم السماح بتمرير المكسرات غير المحمصة إلى أستراليا. إن استراليا جزيرة، وهي –حفاظا على بيئتها الخاصة- تمنع استقدام أية نباتات قابلة للزراعة في أراضيها إلا التي تستوردها الشركات المرخصة لمزاولة هذا النشاط. أما الأفراد فُيمنع عليهم جلب أية مواد قابلة للاستزراع، ومنها المكسرات النيئة، حتى ولو كانت هذه المكسرات تباع أصلا داخل أستراليا. في مرة من المرات كنت أحمل تمرا على هيئة كرات مزينة كل واحدة منها بحبة لوز، ومغلفة كهدايا في علب أنيقة. تم مصادرة هذه الهدايا مني التي أحملها لأصدقائي الأستراليين بحجة أن اللوز الذي على التمر قابل لإعادة الاستزراع، مع أن نفس نوعية هذا اللوز النيئ تباع في أستراليا! تفهمت الأسباب (نوعا ما)، ولكني كنت حزينا على هدايا التمر الفاخر التي سيأكلها موظفو المطار بشراهة وينحرم منها أصدقائي الأستراليون. على أية حال فهذا ليس أغرب شيء تمنعه مطارات أستراليا. فعند الوصول ينظرون إلى حذاءك، لو كنتَ قد خضتَ به في الوحل قبل صعودك للطائرة فلن تدخل به أرض أستراليا، خشية أن تكون هناك بذور أعشاب عالقة به قد تنمو في جزيرة أستراليا! أيها المسافر، ادخل إلى أرض الكنغر بحذاء نظيف وإلا فلتدخل حافيا!

11 October 2014

زوجي العزيز.. أريدك فاشلا محطما

زوجي العزيز.. أريدك فاشلا محطما!


يتساءل الرجال عن تفسير لسلوك يرونه شائعا لدى النساء، ألا وهو –ما يعتبرونه هم- اختلاقَ المشاكل في ذروة انشغالات الرجل الوظيفية والمهنية، أو في الظروف الصعبة الطارئة مثل أن يكون الرجل منغمسا في تأسيس مشروع جديد أو في دورة تدريبية أو، أحيانا، حتى وهو يقضي رحلة ترفيهية صغيرة نادرة الحدوث في عطلة نهاية الأسبوع مرتب لها سلفا مع رفاقه الذكور. يتساءل الرجال عن أي شيء ذاك الذي يجعل النساء أكثر رغبة في إفساد عملهم أو بهجتهم بمشكلة مفتعلة تحديدا في الوقت الذي يشعرون هم فيه بالحاجة إلى التركيز فيما يعملونه وإلى دعم الشريك لهم. يتهم الرجالُ النساءَ هنا بأنهن قاسيات وغامضات، وأن ما يفعلنه ببساطة –من اختلاق لمشكلة في ذروة انشغالات الرجل- ما هو إلا سعي لإفساد نجاح الرجل. وما يثير حنق الرجل وحيرته هو: أليس من المفروض أن يكون نجاحه نجاحا للعائلة كلها؟ فلماذا إذن تُشن عليه الحرب من أقرب المقربين إليه؟

لعل الفكرة تحتاج بعض الأمثلة للإيضاح، علنا نفتت معا تفاصيل المشهد ونعرف ماذا يجري بالضبط. هو ذا شخص اسمه "خالد" كان يسعى لدورة تدريبية مكثفة في مجال عمله، وكان يشتكي من التجاهل في العمل من قبل رؤسائه، ولذا عنى له شأن الحصول على الدورة شيئا مهما لإثبات الذات وفرصة للترقية. كانت زوجة "خالد" على فهم كامل لحاجة زوجها لهكذا دورة تدريبية. وكانت في حقيقة الأمر قد ساهمت في تشجيعه لنيل ما يريد من فم الأسد. كانت داعمة له إلى أن جاءت الدورة التدريبية لتصبح –لاحقا- وكأنها أكثر من يتمنى إفشال الأمر!  في اليوم الثالث للدورة التدريبية المكثفة التي عقدت في مسقط وكان مقررا لها أن تستمر أسبوعا واستلزمت التركيز و"الدوام" صباحا ومساء، بدأت الزوجة –التي تعيش في "البلد"- بالتذمر من "غياب دعم" زوجها لها وأنه لا يعبأ بها وأنه "سبب حزنها في الحياة"! لم يكن أي شيء قد استجد في حياتهما سوى أن أمها قد مرضت خلال تلك الفترة، وقد رأى "خالد" الأمر في إطار العادي لأنه متوقَعٌ من كبار السن أن يمرضوا، لاسيما أن في عائلته بعض المرضى المزمنين ومع ذلك فالحياة دائما تسير ولا تتوقف. إلا أن مرض الحماة، على ما بدا لـ "خالد"، هو الذريعة التي اتخذتها زوجته لخلق مشكلة أسرية أثناء خوض الزوج لتحدٍ رئيسي في حياته كان يتمنى أن تكون زوجته خير داعم له أثناءه—على الأقل لأنها كانت تدعم الفكرة لحين تحققها!

