31 August 2014

ما هي الكتب العشرة الأكثر تأثيرا فيك؟

الكُتب العشرة الأكثر تأثيرا

يَتداول مجموعة من أصدقائي وأصدقاء أصدقائي في الفيسبوك هذه الأيام "لعبةَ" (أكثر عشرة كُتب أثّرتْ فيك). أيْ أنْ تذكر أسماء أكثر عشرة كتب تعتقد أنها أثرت فيك، وأسماء مؤلفيها، ثم تدعو واحدا من أصدقائك ليدلو بدلوه عن الكتب العشرة المؤثرة فيه، وهكذا تستمر "اللعبة". تابعتُ لغاية الآن القوائم التي أعدها حوالي 7 أشخاص ممن شاركوا في هذه "اللعبة"، وبدوري شاركتُ بكتبي العشرة المؤثرة. الذي لفت نظري بخصوص قائمتي الشخصية للكتب العشرة الأكثر تأثيرا فيّ، أنني قرأتها جميعا قبل سنوات طويلة. بعضها قرأته منذ أيام المرحلة الإعدادية في المدرسة (عندما كان عمري 16 عاما تقريبا)، وبعضها يرجع لأيام الجامعة، ولا شيء أبدا للفترة من سنة 2000 فما فوق! فما السبب يا ترى؟

يبدو لي أنّ أكثر الكتب تأثيرا في حياتنا هي التي نقرأها في سن باكرة. شخصيا بدأتُ القراءة في فترة المراهقة، عندما كان عمري 13 أو 14 عاما، وليس في فترة الطفولة. طفولتي كانت بلا مكتبات، ولم يكن والداي يقرءان لي (حكاية ما قبل النوم) كما أفعل الآن كل ليلة مع طفلتي (أنا أو أمها. لكنْ لابد أنْ يفعل أحدنا ذلك). كان ذلك زمانا مختلفا، فنحن أصلا كنا ننام بلا كهرباء. مكتبة المدرسة إذن كانت نافذتي الأولى على عالم الكتب. لن أستطيع أن أستعيد الآن أسماء أول عشرة كتب قرأتها، لكنْ من أوائل الكتب التي أتذكر أني قرأتها كانت رواية "يوم عادت الملكة القديمة"، وهي رواية صغيرة للناشئة من تأليف صنع الله إبراهيم. ولاحقا في فترة الجامعة، عندما قرأتُ روايات صنع الله إبراهيم الأخرى مثل (اللجنة) و (ذات) لم أكن مدركا أن هذا الكاتب الكبير هو نفسه مَن قرأت له في مراهقتي تلك الرواية المثيرة. "يوم عادت الملكة القديمة" هي رواية عن عالم النحل بأسلوب قصصي شيق. فيها معلومات علمية مصاغة بأسلوب سردي، ولعلي لم أقرأ مثلها لغاية الآن. وكانت بالنسبة لي تمثل تحديا كونها "أضخم" كتاب أقرأه في ذلك الوقت. وكانت غير مصوّرة، لذا شكّل إتمامي لقراءتها تشجيعا كبيرا لي. فقد شعرتُ أن الكتب الضخمة ليست مخيفة، وأنه بإمكاني قراءة أي كتاب! لكن هذه الرواية لم تترك تأثيرا فكريا عليّ فيما أحسب، إلا إذا كان ذلك في مستوى لا واعٍ قد يلاحظه غيري لكني لا أستطيع ملاحظته.

المسرح كان هو ما استهواني منذ البداية. توفيق الحكيم أسرني تماما لسنوات وسنوات. وكذا بعض أعمال علي أحمد باكثير. جربت أيضا بعض أعمال طه حسين، كـ "المعذبون في الأرض". ثم خطفني الدكتور مصطفى محمود لاسيما في عملين اثنين كانا متاحين بمكتبة منزلنا. هما: رواية "العنكبوت" و مسرحية "الشيطان يسكن في بيتنا". الأخيرة هي مسرحية عن الفساد الأخلاقي الذي استشرى في أحد المجتمعات، لكن فجأة يجئ يوم القيامة في غمضة عين، فيتأزم الناس ولا يعرفون كيف يخرجون من الخراب الذي هم فيه لينجوا بحياتهم من هول هذا اليوم. الجاذب في الأمر هو الخيال المجنح للمسرحية (كما بدا لعقلي آنذاك)، ووصف الديكور الذي جعل خيالي يحلق بعيدا في إمكانية تنفيذه على الخشبة. لقد قرأت هذا العمل أكثر من مرة حتى حفظتُ حوارات كاملة منه، وقد تركتْ هذه المسرحية تأثيرها عليّ في كتاباتي الأولى، حيث كانت بدايتي مع كتابة مسلسلات بالعامية المصرية تحاكي الدراما التي يعرضها التليفزيون. كتبتُ أيضا في البداية القصة القصيرة، والمسرحية، وطرقت باب الشعر العمودي. لم أر هذا الكتاب منذ أكثر من 20 سنة. لا أعرف أين ذهب أو مَن مِن الأطفال قد مزقه في منزل عائلتنا الكبير! أما رواية "العنكبوت" فكانت هي الأخرى عملا موغلا في الخيال، و مخيفا بعض الشئ. الكلمة الإنجليزية creepy هي الأدق لوصفه. الرواية عن طبيب يخترع "إكسير الحياة". سائل تأخذه بحقنة في الوريد، ثم ينقلك إلى حياة أخرى كاملة. إنه مثل مسألة "تناسخ الأرواح" ولكن عبر حقنة في الوريد. ويا لها من حيوات عجيبة تلك التي عاشها هذا الطبيب، ففي إحداها كان ثورا في مزرعة! الرواية غريبة مثل عوالم أفلام التعبيرية الألمانية. ولكنْ الآن.... الآن.. الآن لا أستطيع أنْ أقرأ سطرا واحدا للكاتب شديد الرداءة المدعو الدكتور مصطفى محمود. إنه أحد رموز التخلف بالنسبة لي. كاتب سطحي، وفوق كذا هو شخص وصولي متخلف ومنحط أخلاقيا. ورجل مؤمن بالخرافات والدجل. هو قطعا شخص لا أتمنى لابنتي أنْ تقرأ له سطرا واحدا! إنّ المفارقة أنّ مصطفى محمود هو الاسم الأكثر تكرارا في قوائم الكتب السبع التي اطلعت عليها لأصدقائي وأصدقاء أصدقائي!

يبدو أننا نتأثر أكثر بالكتب التي نقرأها في سنوات حياتنا الأولى. هناك أشخاص ممن هم في مثل عمري تأثروا بنفس المؤلِفين الذين تأثرتُ ببعض كتبهم، ومنهم مصطفى محمود و مصطفى لطفي المنفلوطي. هذا مفهوم لأن هذه هي الكتب التي كانت تحتضنها مكتبات المدرسة في مراهقتنا، ولم يكن لدينا سوى مكتبات المدارس. جيل اليوم –ممن شاركوا في "اللعبة"، ممن هم في النصف الأول من العشرينيات من أعمارهم- أبدوا تأثرهم بنوع آخر من الكُتاب.. تأثروا بكتّاب لم نسمع أصلا عن بعضهم ونحن في أعمارهم. هم متأثرون، إجمالا، بالكتب التي يمكن تصنيفها عموما ككتب وجودية. كتب تُعنى بأزمة الإنسان الفرد في المجتمع. من أبرز الكتب التي تشكل عالما مشتركا "تأثر به" القراء الشباب اليوم كتاب "اللامنتمي" لكولن ويلسون، و رواية "الغريب" لألبير كامو، وأعمال أدبية وفكرية أخرى تتناول صراع الفرد مع محيطه اللصيق الذي لا يستطيع أنْ ينتمي إليه. لا يحتاج المرء فراسة كبيرة ليستخلص من قائمة هذه "الكتب المؤثرة" في جيل الشباب عدة خلاصات منها: أن الكتب المتوفرة اليوم للشباب لم تعد هي تلك المجموعة الضيقة التي كانت تحتويها مكتبة المدرسة في الماضي (المصدر الوحيد للكتب)؛ فالشباب اليوم يقرؤون الكتاب الإلكتروني على أجهزتهم اللوحية. الشيء الثاني أنّ الشباب مشغولون بسؤال الوجود حقا. أيْ سؤال الفرد في مواجهة الجماعة. أو الفرد في عالم مدني مطوق بسياج القبيلة المكهرب. سؤال الفرد الذي يعيش في مواقع التواصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت وسمائها المفتوحة، هذا من ناحية "افتراضية"، ولكنه يعيش أيضا في سجن العادات والتقاليد وقوانين الأسرة التقليدية الصارمة.

هل ما نقرأه في أول العمر هو أكثر ما سيؤثر فينا لبقية العمر؟ أحيانا هذا صحيح. فهو سيؤثر في أساليبنا في التفكير وألواننا الفنية التي سننتهجها لو أصبحنا كتّابا وفنانين وشعراء ومخرجين. لكن هذا ليس كل شيء، فالوعي عند النضج له قوة أخرى معادلة لتأثير ما نتلقاه في الطفولة، وسيكون بإمكاننا دائما تعديل مسار سفينتنا إلى الوجهة التي نريد عندما نمتلك وعيا في مرحلة النضج العمري. غير أنني أتساءل الآن: ما الذي ستتركه قصة "ليلى والذئب" حقا في نفس طفلتي عندما تكبر؟ إنها قصتها المفضلة، وقد قرأناها لها أنا وأمها مئات المرات في آخر سنتين (بناءً على طلبها المتكرر). سأنتظر لأرى، وعسى أن أعيش لذلك اليوم حتى أجد جوابا لسؤالي!

