28 August 2014

صالح العامري.. الشعر متجسدا كمعيشةٍ يومية

كُتبت في 21 أغسطس 2010م


صالح العامري



لا شك أنه سورياليّ حقيقي لم يكن لينتمي أبدا للحركة السوريالية لو كان قد عاش عند نشوئها. حين تنتصر الثورة فإنها تصبح سُلطة، وهو لا ينتمي لأية سلطة ولا يخضع لغير السير مُسَرنَما إلى حيث تقوده بصيرته. له بصيرة ملئى بالصور الفانتازية المذهلة. أظنه لا يرى الأشجار أشجارا، ربما يراها غربانَ أو جواميسَ أو نهودا فاتنة. عيناه تريان الأشياء مكسورة "كما يفعلُ الماءُ بالأصابع". يرى كل شيء إما من زاوية محدبة أو مقعرة، ولكن لا أظنه يرى شيئا كما نراه، فهو يمقتُ الاعتيادي. يقولُ: "الشوارع تبدأ وتنتهي./ متى لا تبدأ؟/ متى لا تنتهي؟". لا يرى الأشياء كما يراها الآخرون ليس لأنه مشوّشَ الفِكر أو مختلٌ عقليا، ولكن لأنّ له إجمالا صفاءً ذهنيا منقطع النظير. إنه يرى بأحشائه، لذا فهو يُبصِر الأشياء من الجوف، ويلقُطُ تحولاتها، ويصغي لما تقوله له وهي تسير به إلى "حفرة الضحك"، حيث يلهو بها –أي الأشياء- لاحقا في نصوصه، ويعيد تشكيلها كما يشاء. لديه عينان مختلفتان. له عينان حساستان لم تحتملا مرأى البوارج الحربية على شواطئ شناص، فظن أنها نهاية الزمان، وأنه ما تَصَوّرَ يوما أن يعيش ليرى ذلك اليوم. لا تطيق روحه أي شيء له علاقة بالسُلطة، أية سلطة كانت، ولذا فإن العَسَسَ أعداءٌ وليسوا حَفَظة نظام، ذلك أن الإبداع هو في كسر النظام لا في فرضِه، ويرى أن الأبَ قمينٌ بالقتل لأنه لا مكان للوصاية، أما الرقباء فهم بهاليلُ تتسلى بهم قصائده، ومخبرو الحانات بِركٌ آسنةٌ لابد من تحريكها آخر الليل بصرخةِ رفضٍ أو نكاتٍ استفزازية تحرك الطحالبَ المتخثرة على وجوههم.

يكتب بورتريهات كثيرة، لا نعرف بالدقة كيف يختار شخوصَها، وأثق أنه هو ذاتُه لا يعلم كيف يتم ذلك. بورتريهاته هي مرآتنا لنرى كيف ينظر إلى أصدقائه، وكيف ينظر إلى كل الموجودات من حوله. لا تتحدث بورتريهاته عن الناس كما يراهم غالبية الناس، ولكن كما يعيد هو إنتاجهم في بوتقة مشاعره المضمخة بالوفاء للصديق، وبالتغاضي –غير الحميد دوما- عن المثالب. لن يهتم لما يقوله الآخرون عن أنّ فلانا شخصٌ عدائي يجب الابتعاد عنه، بل تجده مكتفيا بزاويته هو للنظر إلى ذلك الشخص. لعله يحب فيه بياضَ أسنانه، أو عجزَه وضعفَه الآدميَّ في آخر الليل حين تمضغه الوحدة، أو ذكرى سفرةٍ سافراها معا وسِرّا صغيرا خبّآه عن زوجتيهما. يحب اللغة كثيرا! آآخ، هذه مشكلته الكبرى، إنه شاعر! يحب "اللغة الأكّالة" التي يلتذ عند انثيالها وينتشي بالعبث بها. يصغي لكلمات أطفاله ويلتقط الشاعر المدفون فيهم. هو ذا ابنٌ له يريد أن يكون "راكب حصانات". أظن ثمة غيرة تغشى الأب أن يسبقه الطفلُ إلى ذلك التعبير. لِمَ لمْ يتمكن هو مِن أن يرى الأحصنةَ حصانات؟ ألم يعد طفلا؟ إنه شاعر لأنه يريد أن يظل طفلا للأبد، لذا فقصائده أطفالٌ ما أتقنوا الكلام بعد، لكنهم يتواصلون بلغة ملائكية تخصهم وحدهم، والمُصغون المخلصون فقط هم من ينجحُ في التواصل معهم. ما أجمل الشعر حين تكتبه أحشاؤه. فانتازيا مثيرة للحواس. شعره غامضٌ أحيانا، بينما هو يظن دوما أنه كان بوّاحا أكثر مما ينبغي. يخاف من التقريرية، يكره الإنشاء، لكنه شاعر غنائي في المقام الأول. ليس شاعرا دراميا، ولا شخصيات في قصائده. لا يكتب قصيدة الوصف الخارجي للأشياء، ولكنه يسعى لرسمِ لوحةٍ لدواخله. قصائده صورٌ داخلية تتداعى، وإذا فاتَكَ المدخل الصحيح للعبة فسيكون كل شيء مثل متاهة معشوشبة متفرعة. لن يزعجك أبدا ديكور المتاهة الجميل، ولكنك ستظل مع ذلك تبحث عن باب الخروج.

