23 November 2014

حول التحرش في مسيرات السيارات المُزيّنة

حول التحرش في مسيرات السيارات المُزيّنة


من المظاهر الاجتماعية المستحدثة في بلادنا الخروجُ الشبابي في مسيرات جماعية بالسيارات المُزيّنة في مناسبات معينة، أبرزها لغاية الآن مناسبات فوز المنتخب الوطني في مباريات رياضية، وكذلك بمناسبة احتفالات البلاد بالعيد الوطني. بالنسبة للجزئية الأخيرة فأنا لا أتحدث هنا عن المسيرات المنسقة سلفا من الجهات الحكومية المختلفة وعلى رأسها مكاتب الولاة والمدارس، والتي تتم في وضح النهار، ولكني أشير إلى مسيرات الليل الشبابية التي لم تقم برعايتها –علنا- أية جهة حكومية، وهي مسيرات أبطالها السيارات والدراجات النارية والشباب المتزينون بإكسسوارات تحمل رموزا وطنية، كرسم العلم على الوجوه ووضع الشعر المستعار على الرأس. ميادين هذه المسيرات هي الشوارع الرئيسية في مسقط وبعض الولايات، وقد ازدهرت بالأخص في العيد الوطني الماضي وهذا العام، وكان لها وجود سابق قوي في حادثة واحدة هي فوز منتخبنا الوطني لكرة القرم بكأس خليجي 19 عام 2009م، حينما أغلق المحتفلون شوارع مسقط الرئيسية حتى ما بعد ساعات الفجر. لكن هذه المسيرات كثيرا ما تنتهي بتحفظات اجتماعية عليها وتؤدي إلى إثارة نقاش حاد، لاسيما لعمليات التحرش ببعض الفتيات المحتفِلات والذي رصدته كاميرات الفيديو بالهواتف خلال العامين الماضيين. فكيف نقرأ ما يحدث في هذه المسيرات من خلال ردات فعل المجتمع؟

ثقافة مسيرات الفرح الشبابية بالسيارات المزينة ظهرت بالتزامن في بلدان الخليج العربي، ولعل واحدة من أبكر المناسبات التي قادت لمسيرات شبابية في عواصم الخليج هي انطفاء شمعة ليلة 31 ديسمبر 1999 ودخولنا في الألفية الجديدة. شخصيا كنتُ ليلتها في دبي حين انطلقتْ مسيرات السيارات المزينة وأصوات (الهرنات) تصطخب في الشوارع. على ما يبدو أنه لم يكن بمستطاع السلطات أن ترفض مسيرات السيارات المزينة جملة وتفصيلا منذ أول انطلاقة لها--ربما انتظارا لما سوف تسفر عنه. فبدون حدوثها ليس بوسع المرء أن يمنعها منعا مسبقا، ولماذا يمنعها وليس بيده دليل على أنه سوف يسفر عنها ما يخل بالنظام والآداب العامة؟ يبدو أن موقف السلطات الخليجية كان مع السماح بها خشية وقوع ردود فعل عكسية لو تم المنع. لكن تلك المسيرات أفرزت حقا ما يخل بالنظام العام والآداب الاجتماعية السائدة. لقد أفرزتْ قطعا للطرق يمتد عدة ساعات ويؤدي إلى تعطيل حياة الناس، لاسيما مَن هم بحاجة لمشاوير ضرورية. كما أفرزتْ حالات من التحرش بالفتيات (لا علم لي بعددها وهل هي محدودة جدا أم كثيرة نسبيا)، ورقصا -من الأولاد، بالأخص- تجاوز حدود اللياقة. وانقسمت الآراء بين من اعتبر ذلك مظهرا طبيعيا مؤقتا كون الظاهرة كلها جديدة وسف تصنع لنفسها ضوابط ومعايير سنة وراء أخرى. وهناك من رأى العكس، إذ يخشى هؤلاء أن تتزايد السلوكيات غير المرغوبة عاما وراء آخر. وكان المتشددون الدينيون، كالعادة، يصيدون في الماء العكر، فسعوا إلى تضخيم ما يحدث وترويع المجتمع منه، وتحريض السلطات على الشباب المحتفلين اتكاء على حوادث فردية حدثت، لغاية في نفوس هؤلاء تتمثل في سعيهم الدائم لقتل كل مظاهر الفرح من حياة الناس. وبين كل هذا وذاك انتشر سجال مجتمعي داخل الأسر وعبر مواقع وبرامج التواصل الاجتماعي حول مشاركة الفتيات في مسيرات السيارات المزينة سواء كُنّ راجلات أو على متون سياراتهن. وهو سجال ساخن يستحق التوقف عنده.