30 August 2014

الكتاب الإلكتروني في شارع الثقافة العربية

كُتبت في 27 يونيو 2010، ونُشرت في وقتها في جريدة الرؤية
لم تكن أجهزة التابلت قد عُرِفت بعد إلا بنطاق ضيق للغاية، ولكن جهاز كندل من أمازون كان قد ظهر وصار رائد القارئات الإلكترونية



الكتاب الإلكتروني في شارع الثقافة العربية

منذ ظهور الكتاب الإلكتروني منذ سنوات قلائل، واجه هذا الكتاب وما يزال أكثر من مفارقة تكنو-ثقافية، لاسيما فيما يتعلق بمدى قدرته على التواجد في الواقع الثقافي العربي.
أولى المفارقات في حياة الكتاب الإلكتروني، أنه ظهر إلى الوجود قبل ظهور القارئات الإلكترونية بفترة ليست بقصيرة في عمر التكنولوجيا، إذ منذ نحو خمس سنوات أو يزيد قليلا، كان ممكنا للأفراد أن يحولوا النصوص الطويلة التي يكتبونها باستخدام برنامج معالِج الكلمات Word Document إلى ملف PDF غير قابل للتعديل عليه، وبذا ظهرتْ أول صيغ الكتاب الإلكتروني. حيث أصبح بإمكان أي مؤلِّف تأليف كتابه والقيام بإخراجه إخراجا نهائيا كما لو أنه يستعد لإدخاله المطبعة، وعوضا عن ذلك فإنه يقوم بتحويله إلى كتاب إلكتروني (غالبا بصيغة PDF) ويقوم برفعه على الإنترنت وتبادله مع أصدقائه، أو حتى إرساله لهم بالبريد الإلكتروني—نظرا لصغر حجم الكتب بصيغة PDF (إن لم تكن تحتوي صورا ملونة كثيرة). وإلى جوار ذلك، ظهرت ممارسة أخرى في عالم الكتاب الإلكتروني تتمثل في المسح الضوئي للكتب المطبوعة وتحويلها باستخدام برامج خاصة إلى كتب إلكترونية. هذه الممارسة الأخيرة كانت هي الأهم بالنسبة للقارئ، إذ بواسطتها بدأ الناس يتمكنون من الحصول على كتب مطبوعة غير متوفرة حولهم، أو ممنوعة، أو غالية الثمن، وهي الآن تأتيهم بالمجان عبر المكتبات الرقمية التي تملأ الإنترنت. أما محور المفارقة المرتبط بكل هذا، فإننا صرنا قادرين على امتلاك الكتب الإلكترونية التي نرغب بها، غير أننا لم نتمكن بعد من قراءتها، ذلك ان طريقة قراءتها الإلكترونية الوحيدة التي كانت متاحة –حتى وقت قريب جدا- هي قراءتها على شاشة الحاسوب مباشرة، وهي عملية مضنية للغاية، ولا يستطيع القيام بها الكثير من الناس. إذ تخيل أن لديك مكتبة إلكترونية فيها خمسون كتابا تود حقا أن تقرأها، وكل واحد من هذه يتراوح بين المائتين والثلاثمائة صفحة. فمن ذا يستطيع أن يقرأ كل هذه الصفحات متصلب الظهر امام شاشة الكمبيوتر؟

الحل الذي كان متاحا، هو عمل نسخة ورقية من الكتاب الإلكتروني الذي امتلكناه ونزلناه من الإنترنت، ولكن طباعة كتاب كامل على ورق الطباعة عملية مكلفة، وفي الغالب يصل سعر الطباعة إلى مبلغ أعلى عن سعر شراء نسخة ورقية أصلية مطبوعة من نفس الكتاب. كما أن طباعة الكتاب الإلكتروني تعني أن يتم طباعته على ورق بحجم A4 المعياري، وهو حجم كبير، وسيتصف الكتاب في النهاية بـ "دفوشية" مزعجة وبوزن زائد يعيق قراءته. وهكذا، فقد كانت النتيجة أن كدّس الناس الكثير من الكتب الإلكترونية في حواسيبهم، فرحين بتخطي حدود الرقابة وامتلاك الكتب التي طالما حلموا بها، ولكنهم ظلوا عاجزين عن قراءتها، وكانت تلك هي المفارقة الأولى التي واجهها الكتاب الإلكتروني في شارع الثقافة العربية.

المفارقة الثانية، وهي المفارقة الأكثر مرارة، نشأت منذ سنة تقريبا، وذلك مع ظهور الحل المخلِّص لمشكلة تراكم الكتب الإلكترونية وعجزنا عن قراءتها. فقد ظهرت مؤخرا في الأسواق القارئات الإلكترونية، وهي أجهزة صغيرة تتكون من شاشة تحاكي صفحة كتاب عادي متوسط الحجم غالبا، ومتصل بهذه الشاشة المكونات التشغيلية للجهاز. يحتوي القارئ الإلكتروني على سعة تخزينية تتيح الاحتفاظ بداخله بمكتبه تضم آلاف الكتب، وبإمكان المرء اختيار الكتاب الذي يود قراءته والبدء فيه والإنتقال إلكترونيا من صفحة لأخرى. ميزة القارئات الإلكترونية أنها خفيفة الوزن وسهلة النقل، وبإمكان الفرد استخدامها بسهولة كما لو أنه يستخدم كتابا مطبوعا. بإمكانه مثلا الاستلقاء على ظهره عند القراءة كما يفعل الكثير منا مع أي كتاب.

بوسع المرء أن يتخيل الخدمة الجبارة التي يمكن للقارئ الإلكتروني أن يوفرها في الدول الغربية، حيث اعتاد الناس على حمل كتبهم معهم دائما والقراءة في أي مكان، لاسيما أثناء استخدام المواصلات العامة. فبدلا من أن يحمل الواحد كتابين ثقيلين، فإن كل ما يحمله هو شاشة الكتاب الإلكتروني الرشيقة وخفيفة الوزن، والتي ابتدأت في بدايتها بسعة تخزينية تتسع لحوالي ثلاثة آلاف كتاب، تضاعفت اليوم وستتضاعف غدا لتصبح تقريبا لا متناهية. أما في عالمنا العربي، فلم يسمع أحد بعد بالقارئ الإلكتروني، والقلة القليلة جدا الذين سمعوا به من المثقفين وخازني الكتب الإلكترونية غير المستغلة في حواسيبهم واجهوا مشكلتين: الاولى: ارتفاع سعر القارئ الإلكتروني بالنسبة لدخل المواطن العربي (500 دولار أمريكي)، والثانية: عدم قدرة الإنسان العربي، حتى المثقف، على التعاطي مع التكنولوجيا والتلذذ بمعطياتها، مدعيا أنه "لا طعم لقراءة كتاب إلكتروني لا تستطيع أن تخط عليه شخبطاتك وخربشاتك أينما تشاء في علاقة حميمية مع رائحة الحبر وملمس الورق". كل هذا محض تعبير عن الخوف من التعاطي مع الجديد في ظل هيمنة ثقافة تشدنا إلى الماضي بقوة. وهنا يجدر بي القول، لمجرد التنويه، أن الكتاب الإلكتروني يتيح أيضا للقارئ عمل خربشات وشخبطات بواسطة القلم الإلكتروني، ويمكن حفظها مع الكتاب الأصلي وإظهارها وإخفاؤها متى ما استدعى الأمر. والحقيقة الثانية، أنه حتى حجة ارتفاع سعر الكتاب الإلكتروني هي كذبة أخرى يكذبها المثقف العربي على نفسه، فهذا المثقف ذاته الذي يستغلي سعر الكتاب الإلكتروني لا يتورع أن يشتري كل سنة أو أقل هاتفا نقالا سعره نفس سعر الكتاب الإلكتروني (الذي تشتريه مرة ويعيش معك ربما للأبد)، ولا يستخدم من ميزات هاتفه النقال باهظ الثمن إلا عشرة بالمئة منها، وهذه الميزات المحدودة التي يستخدمها كان يمكن أن يتيحها له هاتف نقال آخر بسعر 100 دولار وليس 500 دولار. إنها مسألة عشق المظاهر والتكنولوجيا الزائفة، ومجافاة التكنولوجيا الأخرى التي تستطيع أن تأخذ المرء للأمام إنْ كان قادرا على مجابهة انجذابه المرضيّ للماضي الساكن. فرغم أننا نقف أمام شخص مثقف يدعي الحداثة، إلا أنّ الحقيقة التي لا يستطيع الجهر بها هي أنه، ووفقا لعنوان أول دواوين الشاعر خميس قلم، "ما زال تسكُنهُ الخِيامُ" التي لا يريد أبدا أن يبارحها!

