13 August 2014

هل العمانيون حُساد بالفطرة؟

كُتبت هذه المقالة في 2 يوليو 2008م. ونُشرت في مجلة الرؤيا عدد يوليو 2008م



أخطر عيوب الشخصية العمانية

قبل نحو سنة وبضعة أشهر* أجرت مجلة "روز اليوسف" المصرية استفتاءً حمل عنوان: "أخطر 10 عيوب في الشخصية المصرية". تناول التحقيق الموسع وجهات نظر العديد من الشخصيات المعروفة والمجهولة عما يمكن اعتباره سلوكيات غير مرغوبة شائعة في المجتمع المصري. بدون شك فإن طرحا من هذا القبيل مهم للأفراد ليعرفوا أنفسهم بصورة واضحة وليتعرفوا على ملامحهم العامة علهم يجتازون السلبي إلى الإيجابي. ونظرا لأهمية هذا التحقيق الصحفي وتميز فكرته فقد قلدته بعد نشره بعدة أسابيع صحيفة أردنية قدمت توصيفا لعيوب الشخصية الأردنية. الفكرة مغرية للدرجة التي لا يمكن معها أن يتجاهل المرء الرغبة في تطبيقها على المجتمع الذي يعيش فيه. ترى: ما هي أخطر عيوب الشخصية العمانية؟