ثمة مثال آخر يخص صديقا لي. توقف "أبو محمد" عن التدخين. كنت أعلم أنها رغبة قديمة لديه لم تواتِه الإرادة الكاملة لتحقيقها إلا خلال هذه الفترة. إلا أنه فاجأني بالقول: تصور إن زوجتي زعلانة عشان تركت التدخين!
لماذا؟ (سألتُه)، فأجاب: تقول إنها زعلانة لإنها ما كانت هي السبب وراء تركي للتدخين، وإنما كان ولدي "محمد" لإنه كل يوم يجيب لي من المدرسة منشورات عن أضرار التدخين. أنا استحيت من ولدي وحبيت أكون قدوة حسنة. بس المدام زعلانة. هي دومها ما يرضيها إلا إنها تكون وراء كل شيء في حياتي حتى لو ما صحيح. ليش هذا كله؟
أما "ليش هذا كله"، فذا هو سؤال الأسئلة جميعها!

الفروقات في السلوك وأنماط التفكير وردود الفعل على الموقف الواحد كبيرة جدا بين الرجال والنساء، وهذا ما حدا بالدكتور "دون جري" إلى القول أن "الرجال من المريخ والنساء من الزهرة"، ولكنه أيضا قال أن التقليل من الفروقات ممكن من خلال إدراك وجودها. أي إدراك أننا حقا جنسين مختلفين وأن استجابتنا للموقف الواحد من الطبيعي أن تكون مختلفة. بعض جوانب الاختلاف تعود لاختلاف الجنس نفسه وما يعنيه ذلك من اختلاف وظائف الدماغ وقدراته واختلاف الهرمونات والمركبات الكيميائية بين الذكر والأنثى. إلا أن ثمة اختلافات أخرى تلعب فيها الثقافة والمجتمع دورا أكبر. من ضمن هذه الاختلافات رغبة المرأة في أن تكون دوما مركز اهتمام الرجل، وأن تشعر أن لها الفضل في ما يصل إليه. وعلى النقيض من ذلك فإن ما يطلبه الرجل هو بعض المساحة وعدم سرقة منجزاته وإعفاءه من الإحاطة بالحب المطوِّق الخانق. إن علامة الحب التي يطلبها الرجل من المرأة هي المسافة النفسية البسيطة لكي يستطيع التنفس، لأن الالتصاق به يقتله ويلغي فردانيته وإحساسه الغريزي بأنه قادر على إنجاز الأشياء بنفسه. الأمر عكس ذلك بالنسبة للمرأة، فعلامة الحب لديها هي الوصال، وأن يكون الرجل قريبا أكثر يصغي إليها. ليس هناك "صح" أو "خطأ" في هذه المشاعر والسلوكيات. إنهما نمطان مختلفان من أنماط التعبير عن ذات الشيء: الحاجة إلى الحب والتفهم والقبول. ولكي لا نخرج عن الموضوع فلنجرب معا إسقاط هذه الفكرة وتطبيقها على المثالين اللذين سقناهما أعلاه. بالنسبة لمثال "أم محمد" مع زوجها الذي ترك التدخين: يبدو لي طبيعيا جدا أن يندهش الزوج مما طرحته زوجته. ذلك أن مشروع ترك التدخين خياره هو، وهو من نفذ الأمر بإرادته لأسباب موضوعية معينة ساهمت في دفع الأمر للحدوث. لماذا إذن ينبغي أن يُنسب هذا للزوجة؟ أليس في حياة هذا الرجل كائن آخر يراه ويعمل معه ويتحدث إليه سوى زوجته؟ هل على الزوجة بهذا المعنى أن تزعم أنها هي من عيّنه في الوظيفة وأنها سبب غزو العراق وأنها من سيحل مشكلة ظاهرة الاحتباس الحراري؟! تبدو كل هذه شطحات قد يستغرب القارئ (لاسيما القارئات العزيزات) أنني أجلبها في هذا السياق. إلا أن الأمر يبدو هكذا لـ "أبو محمد" لأنه قد فقد الخيط المنطقي في فهم رغبة زوجته في "سرقة نجاحه" ونسبته إليها. ذلك ما يفكر فيه هو، وما دام الأمر كذلك فإنه لن يبدو غريبا عليه أن تدعي زوجته أي شيء آخر مهما شطحت الأفكار، كأن تكون هي مثلا سبب حدوث إعصار جونو ما دامت هي السبب وراء كل شيء! ما فات صديقي أن يلاحظه هو أن زوجته مشارِكة حقيقية في مسألة توقفه عن التدخين. فهي قد احتملت تدخينه سنوات صابرة قليلة التذمر، ولم يكن ليضيرها ان تُقدَّم لها كلمة شكر وتعبير عن الامتنان على صبرها وتحملها تلك الرائحة العفنة في البيت. إن صفعة اللاعرفان هي ما يفاقم الأمر، وذلك لأن التجاهل يجعل المرء مبالِغا في التمسك بحقه. كان حريا بـ "أبو محمد" حين اتخذ قرار التوقف عن التدخين أن يبلغ زوجته عن ذلك أولا ويطلب مساندتها في الآمر، مؤكدا لها أنه بلا دعمها فسيكون الأمر قاسيا عليه. وكان عليه أيضا أن يشكرها على تحملها لتدخينه. من المؤكد أن ردة فعل "أم محمد" كانت ستختلف وستقول له: "أنت قادر على فعل ذلك. أثق بقوة إرادتك لأنك دائما مثابر وعزيمتك قوية، وهو أمر ستتغلب عليه بمقدرتك لأنك قادر على فعله". لكن ذلك لم يحصل، لا صديقي شكر زوجته وأطلعها على الأمر مسبقا، ولا هي شدت على يديه، بل هي تجاهلت مشروع توقفه عن التدخين لأنه قرار فردي تم تجاهلها في اتخاذه. إن المشكلة هي أننا حقا من كوكبين منفصلين، ولن يعرف أحد ما يريده الآخر أو كيف يتصرف الآخر. على أية حال فإن ما حدث على أرض الواقع هو عودة "أبو محمد" للتدخين (وأراهن أن أحد أسباب ذلك هو أنه قد فهم أن زوجته غير داعمة له ولا ترى أن ما قام به يستحق الاهتمام والتقدير)، ومن المؤكد أن "أم محمد" قد شعرت بالأسف على عودة زوجها للتدخين، وهو أسف لن يفهم صديقي سببه بل سيقول: "لا التوقف عن التدخين عاجبنك ولا الرجوع إليه عاجبنك، شو يعجبك بالضبط؟"! إن المؤسف حقا هو أننا نستخدم لغتين للتعبير. فلا "أم محمد" تتمنى زوجها مدخنا ولا هو يحب أن يبقى مدخنا، لكن سوء التفاهم هو ما قاد إلى خلق المشكلة.

المشكلة الأكبر هي لدى صاحبنا "خالد" الذي يخوض دورة تدريبية مكثفة صعبة في مسقط، فيما تخبره زوجته في "البلد" أنها "تفتقد دعمه وأن هذا يسبب لها الحزن". لم يستطع خالد أن يفكر في هذا إلا باعتباره هجوما موجها ضده بلا سبب وفي وقت حرج جدا يحتاج فيه إلى التركيز الكامل لينجح ويثبت ذاته. خالد لا يفهم لماذا هو مُدان وما المطلوب منه. لقد فهم أن حالة والدة زوجته مستقرة، ولذا لم يأتِ فورا من مسقط تاركا الدورة التي حلم بها وسعى إليها طويلا. إن ما يراه "خالد" أنه الآن يتم عقابه لأنه يريد تحقيق وضع أسري أفضل له ولزوجته وأبنائه. تشوّش ذهن خالد واستحضر حالات سابقة تم فيها تأنيبه لأنه يقوم بالشيء الصح. ولأنه كان وحيدا في مسقط فقد طلب تفسيرا من أصدقائه هناك، إلا أن الجميع أكدوا له أن "النساء دائما هكذا، ناكرات للجميل وخالقات للمشاكل في اللحظات الحرجة. وعليك أن تتعايش مع هذا كواقع إذا كنت تريد لحياتك الزوجية أن تستمر".