28 August 2014

صالح العامري.. الشعر متجسدا كمعيشةٍ يومية

كُتبت في 21 أغسطس 2010م


صالح العامري



لا شك أنه سورياليّ حقيقي لم يكن لينتمي أبدا للحركة السوريالية لو كان قد عاش عند نشوئها. حين تنتصر الثورة فإنها تصبح سُلطة، وهو لا ينتمي لأية سلطة ولا يخضع لغير السير مُسَرنَما إلى حيث تقوده بصيرته. له بصيرة ملئى بالصور الفانتازية المذهلة. أظنه لا يرى الأشجار أشجارا، ربما يراها غربانَ أو جواميسَ أو نهودا فاتنة. عيناه تريان الأشياء مكسورة "كما يفعلُ الماءُ بالأصابع". يرى كل شيء إما من زاوية محدبة أو مقعرة، ولكن لا أظنه يرى شيئا كما نراه، فهو يمقتُ الاعتيادي. يقولُ: "الشوارع تبدأ وتنتهي./ متى لا تبدأ؟/ متى لا تنتهي؟". لا يرى الأشياء كما يراها الآخرون ليس لأنه مشوّشَ الفِكر أو مختلٌ عقليا، ولكن لأنّ له إجمالا صفاءً ذهنيا منقطع النظير. إنه يرى بأحشائه، لذا فهو يُبصِر الأشياء من الجوف، ويلقُطُ تحولاتها، ويصغي لما تقوله له وهي تسير به إلى "حفرة الضحك"، حيث يلهو بها –أي الأشياء- لاحقا في نصوصه، ويعيد تشكيلها كما يشاء. لديه عينان مختلفتان. له عينان حساستان لم تحتملا مرأى البوارج الحربية على شواطئ شناص، فظن أنها نهاية الزمان، وأنه ما تَصَوّرَ يوما أن يعيش ليرى ذلك اليوم. لا تطيق روحه أي شيء له علاقة بالسُلطة، أية سلطة كانت، ولذا فإن العَسَسَ أعداءٌ وليسوا حَفَظة نظام، ذلك أن الإبداع هو في كسر النظام لا في فرضِه، ويرى أن الأبَ قمينٌ بالقتل لأنه لا مكان للوصاية، أما الرقباء فهم بهاليلُ تتسلى بهم قصائده، ومخبرو الحانات بِركٌ آسنةٌ لابد من تحريكها آخر الليل بصرخةِ رفضٍ أو نكاتٍ استفزازية تحرك الطحالبَ المتخثرة على وجوههم.

يكتب بورتريهات كثيرة، لا نعرف بالدقة كيف يختار شخوصَها، وأثق أنه هو ذاتُه لا يعلم كيف يتم ذلك. بورتريهاته هي مرآتنا لنرى كيف ينظر إلى أصدقائه، وكيف ينظر إلى كل الموجودات من حوله. لا تتحدث بورتريهاته عن الناس كما يراهم غالبية الناس، ولكن كما يعيد هو إنتاجهم في بوتقة مشاعره المضمخة بالوفاء للصديق، وبالتغاضي –غير الحميد دوما- عن المثالب. لن يهتم لما يقوله الآخرون عن أنّ فلانا شخصٌ عدائي يجب الابتعاد عنه، بل تجده مكتفيا بزاويته هو للنظر إلى ذلك الشخص. لعله يحب فيه بياضَ أسنانه، أو عجزَه وضعفَه الآدميَّ في آخر الليل حين تمضغه الوحدة، أو ذكرى سفرةٍ سافراها معا وسِرّا صغيرا خبّآه عن زوجتيهما. يحب اللغة كثيرا! آآخ، هذه مشكلته الكبرى، إنه شاعر! يحب "اللغة الأكّالة" التي يلتذ عند انثيالها وينتشي بالعبث بها. يصغي لكلمات أطفاله ويلتقط الشاعر المدفون فيهم. هو ذا ابنٌ له يريد أن يكون "راكب حصانات". أظن ثمة غيرة تغشى الأب أن يسبقه الطفلُ إلى ذلك التعبير. لِمَ لمْ يتمكن هو مِن أن يرى الأحصنةَ حصانات؟ ألم يعد طفلا؟ إنه شاعر لأنه يريد أن يظل طفلا للأبد، لذا فقصائده أطفالٌ ما أتقنوا الكلام بعد، لكنهم يتواصلون بلغة ملائكية تخصهم وحدهم، والمُصغون المخلصون فقط هم من ينجحُ في التواصل معهم. ما أجمل الشعر حين تكتبه أحشاؤه. فانتازيا مثيرة للحواس. شعره غامضٌ أحيانا، بينما هو يظن دوما أنه كان بوّاحا أكثر مما ينبغي. يخاف من التقريرية، يكره الإنشاء، لكنه شاعر غنائي في المقام الأول. ليس شاعرا دراميا، ولا شخصيات في قصائده. لا يكتب قصيدة الوصف الخارجي للأشياء، ولكنه يسعى لرسمِ لوحةٍ لدواخله. قصائده صورٌ داخلية تتداعى، وإذا فاتَكَ المدخل الصحيح للعبة فسيكون كل شيء مثل متاهة معشوشبة متفرعة. لن يزعجك أبدا ديكور المتاهة الجميل، ولكنك ستظل مع ذلك تبحث عن باب الخروج.

يتسم بالصمت حين تريد منه أن يتحدث، ولكنه لا يتحدث إلا قليلا. هو يراقب بحذر، ويسجل كل شيء في يافوخه (وهو بالمناسبة يحب كلمة "يافوخ" كثيرا ويكررها في كتاباته). أما عندما يتحدث، فكثيرا ما يكون ذلك لأنه قد وصل للنشوة، وهنا يصبح صوته عاليا، بل يكون مزعجا أحيانا بالمعنى الفيزيقي البحت. يمكن أن يتجاذب معه المرء حوارا وأنتما في شقتين مختلفتين، إذ يكفي أن تدخل لحمّامك ويدخل لحمّامه وتتبادلا حوارا مقتضبا تتكفل المواسيرُ بنقلهِ بين الشقتين. حوار قصير يمكن أن تقولا فيه الضروري واللازم، فتعرف أن سهرته البارحة كانت في راديسون أم سفاري، وتعرف أن رأسه متورم، أو تعرف أنه لم يخرج من البيت البارحة وقد اكتفى برعاية طفله المحموم أو الاستراحة من وعثاء السهرة الكانت في الليلة السابقة (وهذا يعني أنه لابد أن يسهر الليلة بصخب وبذخ!).

يواظب على إعداد برامج ثقافية للإذاعة بلا كلل أو ملل منذ عقدين أو يزيد، وهو الذي عَرّف المستمع العماني بسارتر حين كانوا يفرضون عليه أن يسميه "رفيق سيمون دي بوفوار!"، وهو من استضاف نخبة مِن التشكيليين -وهو ما لم يفعله أحد قبله عبر أثير الإذاعة-، وأدخل المسرحَ العالميَّ إلى دراما الإذاعة، والتقى بالفوج الأول من طلاب الجامعة، وعَقَد صداقاتٍ مع بعضهم واستضاف مِنهُم في برامجه قبل أن تتبلور شخصياتهم لغير الرائي البصير. تَميّز بالتقاطاتٍ عبقريةٍ في مَحاوِر برامجه الثقافية مثل "هكذا رحل هؤلاء" أو ذلك البرنامج عن وشائج القربى بين الأدباء أو الأسماء المتشابهة أو ما إلى ذلك، وهو يصر على استمرار التغذية الثقافية –الأدبية على نحو أخص- وتدوير بعض المعلومات المتكررة ولكن من منظور جديد في كل مرة.

وَصَفَتْهُ امرأة عابرة التقت به لنصف ساعة فقط بأنه "زيّ النِسمة"، وهو كذلك حقا، ما لم يبصر مَن يشتبه بأنه مخبر في حانة فتتحول النسمة إلى ريح هوجاء! النسيم لا يطيق إلا نقل الروائح الطيبة، ولكنه حين يمر بالجيف والنتانة فإنه ينفجر غيضا خشية أن تُعديه الرائحة أو ينقلها للأبرياء الذين لا ذنب لهم في أن يشمّوها. ربما كان رومانسيا جدا في هذا، وربما لديه ذاكرة ثمانينية حين كانت كلمة "مخبر" مخيفة. وربما لا شيء من كل ذلك. إنْ لم يعكر مزاجَه شيء، فآخر الليل لابد أن ينتهي بتشات رائع على النت مع مخلوقات الله الجميلة. ما أجمل تبادل البوح آخر الليل مع شابة غريبة تطل عبر الماسنجر، بلا سعي حقيقي للقائها وجها لوجه يوما، ولكن، فقط لأنّ روحَه تكون مفتوحة آنذاك على الجميع، والرغبة في التواصل الإنساني تكون على مصراعيها، ويكون الشِعر حالة تتحقق في المعيشة الفعلية، تتحقق في التو واللحظة، وليس بالضرورة أن تنثال بعد ذلك على الورق أو لا تنثال، المهم أن تُعاش بقضها وقضيضها، بعشقٍ كاملٍ حتى آخر قطرة.

27 August 2014

ضرب الأطفال.. طريقهم إلى الشقاء

نُشرت بالأصل في جريدة الرؤية حديثة الصدور آنذاك. كُتبت في 9 يناير 2010، ونُشرت حول ذلك الوقت في  الرؤية.

ضرب الأطفال.. طريقهم إلى السعادة!

أكثر ما أثار استهجاني الأسبوع الماضي خبر وصورة قرأتهما بإحدى صحفنا المحلية (وأتوقع أن الخبر كان منشورا في بقية الصحف التي ترسخت صورة نمطية عنها لدى القراء بأنها نسخ كربونية من بعضها). حمل الخبر عنوانا استفزازيا هو "العقاب البدني للأطفال يجعلهم أكثر سعادة"، وفوق هذا العنوان ارتفعت صورة مؤذية تصور رجلا ينهال بالضرب على طفل صغير، أما الطفل المرعوب الخائف فيخبئ رأسه تحت ساعده الأيمن اتقاءً للضرب. أما مصدر الخبر فهو (واشنطن- العمانية)، أي أنه خبر آت من واشنطن وبثته لصحافتنا المحلية وكالة الأنباء العمانية!