تلعب الثقافة والجغرافيا والعوامل التاريخية المختلفة دورا كبيرا في تحديد هوية أي مجتمع وفي الطباع العامة التي يكتسبها أبناء هذا المجتمع على مر السنين. على الصعيد الجغرافي فإن عُمان –تقليديا- دولة شبه معزولة (بريّا) وبعيدة عن كثير من المؤثرات التي ساهمت في صقل بقية المجتمعات العربية. إن شراكتنا في الكثير من السلوكيات وأنماط التفكير واضحة مع دول شبه الجزيرة العربية (مع اختلافات في التفاصيل)، إلا أننا بالكاد نشترك في شيء مع الشخصية المصرية أو اللبنانية أو التونسية على سبيل المثال لا الحصر سوى في الخطوط العريضة كوننا مجتمع عربي مسلم. عدا ذلك فالبون شاسع بيننا وبين كثير من الشعوب العربية وذلك لأن بلادنا تقع في أقصى شرق شبه الجزيرة العربية، حيث التأثر بالهند وباكستان منطقي أكثر من التأثر ببلد مثل ليبيا أو الجزائر. هكذا إذن ساهمت الجغرافيا في منحنا جزءا من هويتنا. لقد عزلتنا الجغرافيا عن مؤثرات خارجية، فعلى سبيل المثال فإنه نظرا للبعد الجغرافي فإن السلاطين العثمانيين لم يصلوا إلى عمان ولا سعوا لفرض سلطة مباشرة عليها، ولذا ففي الوقت الذي نجد فيه تأثيرا قويا باقيا للثقافة والاحتلال العثماني لأجزاء شاسعة من الوطن العربي مثل سوريا وفلسطين ولبنان (وهو تأثير واضح في الأزياء والأكلات والموسيقى)، فإن مثل هذا التأثير لم يمتد لعمان. إلا أن ما لعب دورا أكبر في تشكيل ملامح الشخصية العمانية ليس هو البعد الجغرافي، ولكنه الانعزال السياسي الذي مرت به البلاد في آخر مائتين سنة قبل عام 1970م. فبعد اضمحلال الإمبراطورية العمانية وتقلصها –بعد أن كانت تسيطر على أجزاء واسعة من شرقي إفريقيا- غرقت البلاد في دوامات صغيرة وكبيرة من الانقسامات الداخلية والحروب القبلية الطاحنة. في ظل هذه العزلة السياسية ازداد الفقر وتقلص دور العلماء فعم الجهل وشاعت الخرافات، وأصبح الخوف والتوجس شائعين في الأجواء، وتضخمت سلطة القبيلة فتحولنا إلى مجتمع قبلي وليس مجتمع مدني قانونا ومؤسساتيا وتشريعيا. إن الملامح الرئيسية العامة للشخصية العمانية المعاصرة هي الخلاصة التي تمخضت عنها سنوات العزلة والخوف والحذر وقتال الأخ لأخيه لأسباب قبلية. يجدر الإشارة بطبيعة الحال إلى أن ملامح الشعوب متغيرة دوما وهي مرتبطة بالمستجدات السياسية والاقتصادية والحضارية المختلفة، وبهذا المعنى فإن توصيف ملامح مجتمع من المجتمعات لا يسعى للقول أن هذه الملامح تظل ثابتة في المجتمع. بل إنه حتى السلبي من السلوكيات وأنماط التفكير والتصرف الجماعي لا يمكن إدانتها إدانة جاهزة لكونها أصبحت غير مقبولة في زمن ما، فتلك السلوكيات هي وليدة ظروف تاريخية وعوامل كثيرة متداخلة، وهي أيضا لا تنطبق بالضرورة على كل فرد من أفراد المجتمع الذي يجري توصيفه. فضلا عن ذلك فهي متغيرة متبدلة. إلا أن كل هذا لا يمنع المرء من التعرف على المحيط الاجتماعي الذي يحيا فيه والنظر إلى صورته في المرآة، فهذا يساعد أولا في التعرف على الذات--وهي بحد ذاتها قيمة مهمة ومكسبا جيدا بغض النظر عما يمكن أن يتمخض عنه هذا التعرف تاليا من نتائج وتبعات. كما يساعد التعرف على ملامح الهوية المحلية لإقليمٍ ما في فهم الطريقة التي يرانا بها الآخر، وذلك سعيا لفهم وتحسين الآلية التي نتعامل بها مع الآخر لاسيما وأن العالم اليوم بات قرية صغيرة لا مناص للمرء من أن يحتك فيها بآخرين ممن لا يشاركونه نفس السلوكيات والموروثات الثقافية غير المادية. إن التعرف على عيوب مجتمع معين –بالأخص من قِبَل أبنائه- يساعد هذا المجتمع على تطوير ذاته وانتهاج أنماط تفكير وسلوكيات أكثر إيجابية، وهو يؤدي إلى نبذ غير المرغوب فيه من موروثات خلّفتها حقب تاريخية ولّت وعلى آثارها السلبية أن تخطو خطاها فتغادر إن لم تعد صالحة لهذا الزمان.
* * *
إذا أصغينا لصوت الشارع المحلي ورأي الإنسان العماني في نفسه، فإن وجهة نظر العماني لذاته تنتقي دائما سلوكا اجتماعيا محددا يتفق عليه عامة الناس بأنه أسوأ عيوب الشخصية العمانية. هذا العيب –وفقا لسواد الناس- هو ما يسمونه الحسد، ويعنون به غياب حب الخير من الفرد للآخرين، وكذلك شعور البعض بالحقد أو الكراهية لمن ينال خيرا في الرزق. كما يشمل الحسد –وفقا للتوصيف المحلي- عدم رغبة الشخص في مساعدة الآخرين حتى ولو كان في موضع يؤهله لتقديم المساعدة لهم. يؤمن العمانيون بقوة أنهم حساد (أي لا يحبون الخير لأحد)، إلا أن المفارقة المعروفة لدى علماء النفس والاجتماع هي أن الصورة الذهنية التي يحملها فرد أو مجتمع عن نفسه ويؤمن أنها الصحيحة، قد تكون لا علاقة لها مطلقا بصورته الحقيقية التي يراه الآخر عليها. بالنسبة لي شخصيا لا تبدو سمة ما يسمى بـ "الحسد" خصلة حقيقية في المجتمع العماني. الوضع هنا ليس أسوأ أو أفضل مطلقا من أي مجتمع آخر في الشرق أو الغرب. فعدم حب البعض لمساعدة الآخرين صفة موجودة في كل المجتمعات، وهي ليست واضحة أو فاعلة بصورة جلية في المجتمع العماني بحيث تستحق النظر إليها بهذا التضخيم الذي يراه الشارع العماني. لماذا اختار الإنسان العماني إذن هذه الصفة ليسلط الضوء عليها ويعتبرها أكبر عيوب الشخصية العمانية؟ يعود هذا في رأيي إلى عدة أسباب منها "خداع الصورة الذاتية"، وأعني به ما ذكرته قبل قليل من أنه أمر معروف ومدروس لدى علماء النفس والاجتماع أن الأفراد والمجتمعات يرون أنفسهم بصورة غير التي يراها بهم الآخرون. السبب الثاني هو عدم قدرة الشارع العماني على الذهاب أبعد لتأمل ذاته وتوصيف ملامح صورته الحقيقية. الأمر يشبه الفنان الذي يرسم لوحة جدارية كبيرة الحجم، عليه أن يبتعد عنها ليراها أوضح. والعمانيون –وهذه من سمات شخصيتهم الحقيقية لا المتوهمة- لم يعتادوا بعد على رؤية أنفسهم في عيون الآخر. لا الثقافة الشعبية المتوارثة فيها شيء يرينا صورتنا في عيون الآخرين (إلا ما نود سماعه من مديح لذواتنا) ولا إعلامنا الحديث يُسمِعُنا صوتا آخر غير الصوت الرسمي. إن معرفة الذات تحتاج إلى مكابدة ودربة وخروج نحو الخارج. تحتاج إلى سفر واطلاع واختلاط بالآخر، ولأن هذه المتطلبات غير متوفرة لدى عموم الناس فإنه من الطبيعي ألا يتمكنوا من رؤية صورتهم الحقيقية واضحة، وبالتالي فإنهم يختارون صفة بديلة يحمّلونها إخفاق الذهاب للأقاصي. السبب الثالث في اختيار العمانيين للحسد كأكبر عيب اجتماعي في الشخصية المحلية هو اقتراب هذه الصفة من شيء آخر شبيه نسبيا لا يعرف الفرد العادي كيف يصفه، أو بالأحرى لا يجرؤ الفرد العادي على إدانته. هذا الشيء هو أننا مجتمع قبلي عُرفيا، والقبائل كانت دوما في حالة صراع وحروب للدرجة التي يمكن معها القول أنه متوقع جدا أن لا يسعى فرد من قبيلة معينة لتحقيق خير لفرد آخر من قبيلة أخرى، بل إن العكس تقليديا هو الأقرب للصحة. فالخوف والتوجس من الآخر وكتم الأسرار وإظهار المرء خلاف ما يبطن جميعها سلوكيات رسّخها النظام القبلي المتعفر بتاريخ من الحروب والعداوات. لم يستطع العماني بعد أن يتخلص من السيطرة التقليدية لمؤسسة القبيلة وتحكّمها في قراراته الشخصية المصيرية، ولكنه مع ذلك لا يستطيع لغاية الآن أن يدين نظام القبيلة أو يحرك نحوه إصبع اتهام باعتباره مسؤولا عن جزء من بعض السمات غير المرغوبة في الشخصية العمانية، ولذا فقد اختار اللاوعي الجمعي للفرد –المؤمن بالقبيلة والمتذمر في آن من بعض آثارها-، اختار هذا اللاوعي ان لا يسمي القبيلة بالاسم عند الحديث عن خصال التوجس والخوف من الآخر وعدم الرغبة في المساعدة، وإنما عوضا عن ذلك اتجه العقل الجمعي لإطلاق كلمة مريحة متصالحة مع الجميع اسمها "الحسد" لتصف ما لا يحبه العماني في نفسه وما لا يتجرأ على تسميته باسمه.