لم يفهم "خالد" الموقف كاملا بعد، ووقت الدورة المكثفة لديه لا يسمح له بالفهم، لكن كل ما يعرفه أنه قد تم إزعاجه لسبب لا يفهمه، وأن التذمرات كان بإمكانها أن تنتظر حتى يعود للقرية في عطلة نهاية الأسبوع. كل ما فهمه خالد إلى الآن أن زوجته التي تحبه لا تمانع في ذات الوقت أن تكون مصدر متاعبه. لا شك ان في الأمر خللا أو شيئا غير مفهوما، لأن هذا التناقض غير مقبول منطقيا.

لا يزال خالد يتساءل أين الخلل. ونحن معه أيضا. إلا أنّ ما نعرفه هو أن الصورة لا تزال ناقصة، فنحن لم نسمع صوت زوجته وزاوية نظرها للأمر. وإلى أن يحدث ذلك فلا ندري إلى أية درجة من السوء سيصل الأمر بخالد، فكل ما نعرفه عنه أنه قد أغلق هاتفه لأنه لا يريد إزعاجا حتى نهاية الأسبوع. لاشك أن "خالد" وزوجته بحاجة للمساعدة الآن لفهم ما يجري. فهل تستطيعون مد يد العون لهما؟ إن كان ثمة من يستطيع المساعدة فليتواصل معي بالرأي والتعليق، وإلا فلينتظر تتمة الحكاية في العدد القادم إن استجد فيها جديد!


*كُتبت في 30 يناير 2008، و نُشرت في وقتها في مجلة الرؤيا الشهرية.

01 October 2014

الإنسان العماني والدب البني.. وجبات العيد

العيد والدب البُني!


توضح مناسبات شهر رمضان والعيدين (الفطر والأضحى) أن الناس يقومون بجملة ممارسات تقودهم إلى كثرة التردد على المستشفيات خلال تلك الفترة. معظم الحالات المرضية التي تستقبلها المؤسسات الصحية خلال هاتين المناسبتين مرتبط بنتائج الإسراف في تناول الأطعمة، من آلام وانتفاخات في المعدة واضطرابات في الهضم وحالات غثيان وقيء وصداع ناجم عن عدم تنسيق الأوقات التي يتم فيها تناول الوجبات، فضلا عن ارتفاع ضغط الدم الفجائي لدى البعض –لاسيما أيام الأعياد- لكثرة تناول اللحوم الدسمة. ومع أن الناس يدركون أنّ ما يصيبهم مرتبط بتغذيتهم اللاحمة والشرهة جدا خلال هذه المناسبات والفترات، إلا أنهم لا يفعلون الكثير للتعلم من تجاربهم، إذ توجد قناعات أن هذه "الوعكات الصحية" هي ضريبة الفرح والابتهاج! إن استمرار هذه القناعات على هذا النحو عاما بعد عام هو دليل فعلي على ضعف الوعي لدى الأفراد بقضاياهم الصحية، وبما تلعبه التغذية من دور كبير في الحفاظ على صحة الناس أو الإساءة إليها وتسريع تدهورها.