لا أعرف شخصيا إن كان هناك في الوجود دلالة أكثر على تدني قيمة الإنسان في بلادنا العربية من أن "تبرز" إحدى الصحف خبرا ملغوما كهذا في صفحتها الأخيرة، حيث تعد الصفحة الأخيرة بأهمية الصفحة الأولى لأية جريدة إن لم تتعداها في الأهمية. وقد تم تعزيز الخبر المذكور بصورة ملونة -لرجل بالغ يضرب طفلا- لو تم نشرها في إحدى بلدان أوروبا لاقتيدت الصحيفة ومن يمثلها إلى محاكمة يستحقونها بجدارة، ولتوقف نصف القراء على الأقل –مدفوعين بواجبهم الأخلاقي- عن قراءة هكذا صحيفة لا ترى في العنف ضد الأطفال أية غضاضة.

منبع تحفظاتي على الخبر هو أنه ببساطة يحاول أن يبرهن أن ضرب الأطفال "ضربا خفيفا" –كما يدعي- يجعلهم أكثر سعادة، وهذا بيان خطير للغاية. وإذا كنا نهتم بسعادة أطفالنا فإن الخبر ينصحنا بشكل مباشر أن نضربهم. وقد يقول قائل أن الخبر تحدث فقط عن الضرب "الخفيف"، والجواب هو: ابحث لي عن أب واحد في العالم في حالة غضب ضد طفله ثم نراه يذهب إليه ليضربه ضربة خفيفة غير مؤذية، فإن وجدت إنسانا بهذه المواصفات السيكولوجية من القدرة على التحكم في الأعصاب عند الغضب وتوجيه ضربة غير مبرحة فإنه حينها تكون لا غضاضة في الخبر، وسنتجه جميعنا فور قراءتنا للخبر لشراء العصي والكرابيج لنضرب بها أطفالنا "ضربا خفيفا" لنجعلهم أكثر سعادة وفقا لهذه الوصفة الجديدة التي أعلنت عنها وكالة الأنباء العمانية بعد أن نفدت كافة أخبار العالم الأخرى التي يمكن تغطيتها وبثها!

إن فكرة "الضرب الخفيف" فكرة نظرية بلهاء، وفكرة السعادة التي تعقب إهانة كرامة المرء هي فكرة أكثر بلاهة. بلاهة الفكرة تكمن في مخالفتها لطبيعة الإنسان الغاضب. فمن تصل به الأمور إلى مستوى ضرب ابنه لابد أن يكون قد بلغ مبلغا من الغضب لا يمكن معه أن يوقفه شيء، وسيكون الأمر مجرد نكتة متخيلة أن يتجه إنسان غاضب لصفع طفل ثم يقرر في الثانية الأخيرة أن "يطبطب" خد الطفل بدلا من أن يصفعه! إنّ ما بين فورة الغضب وتنفيذ الفعل/ الضرب جزء من الثانية فحسب. فمن أين تأتي هكذا تصورات لا علاقة لها بطبيعة الإنسان وردات فعله عند الغضب؟!

الأمر الآخر الذي يجعل من نشر خبر كهذا أشد ضررا هو أن نشره يتم في مجتمع عربي معروف عنه –ككل الوطن العربي- قسوته التقليدية في التعامل مع الأطفال. ولا زال حتى الجيل الشاب من الآباء يعتمدون الضرب اليومي أسلوبا للتعامل مع الطفل. هؤلاء ليسوا بحاجة أن يقوم الإعلام بتشجيعهم وحثهم على الاستمرار في ضرب أطفالهم ولينزع عنهم أي إحساس بالندم –إن كان موجودا- عندما يضربون أطفالهم، لكنهم بحاجة إلى العكس تماما. هم بحاجة إلى إعلام يوعيهم بمساوئ ضرب الأطفال وضرره النفسي والبدني الكبير في تشكيل شخصية الطفل. إن الحاجة هي لخلق ثقافة مغايرة تَعتبِر الطفل كائنا جديرا بالاحترام وتجرّم الضرب كما تجرم نشر الصور والمواد الفيلمية التي تحتوي لقطات تصور أطفالا يتعرضون للأذى (إلا لأغراض الدراسة العلمية في المؤسسات الرصينة المختصة برعاية هؤلاء الأطفال)، أما نشر صورة استفزازية بشعة لأب يضرب طفلا فإن ذلك ليس فقط انحرافا عن المبادئ السمحة لحفظ كرامة الإنسان، ولكنه استفزاز غير أخلاقي للقارئ وجرح لمشاعره وإلحاق للأذى النفسي به، وهي عناصر –كما أسلفتُ سابقا- لا يمكن السكوت عليها في عالم متحضر.

لا تأويل لدي لبث صحفنا العربية خبرا من هذا القبيل إلا أننا لازلنا بالفعل نحتاج إلى سنوات لنرى تأثيرا ملموسا لمؤسسات المجتمع المدني المعنية بحقوق الإنسان في جهودها لرفع وعي الناس إزاء حقوقهم الأصلية، ومن هذه الحقوق حق الحصول على معلومة إعلامية نزيهة غير مضللة أو ضارة بالمجتمع. ذلك أننا كمجتمعات عربية قد رضخنا عقودا لنرى الإعلام العربي يلعب لعبة الحجب لمعلوماتٍ والتضخيم والنفخ لمعلوماتٍ أخرى، وإذا كان الناس قد انصاعوا لذلك لبعض الوقت ورضخوا لإعلام غير معبر عن قضاياهم اليومية الحقيقية، فإنه على الأقل على هذا الإعلام غير المواكب للشارع وغير المعبر عن الرأي العام أن يتوقف –على الأقل، وذلك أضعف الإيمان- عن بث الأخبار الرديئة والضارة بالناس والتي تعزز سلوكياتهم السلبية القائمة، بل وتتخطى ذلك إلى جرح مشاعرهم وإيذائهم حتى في حبهم الفطري لفلذات أكبادهم. فليدعنا الإعلام نربي أطفالنا على طريقتنا بعيدا عن نصائحه الذهبية وصوره المستفزة لإنسانيتنا.

26 August 2014

عن تهمة "إهانة كرامة" التي حوكِم بمقتضاها كُتّاب عمانيون

كُتبت بتاريخ 23 يناير 2010، ونُشرت في وقتها في جريدة الرؤية.


كُـتّـاب في قفص الاتهام

برّأت المحكمة يوم أمس الأول القاص حمود الشكيلي من تهمتي "إهانة كرامة" فرد و"مخالفة قانون المطبوعات والنشر"، وذلك بعد قضية رفعها ضده مواطن يبلغ من العمر 15 عاما متهما فيها الكاتب بتضمين إحدى قصصه القصيرة إشارات مباشرة تخص الحياة الشخصية له. هي ليست أول قضية يرفعها "المجتمع" ضد قاص عماني، وهي كذلك ليست المرة الأولى التي يبرّئ فيها القضاءُ الكاتب، وإن كان ذلك يتحقق بعد أشهر من المعاناة النفسية للكاتب، بل إن هناك من اعتزل كتابة القصة القصيرة بعد جولة صعبة مع القانون والمجتمع كما حدث لكاتبة عمانية.


ظاهريا ومن حيث المبدأ، لا غبار على "حق" أن يرفع شخصٌ ما قضية ضد كاتب حين يعتقد هذا الشخص أن ثمة مساسا بحياته الشخصية يخدش حقه في الخصوصية وأن ثمة ضررا قد وقع عليه جراء نشر نص أدبي معين. لا ضير في ذلك طالما كان هناك قضاء عادل يفصل في الأمور بين طرفي النزاع {وقوانين واضحة يُحْتَكَم إليها}*. إلا أن ما يلفت نظر المرء، وما يثير القلق إزاء مسلسل محاكمات الكتّاب لدينا في عُمان، هو البعد الاجتماعي لهذه القضايا، فهي تعبر عن مجتمع لم يستوعب بعد دور الأدب وطبيعته. فلكوننا بالأساس أمة ذات عادات قرائية ضعيفة (ليس لدينا مكتبات أصلا)، فإنه لم يتأصل بعد أي وعي لدى الكثير من الشرائح بأن الكاتب حر في اختيار مادته وإعادة إنتاجها بالطريقة التي يرغب فيها، وذلك بطبيعة الحال دون "قذف" و"تشهير"، وهي ممارسات أحسب أنه منصوص على مخالفتها للقانون قياسا بقوانين الدول المجاورة. إلا أن ما يُحاكَم عليه الكتاب العمانيون في الغالبية العظمى من الحالات تهمة ذات مسمى غريب يدعى "إهانة كرامة"، وهو مصطلح ضبابي وغير واضح المعالم. فما هي حدود إهانة الكرامة، وما هي الكرامة أصلا كاصطلاح قانوني؟

حسب علمي فقد تم توظيف مصطلح "إهانة كرامة"، ربما للمرة الأولى، أثناء محاكمة الكاتب يحيى سلام المنذري عام 2003 بعد أن اشتكى بعض جيرانه أنه يلمِّح إليهم في إحدى قصصه القصيرة. ولأن الأمر كان جديدا على القضاء، لم تكن هناك مادة واضحة في القانون يتم على أساسها تحديد التهمة ورفع الأمر للمحكمة، إلا أن مادة "إهانة كرامة" الموجودة أصلا في القانون، والتي ربما كانت "نائمة" حينها، تم تفعيلها واعتمادها بوصفها "التهمة" التي يمكن بناء عليها إحالة الأمر للقضاء. ومن يومها وجميع الكتاب العمانيين الذين تمت محاكمتهم قد حوكموا بموجب تهمة "إهانة كرامة".