توجد الكثير من التبعات السلبية للانتماء القبلي تجعل هذا النمط غير متوافق مع الحياة المعاصرة التي تديرها مؤسسات المجتمع المدني التي تؤمن باستقلالية الفرد ونضجه وحريته في اتخاذ قراراته ومسؤوليته عما يقوم به. النظام القبلي هو على خلاف مع كل ذلك. إنه ضد الفردانية ويعمل على تذويب الفرد ليخدم المجموع بحيث تُلغى ذاته. ويتجزأ مفهوم الوطن أو المجتمع الكبير –بوجود القبيلة- إلى تحالفات صغيرة متناحرة أو على أقل تقدير غير ودودة نحو بعضها البعض. إن القبيلة تقليديا قد ألغت الصوت الفردي الحر وقمعته، وحولت الفرد إلى كائن خائف خنوع يسعى لإرضاء الآخر دائما وليس له طموح خاص به، ولذا فقد شاع التقليد الأعمى للآخرين وظهر مبدأ "حَشْرٍ مع الناس عيد!". كما أصبح الفرد خانعا مستسلما للقدرية ولا يد له في تقرير مصيره. ولأن الحروب كانت دوما موجودة مما يعني أن البوح بسر ما قد يكلف غاليا، ولذا فقد تعلم الناس الخوف والتوجس من بعضهم البعض، وأصبحوا يُظهرون خلاف ما يبطنون فشاع الكذب والنفاق. أما الجهل والانغلاق فقد أضاعا فرصة التعلم من الآخرين (أين هم الآخرون على أية حال؟!) مما أسهم في دمغ الشخصية المحلية بطيبة زائدة تصل عند الكثيرين حد السذاجة. كل هذه الموروثات لا تختفي في يوم ولحظة لاسيما وأن عمر انفتاح البلاد على الآخر لم يتعد أربعة عقود من الزمن. اختزل الإنسان العماني هذه السمات في كلمة واحدة هي "الحسد"، وهي كلمة غير دقيقة لوصف واقع الحال، ولكن على ما يبدو أن اللاوعي الجمعي قد ارتضاها بديلا مسالما يعبر عما لا يستطيع الوعي أن يبوح به من مثالب.

إن ملامح المجتمعات متغيرة ومتبدلة بمرور الأيام، كما أن معرفة عيوب مجتمعٍ ما لا تهدف إلى انتقاصه، فلا يوجد مجتمع كامل، وذلك فضلا عن حقيقة أن وجود سمات عامة لمجتمعٍ ما لا يعني أن ذلك ينطبق بالضرورة على كافة أفراده. إنه مما لاشك فيه أن الحديث عن العيوب لا يعني أنه لا توجد إيجابيات تستحق الذكر، ولكن لكل مقام مقال. وإذا كانت زاويتنا اليوم هي عيوب الشخصية العمانية فما إيرادها إلا لنعرف أنفسنا أكثر ونحسن من أنماط حياتنا بحثا عن مزيد من الشفافية وسعيا لتحسين واقعنا وفهم دوافع سلوكياتنا ومرجعيات أنماط تفكيرنا وتصرفاتنا.

*تحقيق مجلة روز اليوسف المصرية تم نشره في نوفمبر 2006.

No comments:

Post a Comment

Note: Only a member of this blog may post a comment.