لا ألوم الناس تماما حين يأكلون فوق طاقتهم خلال ليالي شهر رمضان –وهذا لا يعني أنني أتفق مع مسلكهم-، ولكني أرى في الأمر ردة فعل طبيعية للجسم بعد قضاء ساعات طويلة بلا طعام، إذ يكون الجسم بحاجة إلى تعويض ما فاته خلال تلك الساعات من أغذية –تتحول إلى جلوكوز- لتمنحه الطاقة التي يحتاج إليها للحركة والحياة. وإذا لم يكن هناك شيء يُمكن فعله إزاء مسألة الصوم، فإنه على الأقل على المرء أن يجتهد كثيرا في تنظيم طعامه خلال الليل، وذلك عن طريق خطوات بسيطة منها أن يفطر إفطارا خفيفا ثم يرتاح ساعة حتى تبدأ المعدة تستعد مجددا لفكرة استقبال الطعام وهضمه بمختلف الأنزيمات التي تفرزها. وأنْ يكون طعامه بقية الليل خفيفا، وأن تكون وجبة السحور هي الأخرى خفيفة لا تتضمن مطلقا الرز واللحم. لكن ما يفعله غالبية الناس عكس ذلك، إذ يتحول كثير منهم –مدفوعون بغريزة دفاع الجسد عن ذاته إزاء نقص التغذية الحاد الذي يتعرض له خلال النهار-، يتحولون إلى ما يشبه أسراب الجراد في التهام الأخضر واليابس، وينتهي المطاف بكثير منهم إلى المستشفيات التماسا للعلاج مما أحدثه في أجسادهم هذا التزود الفجائي بقدر كبير جدا من الطعام.

يتكرر الأمر، بصورة أكثر تكثيفا وسوءا، خلال أيام العيد الثلاثة أو الأربعة (وفقا للولايات)، وكلما طالت أيام العيد وإجازته كانت المشاكل الصحية أسوأ. فلنقل أن رجلا يزن حوالي 100 كيلو جرام، فإن وزن هذا الشخص يحتاج يوميا إلى حوالي 80 جراما من البروتين يمكن أن يحصل عليها من اللحوم الحمراء والبيضاء والأجبان والبيض والأسماك والمكسرات وبعض البقوليات مثل الفول. ولنعلم أن شريحة لحم وزنها 100 جرام تتضمن حوالي 42 جراما من البروتين، والبقية ألياف وماء ودهون. شريحة لحم ذات 100 جرام كافية كحصة يومية من البروتين لشخص يزن 100 كيلو جرام، لأنه سيأكل إلى جوارها البيض للإفطار والفول للعشاء وغيرها من الأغذية التي تُوفر له نسبة البروتين المطلوبة. لكن ما يحدث في عمان أيام العيد هو أن الفرد العماني –لاسيما الرجال- يأكل في اليوم الواحد عشرة أضعاف حاجة جسمه من البروتين، وحوالي خمسين ضعفا أو أكثر من حاجة جسمه من السكريات. سأقول حقيقة علمية صادمة: أيام العيد، يأكل الرجل العماني في المتوسط –في اليوم الواحد- ربع التغذية اليومية التي يأكلها دب جريزلي البني (دب ألاسكا الأسمر) حين يكون في ذروة ملء جسمه بالطعام وتخزين الدهون استعدادا لبيات شتوي طويل يدوم أكثر من ستة أشهر لا يأكل الدب خلالها شيئا ويستهلك –ليبقى حيا- مخزونَه من الدهون التي أكلها خلال فترة الصيف والخريف. وزن الدب الأسمر هو ثلاثة أضعاف وزن رجل عماني معياري، وهو يأكل كثيرا لأنه سيبقى ستة أشهر كاملة أو أكثر قليلا بلا طعام، فيما يأكل الكثيرون منا ربع ما يأكله في اليوم الواحد خلال فترة أيام العيد الأربعة! لو حسبناها بلغة السعرات الحرارية فإن استهلاك الرجل العماني المعياري في اليوم الواحد من الغذاء المكون أساسا من اللحم المُشحِم والحلويات هو حوالي 5000 سعرة حرارية في كل يوم من أيام العيد غنية بدهونها الضارة، أما دب جريزلي فيستهلك 20000 سعرة من سمك السالمون الغني بدهونه الحميدة! إننا لا نأكل فقط ربع ما يأكله حيوان يفوقنا في الوزن ثلاثة أضعاف ويستعد لصومٍ ليلَ نهارَ لمدة ستة أشهر، ولكنّ بعضنا يتفوق عليه في أننا نكنز أجسادَنا بالدهون الضارة والمشبعة فيما يكنز هو جسمه بالدهون الحميدة! لو كان هؤلاء دببة لما امتلأت مستشفياتنا بكل هذا العدد من المرضى خلال أيام الأعياد وشهر رمضان! إنها المفارقة الصادمة التي علينا أن نواجهها بشجاعة لكي لا نلقي كل اللوم في زيادة الحالات المرضية على الحكومة، إذ كيف يمكن مساعدة من لا يريد مساعدة نفسه؟!