إشكالية محاكمة المجتمع للكتّاب لا تكمن فحسب في ضبابية التهمة ذاتها، لكن المشكلة هي في المجتمع الذي يخلق لنفسه التصور الذي يناسبه عن مفهوم "الكرامة" وعن "إهانتها". وإذا أردنا أن نكون صرحاء، فإن هذه التهمة الغائمة قابلة لأن تتيح المجال، ولعلها قد أتاحته بالفعل، لكثير من ضعاف النفوس أن يتخذوها مطية لمحاكمة أي كاتب، والهدف: المال قبل كل شيء، ولسوف نوضح هذه الجزئية بشيء من التفصيل في السطور أدناه.

 إذا كنا قد أشرنا أن تهمة "إهانة كرامة" قد "تم تدشينها" مع محاكمة القاص يحيى سلام المنذري، فإن قضية المنذري لم تكن المرة الأولى التي يشتكي فيها "مواطن" على كاتب عماني وإن كان الأمر لم يصل للمحكمة حينها. فهناك حالات كثيرة، وأذكر منها حالة قاص من قريتي اشتكتْ عليه -إلى الوالي، على ما أتذكر- امرأة وأهلها لأنه استوحى إحدى القصص من حياتها الشخصية، وبعد أخذ وعطاء تمت تسوية "القضية" توافقيا، أي دون تحويلها للمحكمة، وذلك بتعويض أهل المرأة ببعض المال عن "الضرر" الذي لحق بها، وهو ما يُعرف بـ "التسوية أو التراضي بين الطرفين"، وهو معمول به كثيرا في دونما بلد حول العالم.

أنهت النقود خلافا كان يمكن أن يأخذ أشهرا في سلك القضاء، ولكن في الحالات التي كان الكتاب يصرون فيها على براءتهم من إدعاءات المجتمع، ويرفضون الرضوخ لمطالب المدعي للتسوية المالية، فإن الأمر كان يصل للقضاء، وفي كل الحالات التي وصل فيها الأمر للقضاء فقد برأ القضاء المدعى عليهم. نعود هنا مجددا لما يشكل لنا قلقا في غموض تهمة "إهانة كرامة"، بل وفي وجود بند من هذا القبيل في القانون أصلا يتم توظيفه لمساءلة النصوص الأدبية، وهو قابلية تسخير هذا البند للاستغلال من قبل ضعاف النفوس ومحدودي الثقافة، وما أكثرهم في المجتمع. هنا يتحول الكاتب إلى هدف مكشوف وجاهز لكل من له هوى شخصي أو رغبة في تحقيق مكسب مالي معتمدا على أن هناك فرصةً أنْ يرضخ الكاتب للإبتزاز ويقوم بتسديد المال لكي لا يرفع الطرف المدعي قضية عليه، كون أنه لا أحد يرغب في المجازفة للذهاب للمحكمة ومعايشة ضغط الإجراءات القانونية عدة أشهر. إلا أن الكتّاب الذين يؤمنون بالقيمة الرفيعة للأدب، هم أقوى شكيمة من أن يعبث بهم مجتمع لا يزال الكثير من أفراده  يفكرون بطريقة القبيلة، ويسوون نزاعاتهم بطريقة "الديّة" التي تسدد إذا ما جار أحدهم على غنمة من قطيع قبيلة أخرى!

إلى يومنا هذا فقد خيبت جميع محاكمات الكتاب العمانيين الذين حوكموا بتهمة "إهانة كرامة" طموحَ من يمكن أن يكونوا قد رغبوا في استغلال هذا البند في القانون لمطامح شخصية، إلا أنه لحماية الكتاب من سوء الظن بهم واستغلالهم مجتمعيا، فإن المطلوب إزالة كل لبس عن مفهوم "إهانة الكرامة"، ومراجعة ما إذا كانت هذه التهمة هي الأنسب لمساءلة النصوص الأدبية، أو أن الأقرب إليها تهم أخرى صريحة معروفة في القوانين كـ "القذف" و "التشهير"، فهذه تهم محددة واضحة ولا تُرمى جزافا أمام أي نص أدبي، ولا يمكن أن يكون مجرد تشابه طفيف بين شخصية أدبية وشخصية حقيقية منطويا بالضرورة على احتمالية "قذف" أو "تشهير"، لأن لهذه المصطلحات معايير واضحة تحكم انطباقها وثبوتها في الكثير من قوانين العالم، وهي معايير كفيلة –لوضوحها- بتوفير حماية للكُتاب من أن يتحولوا إلى هدف مكشوف للصائدين في الماء العكر ممن يحاكِمون الكتاب حتى دون أن يقرأوا كتبهم أحيانا!

هامش:
*ما بين المعقوفين إضافة لم تكن موجودة في النص الأصلي عند النشر بجريدة الرؤية.

25 August 2014

تناسُل

نُشرت عند كتابتها في جريدة الشبيبة. في 26 أغسطس 1996م


تناسُل




(1)
يا قباطنةُ هاكمُ قراصنتي المُترامينَ
أنْ مُدّوا لهم حبالَكم الليفيّةَ
امنحوهم من رحابةِ الوقت
ما يكفي لتروهم يفعلون...
......................................
......................................
يا قباطنتي هاكم انظروا
القراصنة يَكْنُسُون سطحَ السفينة
ويغنّون بأصواتٍ خفيضة
كلٌّ على حدة!

(2)
لي من حنكةِ الضجرِ
ما يؤهلني للحلم بامرأةٍ تهيم كموجةٍ صامتةٍ
حالَ انعدامِ جاذبية الكون.
ولي مما يحتويني من بياضٍ
ألا أفكر بنثرِ السوادِ على المرايا.
لي من صولجان المدى
اتساعُ الصدرِ كأفقٍ ناعسٍ
لا تقض مضجعَه غيمةٌ
ولا
ورقةٌ تكركرُ: "هل من مريد"؟

(3)
يا مغيثي استغث بي
من دُوارِ الضجيجِ
حتى اندحار الفرائس
إلى أنْ...
أغيثكَ/إني مستغيثٌ بكَ
يا أنتَ
لا تنتظرني.
جئتُ قبل انكشافكَ.
لا تكتشفني. إني أتكشفُ...
يا هيبيّون.. يا "هومليس"
يا قباطنة
هاكمُ إياي قرصانا يمنحكم من رحابة الوقتِ
ما يكفي لأراكم تفعلون..

ماذا ستفعلون؟

24 August 2014

هكذا قرر الخائفون أن يعاقبوا المرأة بالعباءة

كُتبت في 1 مايو 2008، ونشرت في عدد مايو 2008 من مجلة الرؤيا الشهرية.

هكذا قرر الخائفون أن يعاقبوا المرأة بالعباءة!

تخيل أنك تسافر إلى بلد بعيدة للمرة الأولى في حياتك. فلنقل أن سفريتك امتدت شهرا أو حتى أقل. والآن تخيل أنك منذ ربع الساعة الأول بذلك البلد قد لاحظت أن الغالبية العظمى من النساء يرتدين ملابس ذات لون واحد مهما اختلفت أشكال تفصيلها وخياطتها. من المؤكد أنك ستندهش بشدة للسبب وراء هذا السلوك الغريب. لعلك ستفكر أن هذا هو الزي الوطني للبلد التي تزورها، وأن وصولك تصادف مع ذكرى الاستقلال لهذا البلد. لكن تكرار رؤية ذات اللون طوال فترة زيارتك سيزيد حيرتك أكثر، فليس كل يوم في هذه البلاد يوما وطنيا. فما السبب يا ترى الذي يجعل غالبية نساء ذلك البلد يرتدين زيا موحد اللون؟