يتسم بالصمت حين تريد منه أن يتحدث، ولكنه لا يتحدث إلا قليلا. هو يراقب بحذر، ويسجل كل شيء في يافوخه (وهو بالمناسبة يحب كلمة "يافوخ" كثيرا ويكررها في كتاباته). أما عندما يتحدث، فكثيرا ما يكون ذلك لأنه قد وصل للنشوة، وهنا يصبح صوته عاليا، بل يكون مزعجا أحيانا بالمعنى الفيزيقي البحت. يمكن أن يتجاذب معه المرء حوارا وأنتما في شقتين مختلفتين، إذ يكفي أن تدخل لحمّامك ويدخل لحمّامه وتتبادلا حوارا مقتضبا تتكفل المواسيرُ بنقلهِ بين الشقتين. حوار قصير يمكن أن تقولا فيه الضروري واللازم، فتعرف أن سهرته البارحة كانت في راديسون أم سفاري، وتعرف أن رأسه متورم، أو تعرف أنه لم يخرج من البيت البارحة وقد اكتفى برعاية طفله المحموم أو الاستراحة من وعثاء السهرة الكانت في الليلة السابقة (وهذا يعني أنه لابد أن يسهر الليلة بصخب وبذخ!).

يواظب على إعداد برامج ثقافية للإذاعة بلا كلل أو ملل منذ عقدين أو يزيد، وهو الذي عَرّف المستمع العماني بسارتر حين كانوا يفرضون عليه أن يسميه "رفيق سيمون دي بوفوار!"، وهو من استضاف نخبة مِن التشكيليين -وهو ما لم يفعله أحد قبله عبر أثير الإذاعة-، وأدخل المسرحَ العالميَّ إلى دراما الإذاعة، والتقى بالفوج الأول من طلاب الجامعة، وعَقَد صداقاتٍ مع بعضهم واستضاف مِنهُم في برامجه قبل أن تتبلور شخصياتهم لغير الرائي البصير. تَميّز بالتقاطاتٍ عبقريةٍ في مَحاوِر برامجه الثقافية مثل "هكذا رحل هؤلاء" أو ذلك البرنامج عن وشائج القربى بين الأدباء أو الأسماء المتشابهة أو ما إلى ذلك، وهو يصر على استمرار التغذية الثقافية –الأدبية على نحو أخص- وتدوير بعض المعلومات المتكررة ولكن من منظور جديد في كل مرة.

وَصَفَتْهُ امرأة عابرة التقت به لنصف ساعة فقط بأنه "زيّ النِسمة"، وهو كذلك حقا، ما لم يبصر مَن يشتبه بأنه مخبر في حانة فتتحول النسمة إلى ريح هوجاء! النسيم لا يطيق إلا نقل الروائح الطيبة، ولكنه حين يمر بالجيف والنتانة فإنه ينفجر غيضا خشية أن تُعديه الرائحة أو ينقلها للأبرياء الذين لا ذنب لهم في أن يشمّوها. ربما كان رومانسيا جدا في هذا، وربما لديه ذاكرة ثمانينية حين كانت كلمة "مخبر" مخيفة. وربما لا شيء من كل ذلك. إنْ لم يعكر مزاجَه شيء، فآخر الليل لابد أن ينتهي بتشات رائع على النت مع مخلوقات الله الجميلة. ما أجمل تبادل البوح آخر الليل مع شابة غريبة تطل عبر الماسنجر، بلا سعي حقيقي للقائها وجها لوجه يوما، ولكن، فقط لأنّ روحَه تكون مفتوحة آنذاك على الجميع، والرغبة في التواصل الإنساني تكون على مصراعيها، ويكون الشِعر حالة تتحقق في المعيشة الفعلية، تتحقق في التو واللحظة، وليس بالضرورة أن تنثال بعد ذلك على الورق أو لا تنثال، المهم أن تُعاش بقضها وقضيضها، بعشقٍ كاملٍ حتى آخر قطرة.

1 comment:

Note: Only a member of this blog may post a comment.