إذا كان ما سبق قد بدا لك مجرد افتراضية، فعليك أن تنتبه الآن أنها ليست خيالية مائة بالمائة، فعمان المعاصرة –بالنسبة للزائر الأجنبي- تبدو قريبة الشبه بما وصفناه أعلاه: بلاد ترتدي نساؤها لونا موحدا هو الأسود طوال أيام السنة. اخرج إلى أي مكان ولن ترى إلا العباءة السوداء: في المكاتب الحكومية والشركات والمحلات التجارية وعلى شاطئ البحر! أنت وأنا لم يعد يُدهش أبصارنا هذا الأمر لأن عيوننا اعتادت عليه، والإنسان قادر على التأقلم حتى مع الكوارث والنكبات، إلا أن ذلك لن يمنع أحدا من القول أن ذلك الشخص يعيش تحت أنقاض الكوارث. الأمر هكذا بالنسبة لعباءة المرأة السوداء التي ترتديها الغالبية العظمى من النساء في عمان. كارثة بصرية –على أقل تقدير، بل هي أسوأ من ذلك كثيرا. فما الأمر؟ ما هي القصة؟ ومتى هبطت هذه العباءة لتغطي المجتمع العماني فتبدو الكثير من نساء هذا البلد عند ارتدائها كأنهن خيام سوداء متنقلة؟!
* * *
يعلم من تجاوز الثلاثين من عمره أن عمر العباءة في عمان أقل من ثلاثين عاما. فأمهاتنا وجداتنا لم يكن يرتدين هذا الزي الدخيل الذي أصبح مهيمنا، وهو ما يثير أسئلة حول كيفية مجيئه وكيف تم فرضه على المرأة العمانية. في كثير من قرى عمان لا تزال المرأة العمانية تنعم إلى اليوم بملابسها التقليدية المزركشة مثل الليسو والثوب والسروال، أو الماكسي واللحاف، وإن استدعى الأمر يتم لبس "الوقاية" في بعض المناسبات. إلا أن صدمة الانتقال من المجتمع التقليدي إلى المجتمع المتمدن قد سببت ردة فعل ارتدادية لكثير من رجال المجتمع الذين لم يكونوا مهيئين لمثل هذه النقلة الفجائية. فقد دخلت البنات المدارس وصارت المرأة تقود السيارة وتذهب للأسواق وتعمل في المستشفيات والمكاتب والبنوك وغيرها من الأماكن العامة، كل هذا بين عشية وضحاها. وإزاء هجمة "الاختلاط" الإجبارية التي فرضتها الحياة المعاصرة، لم يجد العربان المصدومين بمشاهدة المرأة لأول مرة في حياتهم في مواقع العمل المختلفة، لم يجد هؤلاء علاجا للفوبيا التي أصابتهم سوى إرجاع المرأة مجددا إلى نطاق السيطرة. لكن الإرجاع هذه المرة لم يكن جغرافيّا أو مكانيا، إذ لم يكن بوسع هؤلاء الخائفين من خروج المرأة أن يعيدوها للبيت، ولذا قرروا حبسها في إطار جسدها نفسه، ففرضوا عليها العباءة. إن العباءة بهذا المعني هي سجن فرضه الرجل المذعور من خروج المرأة للحياة العامة ومن منافستها له. هو سجن يمسك بمفاتيحه السجّانون الرجال الذين فرضوا العباءة قسرا على بناتهم وزوجاتهم بل وعلى أمهاتهم اللاتي عشن نصف أعمارهن دون أن يعرفن هذه الآفة الجديدة التي أتى بها هؤلاء "الصغار"! العباءة إذن، قرار ذكوري باستمرار هيمنة الرجل على المرأة. العباءة، وفقا لهذا، تعبير عن جبن الرجل، وعن جرأة المرأة التي قررت أن تكون كائنا فاعلا في المجتمع فخشي الرجل المحافظ أن ينال هذا الأمر من هيمنته. إن أي رجل يجبر زوجته أو ابنته على ارتداء العباءة، وفقا لهذا التأويل، هو سجان فزِع لا يملك الثقة في هذه المرأة ولا في نفسه، والقهر والكبت هما أسلوب الجبناء عندما تخرج الأمور عن نطاق سيطرتهم.
* * *
ساعدت عوامل تاريخية كثيرة على انتشار العباءة خلال الثلاثين سنة الماضية. كما أسلفنا قبل قليل فإن انتشار العباءة جاء بقرار في العقل الذكوري لتضييق النطاق على المرأة من قبل الرجال الذين صدمتهم سرعة خروج المرأة لمواقع الحياة العامة وخشوا أن يزعزع هذا الخروج مكانتهم التاريخية كمهيمنين على أقدار النساء. وما ساعد الرجالَ على تحقيق هذا المأرب، هو الانكسار السياسي العربي الذي ولد حالة من فقدان الأمل في المستقبل، فكان أن ارتدّت الجماهير إلى الوراء تبحث عن التعويض فيه، فظهر السلفيون الماضويون وتسيدوا الساحة لاعبين على وتر أن الماضي كان أفضل، وحين يتحدث المرء عن السلفيين فإنه يتحدث عن بعض المبادئ الرئيسية لهم والتي لا تعدو أن تكون حفنة من الممارسات الذكورية الجاهلة والقمعية مثل الدعوة لحرمان النساء من حق التعليم وحبسهن في البيوت ورفض الاختلاط وما إلى ذلك من أفكار لا تمت للحاضر بصلة. وهكذا مع شيوع السلفية جاءت العباءة ابنة شرعية لأكبر حركة سلفية حديثة في التاريخ الإسلامي المعاصر ألا وهي الثورة الإيرانية. بدت الثورة الإيرانية للجماهير العربية –عند حدوثها- كأنها انتصار كبير يعوّض شيئا من الهزائم المتتالية التي يعيشها الشارع العربي، لذا كان تأثير هذه الثورة واسعا في الشارع العربي. وسرعان ما صدّرت الثورة الإسلامية الإيرانية للعالم العربي منتجها الوطني الوحيد: العباءة!

ننظر اليوم للثورة الإيرانية بمنظور نقدي مختلف عن المنظور الذي اكتفى بالنظر إليها وقت حدوثها كانتصار ضد الاستعمار، وذلك حين نرى ما تسبب فيه قادتها من تراجع اجتماعي تضررت بسببه المرأة وعادت مجددا أسيرة لدعاوى الانغلاق والاستسلام المطلق للرجل المهيمن، وما العباءة إلا مثال يجسد هذا الانغلاق والتراجع. إن العباءة مثلها مثل النقاب الحاجب لكامل الوجه، ترميز لوجهة النظر القائلة بأن "النساء حبائل الشيطان"، ولذا ينبغي أن لا يظهر شيء من أجسادهن لأنه لو ظهر شيء فسوف تفسد الدنيا والدين كما يقول المخوّفون. المخوّفون هم أنفسهم خائفون، ولذا يحاولون باستماتة تخويف الآخرين. ومن هذا المنطلق فإن العباءة، هذه المرة، تعبير رمزي عن خوف الرجل من المرأة لضعفه وجهله وعدم قدرته على مجابهة الجمال. العباءة دليل على وجود مجتمع يسيطر عليه رجال جبناء لا يحترمون حتى النساء اللاتي أنجبنهم وربينهم، وكيف يكون ذلك احتراما إذا كانوا يعتبرون أجسادهن حبائل للشيطان ولذا ينبغي التخلص "الرمزي" من هذه الأجساد بحبسها. العباءة، وفقا لهذا، تعبير عن التمييز الجنسوي ضد المرأة وممارسة تمييزية عقابية تهدف إلى عقاب المرأة بوصفها كائنا شريرا.
                                                       * * *          
الربط بين العباءة والنقاب ليس خروجا عن الموضوع، فهما وجهان لعملة واحدة. في الكثير من دول الخليج العربية ترتدي النساء النقاب الذي يكاد يحجب كامل وجههن. لحسن الحظ فإن النقاب ليس بذاك الشيوع بعد في عمان، إذ يراه الكثير من المعتدلين مغالاة وقسوة لا داعي لهما. حسنا، أتمنى حقا لو يستطيع هؤلاء أن يروا في العباءة نفس الشيء، ذلك أن النقاب والعباءة يصدران عن عقلية واحدة، هي عقلية حصار جسد المرأة وسجنه والتحكم الرجالي فيه. يقول البعض أن النقاب مغالاة لأنه لا يوجد شيء في الإسلام يدعو لحجب الوجه، فالوجه ليس عورة. ونلفت انتباه هؤلاء أن العباءة أيضا لا ضرورة لها وفقا لنفس المنطق، فطالما المهم هو ارتداء ملابس ساترة فإن ما تحت العباءة يكفي، ولا داعي للف النساء بهذا القماط الأسود. إلا أن الإصرار على العباءة هو إصرار من الرجل على فكرة الهيمنة، والتي هي بدورها توكيد متجدد على قوة المرأة وضعف الرجل وخوفه منها. وهكذا يا من تصر على لف المرأة بالعباءة، اِعلم أنك بمعايير علم النفس رجلٌ فزِعٌ لا يقدر على منافسة خصمه منافسة شريفة فيحتال عليه غدرا ويعتقله ليمنعه من المنافسة.

إنه غريب جدا الفرق الشاسع في الحق الذي يمنحه المجتمع للرجل على صعيد الملابس وذلك الحق الذي يمنحه للمرأة. الرجل يتجول في البيت طوال اليوم أمام أخواته بـ "وزار وفانيلة" بيضاوين شفافين تشفان عن أسرار جسده، أما المرأة فليست فقط مطالبة بتغطية جسدها كاملا بطبقة واحدة من الثياب، وإنما بعدة طبقات تعلوها العباءة التي تم اختيارها سوداء عمدا ليتم تعذيب النساء بها وتذكيرهن طوال الوقت أنهن رهن الاعتقال والتعذيب. العباءة قاتلة في جو عمان الحار، فاللون الأسود يمتص الحرارة أكثر، ولأن الرجل يعرف هذه المعلومة فقد اختار للمرأة اللون الأسود واختار لنفسه اللون الأبيض الطارد للحرارة وهو يرتديه شفافا لتتخلل جسده نسمات الهواء. هل الراحة حق رجالي والحر حق للنساء؟ أم أن الأمر تعبير بليغ عن غاية العباءة الأولى والأخيرة باعتبارها سجنا تُعتقل فيه المرأة ويتم تعذيبها بداخله؟
* * *
محزنة ومبكية تلك الريالات التي تصرفها النساء لشراء أجمل الملابس ثم لا يراها أحد مطلقا لأن العباءة تغطيها ليل نهار. إن النساء يشترين الملابس بدافع السلوك الأنثوي الغريزي الذي يدعوهن للتجديد والتغيير المستمر للأشياء—بدءا من الملابس وليس انتهاء بقطع أثاث البيت، وحتى هذه الغريزة قد تم تشويهها بالعباءة، فما فائدة اقتناء أجمل الفساتين إن كان لن يراها أحد أبدا؟!

إن المطالبة بعباءة ملونة ليست حلا للعباءة السوداء. إن المشكلة الجذرية ليست في اللون، لكنها في الجوهر من وراء مبدأ ارتداء المرأة للعباءة، والذي هو فرض الهيمنة الذكورية وعقاب المرأة على خروجها للعمل ودخولها معترك الحياة العامة وإثباتها لذاتها. لقد باتت العباءة بحد ذاتها رمزا لمنهج في التعامل، ورفضها هو رفض لهذا المنهج المغلوط الذي اخترعه الرجال الجبناء الأميون حين –بدون مقدمات- تمكنت المرأة الواثقة من نفسها من نيل نصيبها لتكون فاعلة في الحياة العامة. آن للعباءة أن تعود الأدراج من حيث أتت—هذا إذا كان قد بقي لها مكان في العالم المتحضر.

22 August 2014

مقاربة سياسية لفيلم "حين ميسرة" لخالد يوسف

قاع المدينة الذي يحكمه قانون الفقر والقسوة
مقاربة سياسية لفيلم "حين ميسرة" لخالد يوسف


يدخل فيلم "حين ميسرة" للمخرج خالد يوسف إلى تجمعات سكانية محيطة بالعاصمة المصرية القاهرة يخشى رجال الشرطة أنفسهم أن يدخلوها، إذ يقتحم الفن –عبر هذا الفيلم- مناطق ملغومة يحكمها قانون لا يعبأ كثيرا بالقوانين الرسمية والأنظمة والممنوعات، ففي عالم التجمعات السكنية المعروفة بـ "العشوائيات" والتي تنتشر كالنباتات البرية حول القاهرة لا يسود سوى قانون الفقر وما يتمخض عنه من صراع ضارٍ من أجل البقاء، بكل ما يستتبعه ذلك من قسوة وعذابات تطحن سكان هذه العشوائيات الذين لا ذنب لهم سوى أنهم ولدوا فقراء ويبدو أن الفقر والقسوة هما رفاق دربهم من المهد إلى اللحد.


يقدم الفيلم مسحة بانورامية مكانية وزمنية لمجموعة من سكان إحدى العشوائيات خلال فترة يؤرخها الفيلم بين عام 1990 (أي قبل الغزو العراقي للكويت بعام واحد) وعام 2003 (وهي سنة الاحتلال الأمريكي للعراق). على الرغم من أن فيلم "حين ميسرة" ليس فيلما سياسيا بالدرجة الأولى، إلا أن السياسة هي الخلفية التي تنتظم حولها أحداث قصة الفيلم رغم عدم وجود ربط مباشر بين الحدث السياسي والأحداث الاجتماعية المتصاعدة في سيرورة الفيلم. تصنع تطورات الأحداث السياسية (ما قبل غزو الكويت، بعد الغزو، عملية عاصفة الصحراء، واحتلال العراق)—تصنع هذه التطورات الخلفية التاريخية التي تُعين على فهم المناخ العام الذي تعيش فيه شخصيات الفيلم. بعض شخصيات الفيلم مرتبطة بشكل مباشر بما هو سياسي، فهناك مِن الشخصيات مَن كان يعيش في العراق عند الغزو، وهناك من يتحول إلى عنصر من عناصر تنظيم "قاعدة العراق"، إلا أن عموم الشخصيات لا علاقة مباشرة لها بالحرب، إلا أن أوضاعها المأساوية التي تعيش فيها هي بشكل أو بآخر ثمرة من ثمار مناخ الانكسار العام الذي يعيشه عموم المجتمع العربي في ظل هزائم عسكرية وفساد سياسي. إن المساكن العشوائية التي ظهرت للوجود بلا أدنى تخطيط عمراني هي نتيجة من نتائج الوضع المتردي في بعض البلدان، وهو تردٍّ له علاقة بالتردي العسكري والسياسي، فظهور العشوائيات هو نتيجة لوجود قرار سياسي داخلي عاجز ومقصّر عن إيجاد حل للمشاكل الاقتصادية المتفاقمة، هذا القرار العاجز يعد عاجزا لأنه هو بذاته حلقة في سلسلة الانكسار والانهزامية. فهناك احتلال، وهناك فساد إداري لأنظمة موالية للمحتل، وهناك أبرياء يدفعون الثمن. حين تكون الأمة مهزومة وينشغل صناع القرار فيها بتكديس ثرواتهم الشخصية، فإن ظهور "العشوائيات" يعد نتيجة طبيعية. عندما لا يصنع الساسة شيئا لإنقاذ شعوبهم من غائلة الفقر والبطالة في منطقة جغرافية تنهشها الصراعات والنظم المستبدة، تصل الشعوب دون شك إلى حال مزرية تتجسد في المعيشة في ظروف تفتقر للحد الأدنى من متطلبات الحياة الكريمة.هذه الحال المزرية هي نتيجة منطقية لمناخ الانكسار العام الذي تعيشه المنطقة على الصعيدين السياسي والعسكري، باعتبار أن فساد صناع القرار –الذي أدى لنشوء العشوائيات- هو ثمرة من ثمار مناخ الانهزام العام الذي تعيشه المنطقة. باختصار شديد: إن الهزيمة العسكرية تقود إلى طُغمٍ حاكمة لا تضع مصلحة الشعب فوق كل اعتبار. يصدر عن هذه الطُغم الحاكمة قرارات سياسية وإدارية فاسدة تقود إلى معاناة الناس، وما "العشوائيات" إلا صورة من صور هذه المعاناة. وبهذا المعنى يتضح الرابط بين الأحداث السياسية الواردة في الفيلم وبين الأوضاع التي تعيش فيها الشخصيات. فشخصيات "حين ميسرة" حتى وإن كان معظمها يعطي ظهره للتلفاز وهو يبث أنباء حرب احتلال العراق –لأنهم لا يعرفون أصلا أين تقع العراق-، إلا أن ما هم فيه من معاناة –دون أن يعوا ذلك بالطبع- هو جزء من نتائج هذه الحروب والهزائم العامة التي أوصلت الناس إلى الفقر والجهل وحرمتهم من حق الحياة الكريمة. يبدع فيلم "حين ميسرة" مونتاجيّا في الربط بين قصف بغداد وتفجير خلية انتحارية للقنابل داخل الأحياء الشعبية: قذيفة على بغداد وقنبلة تنفجر في حارة عشوائية حول القاهرة. كما يبدع الفيلم أيضا في الربط بين ضربات الدفوف وهي تهز خصر الراقصة المتغنجة، وبين أزيز الرصاص الذي يحصد الفقراء. كل هذا المزيج مرتبط فعليا بعضه ببعض، وهو ربط لا يراه إلا المبدع ذو البصيرة الرائية، فكل قذيفة تسقط على بغداد يسقط معها إنسان برئ في مكان ما حول هذا الوطن العربي واقعا في براثن المذلة وضحية أخرى لسياط الاستبداد والفقر وانعدام الحياة الكريمة.
* * *
يزخر فيلم "حين ميسرة" بالعديد من الشخصيات الرئيسية والثانوية، أهمها إجمالا هما شخصيتا "عادل حشيشة" و "ناهد". عادل -الملقب في الحارة باسم "حشيشة"- شاب في مقتبل العمر يعمل ميكانيكيا، لكن الفقر الذي يطوقه –مثل كافة سكان الحارة- يجعل حياته صعبة، فهو يعيش مع أمه التي تربي حفنة من أطفال ابنتها. الابنة غائبة تبحث عن لقمة العيش في مكان آخر بعد أن هجرها زوجها. على عادل ليس فقط إطعام نفسه ووالدته، ولكن إطعام أفواه الأطفال الذين يفترشون الأرض جميعا عند نومهم في بيت يكاد ينعدم فيه الأثاث. يتعرف عادل على الفتاة ناهد. ناهد بدورها نموذج آخر من نماذج الحياة القاسية. هي شابة يافعة تفر من البيت لاستمرار زوج أمها في التحرش بها، وأينما تذهب فإن الجميع يطمع في جسدها، باستثناء عادل الذي يلتقي بها بالصدفة ذات يوم فينقذها من تحرش أحدهم بها. تثمر علاقة عادل بناهد عن حمل، إلا أن الفقر يجبر "عادل" على رفض أبوّة الطفل لأنه –أي عادل- ليس بحاجة إلى فم آخر لإطعامه. هذه فقط نقطة البداية في الفيلم، أو الأرضية الأولى التي احتلت العشرين دقيقة التأسيسية من ساعتين وربع الساعة هي مدة الفيلم. في الفيلم أكثر من ذلك بكثير جدا من الأحداث المتشابكة والمتعددة. وإذا كانت القصة التي سردناها تدور أحداثها عام 1990، فإن آخر مشاهد الفيلم تقع عام 2003، حيث يكون ابن عادل وناهد قد تحول إلى متشرد يعيش بين مكبات القمامة وقد وصل بالكاد لسن البلوغ، وأصبح هو بدوره أبا لطفل صغير ليكمل هو وابنه مسيرة الأب والأم: ضحيتان جديدتان من ضحايا الفقر وفقاعتان في دوامة الضياع الأبدي في عالم العشوائيات الذي لا يرحم. إنه قاع المدينة الحقيقي، حيث الخشونة سيدة الموقف، وحيث القيم الأخلاقية تتخذ طابعا آخر خاضعا لمتطلبات لقمة العيش، وحيث مقولة "لا أحد يبات بلا عشاء" تبدو باطلة كليا، فشخصيات ذلك القاع ما أكثر ما يبيتون لياليهم بلا عشاء وبلا حتى إفطار.
قدم "حين ميسرة" عالم سكان العشوائيات بشكل لم تذهب إليه السينما المصرية بهذا التكثيف والتعمق من قبل. لقد تمكن خط القصة والمعالجة الفنية من نقلنا إلى مناطق ما وطأتها أقدامنا من قبل ولا أبصرتها عيوننا. فهنا عشرات الشخصيات من المهمشين الذين يتعفف عن تناول عوالمهم الكثير من صناع السينما. يُروى أن مخرجا مصريا "عالميا" شاهد فيلما مصريا تناول الحياة المحزنة لسكان إحدى قرى الصعيد فقال: "هل هناك حقا ناس يعيشون بهذا الشكل؟ لو كانوا حقا موجودين فإنهم لا يستحقون عمل فيلم عنهم، لكنهم يستحقون الضرب بالنار!". إن أهمية فيلم "حين ميسرة" تأتي من هذه الحقيقة وهي أنه قد ذهب بجرأة وقوة لينقل لنا حياة عوالم أخرى لا نراها عادة على الشاشة، وهذا بالطبع جزء أصيل من مهمة صانع السينما الحقيقي. استطاع خالد يوسف أن يتجاوز سينما التزويق والطبطبة التي تروّج للأشياء سياحيا وتنتقي أفضل الشوارع والبنايات والديكورات، ليخرج بفيلم يقدم صورة غير مألوفة عمن يستحقون حقا أن تلتفت السينما إليهم وتنشغل بهم. لم يجامل "حين ميسرة" السُلطة في شيء، على العكس من ذلك، فضح الفيلم بجرأة استغلال العناصر الأمنية لمناصبها وقسوتها المفرطة في التعذيب. أظهر "حين ميسرة" بجرأة تستحق الالتفات إليها أن صناع القرار لا يرون في العشوائيات إلا ميدانا للألعاب السياسية ولتحقيق المآرب الخاصة. لتوضيح هذه الصورة ينبغي سرد جزء من قصة الفيلم تبين علاقة عناصر الأمن بحياة العشوائيات. بصفة عامة فإن الشرطة تخشى دخول العشوائيات نظرا لقسوة الأمور هناك، ولكون قانون الشرطة ليس هو القانون الأقوى، إذ أن القانون الأقوى في العشوائيات هو قانون البقاء للأصلح. والأصلح في عالم العشوائيات هو من يحترف استخدام "المَطوة" والسكاكين أفضل من غيره. ولأنه لا مفر للشرطة من دخول العشوائيات بين حين وآخر حين تزيد الفوضى كثيرا عن المسموح به وتتخطى الخط الأحمر، فإن ثمة أعوانا للشرطة داخل العشوائيات يسهّلون المهام. هؤلاء الأعوان هم من القبضايات الذين تغض الشرطة الطرف عن نشاطاتهم داخل الحارة طالما يقدم هؤلاء خدماتهم لرجال الأمن. إلا أن أهل السلطة لا أمان لهم، وحساباتهم مختلفة وفقا للمصالح المتغيرة، ولذا فإن التضحية بأعوانهم داخل العشوائيات مسألة واردة. في فترة من فترات حياته يتمكن "عادل حشيشة" من أن يصبح زعيم الحارة، إلا أن تسيّده في التحكم بالحارة يزعج الكرامة الشخصية لأحد مسؤولي الشرطة الذي يرى أن "عادل" قد "نبتت له أظافر وحان تقليمها". يلقن الشرطة عادل درسا بجرعات من التعذيب بعد أن يلفقوا له جريمة حيازة المخدر. لا يكتفي خالد يوسف وكاتب قصة الفيلم ناصر عبدالرحمن في الوقوف عند هذه النقطة في فضح تعامل السُلطة مع العشوائيات ومساهمتها الملحوظة في مفاقمة أزمة حياة من يعيشون بهذه  العشش، وإنما يذهبان أبعد من ذلك في نهاية الفيلم حين لا يتردد صناع القرار في نسف إحدى الحارات على رؤوس ساكنيها وكأن من يعيشون هناك مستعمرة نمل أو حشرات وليسوا بشرا. يَنْصُب بعض الانتحاريين فخا لرجال الشرطة داخل الحارة مما يؤدي لمقتل عدد كبير من رجال الأمن. العشوائيات –كما يُظهِرها فيلم "حين ميسرة"- مكان ملائم لخلق واختباء العناصر المسلحة و"الإرهابيين" وذلك بسبب ضعف قبضة يد الشرطة على هذه الحارات. على أية حال فإنه، وكرد فعل لمقتل ذلك النفر من الشرطة على يد المسلحين، فإن مسؤولا رفيعا في الدولة يأمر بتلقين الانتحاريين درسا قاسيا وذلك باقتلاع الحارة كاملة بالجرافات بحثا عن العناصر المسلحة المختبئة. المصير المؤلم للحارة العشوائية التي غطّى أزقتها فيلم "حين ميسرة" يبرز في الرسالة الختامية التي يقولها الفيلم: هذه العشوائيات التي نشأت تحت ضغط الفقر والبطالة وسادها قانون اجتماعي وأخلاقي قاسٍ خاصٌ بها، هي في نظر الحكومة ليست أكثر من أكوام صفيح يمكن لقرار سياسي أن يزيلها هي وأهلها بجرة قلم. إن القرار السياسي –الذي هو بيد الطُغمة المتحكمة في البلاد والعباد- قد ظل مكتوف اليدين ناظرا للعشوائيات وهي تنشأ وتتكاثر وتتوسع دون أن يفكر أحد من صنّاع القرار يوما في البحث عن حل لها وأن يرتقي بساكنيها إلى مصاف الحياة الإنسانية الكريمة. هذا القرار السياسي الذي لم يتدخل يوما لوضع علاج لمآسي سكان هذه العشوائيات، يتدخل فجأة بقسوة واستبداد وبمجرد جرة قلم ليقول أن العشوائيات مستعمرات تنبغي إزالتها بمن فيها بالجرافات إذا ما تعرضت "كرامة" السلطة للإساءة لها. أين كانت كرامة السلطة إذن حين كانت العشوائيات تزحف كالفطر عاجّة بالمساكين من ضحايا القرارات السياسية والإدارية العاجزة التي لم تفعل شيئا يوما لانتشال الناس من طاعون الفقر والبطالة والعوز؟
* * *
ينتمي فيلم "حين ميسرة" بجدارة لميراث ما يُعرف بـ "السينما الثالثة"، وهو مصطلح نقدي يشير إلى سينما دول العالم الثالث –تحديدا دول أمريكا اللاتينية- المشغولة بتفاصيل البسطاء والفقراء والثائرين والمسحوقين وبموضوعات "مختلفة" عما تقدمه السينما السائدة، حيث يتم عادة تقديم هذه الموضوعات بوسائل تعبيرية مختلفة تتصف بأنها أقل ولعا بالمؤثرات البصرية والحركية وبالديكورات الباذخة. وبهذا المعنى فإن اصطلاح "السينما الثالثة" يقف مناهضا لما يمكن تسميته بـ "السينما الأولى" والتي هي سينما هوليوود ذات القصص المفبركة التي لا علاقة لمعظمها بالناس العاديين، كما يقف مفارقا لـ "السينما الثانية" التي هي سينما أوروبا المسيطر عليها منهج "سينما المؤلف" والمتصفة بصفة عامة بمعالجة بصرية ذات طابع برجوازي وبحوارات بطيئة ومشاهد طويلة. تقف "السينما الثالثة" في خندق آخر معبرة عن المهمشين والمسحوقين. لا يعني لغتها التعبيرية أيَّ زخرف وزركشة مبالغ فيهما أوتجريب تقني شاطح، مثلما لا يعنيها وجود أبطال خارقين كسوبرمان والرجل الوطواط. إنها سينما تنهض بوجود قصة قوية مستلهمة من نبض الشارع، وذات توجه "تحريضي" للتغيير، وبإخراج واقعي (غالبا) يركز على "قول الحقيقة" واستنهاض المتفرج ليكون له موقف عملي فاعل مما يراه في الفيلم. من هذه القاعدة المتينة المسماة "السينما الثالثة" يستقي خالد يوسف قوة فيلم "حين ميسرة". إن التصوير في العشوائيات والحياة الشخصية مع سكانها لنقل صورة حقيقية عنهم هو جزء من الخصال العامة التي تجمع مبدعي تيار السينما الثالثة الذين يستمدون موضوعاتهم من بيئات عايشوها وخبروها فعليا. ففي الوقت الذي يتجنب فيه الفرد العادي دخول إحدى العشوائيات، فإن خالد يوسف وطاقمه قد تعرفوا عن كثب على ما يحدث هناك ونقلوا للمشاهد صورة مقربة عما عايشوه وشاهدوه. ولأن الصورة التي نقلها خالد يوسف بعدسة مصوريه تختلف عن الصورة التي يريد الإعلام الرسمي إظهارها، فقد اُتهِم الفيلم بأنه يعمل على تشويه صورة مصر وهناك من دعا لمحاكمة فريق العمل، وهي تهمة جاهزة لأي مبدع في الوطن العربي يتجرأ على فضح ما لا يحب ذوو البدلات الأنيقة أن يظهر في وسائل الإعلام.
* * *
يبدو الألم كما لو أنه القدر المرسوم للعشوائيات وهي تواجه خطر النسف وليس ترياق إعادة البناء والتخطيط العمراني السليم. رجال الأمن ما اهتزت لهم طرفة جفن وهم يهدمون الحارة بالجرافات، أما الانتحاريين –الذين هم من أبناء الحارة نفسها- فهم أيضا ما أخذتهم رأفة بأحد وهو يلغّمون كافة أركان الحارة لنسفها وهم يهربون منها قبل هجوم العسكر. بأيدي هؤلاء أو هؤلاء فإن النسف هو مصير الحارة. لا أحد يفكر في علاجٍ للوضع القائم أو مساعدة البشر الذين وجدوا أنفسهم بلا أدنى ذنب يعيشون ذلك الواقع القاسي. إن ما يفكر به الآخرون هو نسف العشوائيات فقط وكأن أهاليها اختاروها طواعية ليسكنوها لا كأن الفقر والظلم والفساد فرضها عليهم فرضا. بين الرحمة الغائبة لدى الانتحاريين ورجال الأمن على حد سواء، وتحت قبضة الفقر وشظف الحياة، يعيش المكلومون من سكان العشوائيات إلى "حين ميسرةٍ" تأتيهم لتنزاح الغمة ويأتي الفرج. فهل ستأتيهم الميسرة يوما؟ وهل سيسهم هذا الفيلم في شيء من هذا ولو قليلا؟!