بعد أن أثبتت كاميرات الفيديو بالهواتف وقوع حالات تحرش بالفتيات المحتفِلات، تمثلت غالبا في محاولات بعض الشباب فتح أبواب سيارات الفتيات وإخراجهن منها، وهي على ما يبدو حالات محدودة جدا وفقا لما صورته مقاطع الفيديو، وقد يكون هناك أكثر منها مما لم يتم توثيقه.. بعد ثبوت هذا، سارعت طوائف كثيرة في المجتمع إلى لوم المرأة وكأنها هي المسؤولة الأكيدة والوحيدة عما حدث. وانبرى من يطالبون بعدم مشاركة الفتاة في مثل هذه المسيرات الشعبية. هذه الفئات شملت المتدينين الذين كانوا دوما وأبدا يرون مكان النساء في الخيمة المغلقة عليها، كما شملت آباء وأخوة أرادوا إراحة رؤوسهم من تقريع المجتمع، مع أنه –كالعادة- فإن نصفهم يذهبون لهذه المسيرات لرؤية الفتيات المتزينات قبل أي سبب آخر. وأيضا كانت هناك نساء ربما يكن أكثر شراسة من تلكم الطائفتين، وهن نساء تشددن في إدانة أخواتهن اللاتي يخرجن في هذه المسيرات باعتبار أنه ليس عليهن أن يقلدن الشباب الذكور. ربما كان من ضمن هؤلاء نساء يستشطن غيظا لأنهن لا يستطعن الخروج في المسيرات لأسباب مختلفة، فتأتي ردة فعلهن بالغيظ على من تستطيع ذلك من بنات جنسهن من مبدأ "اللي ما يطول العنب...". وهكذا، فقد وُجِدت شرائح جماهيرية مختلفة –كلٌّ له أسبابه الخاصة- ألقت بلائمة التحرش في مسيرات السيارات المزينة على الفتيات وحدهن، وتم اعفاء الشباب الذكور من أية مسؤولية عما يجري!


لو تأملنا المشهد أعمق، لرأينا حزمة من التوجهات والأفكار غير المنصفة تجاه المرأة فيما يخص مسألة مشاركة الفتاة في هذا النوع من المسيرات وفي قيام بعض الأولاد بالتحرش بهن. الفكرة التي ترى أنه ليس على الشابة المشاركة في مسيرة بسبب فوز المنتخب في مباراة لكرة القدم هي فكرة ترى أن الفرح حق مقصور على الذكور فقط. إنها وجهة نظر تتجاهل حقيقة أن هناك عددا كبيرا جدا من الفتيات لهن اهتمام بالرياضة ويتابعنها بنفس الشغف كالرجال. وبالتالي فإنه أمر فطري أن يكون للفتيات حق التعبير عن الفرح بفوز المنتخب مثلما هو حق مكفول للأولاد. نفس هذا الفكر الذكوري المهيمن هو ما يتبنى مسألة إدانة المرأة عندما تقع التحرشات في المسيرات، وكأن الفتاة هي التي دعتْ الشباب ليقتحموا عليها سيارتها ويحاولوا سحبها منها. ما رصدته كاميرات الهواتف أنّ بعض الذكور هم من تطاول وامتدت يداه لتفتح الأبواب، مثلما تطاولوا بالألفاظ النابية والجارحة يرشقون بها الفتيات. فما ذنب الضحية حين يُعتدى عليها؟ في حالات كهذه، مهما كانت نادرة، فإن الانكفاء على سجالات (هل يحق للمرأة المشاركة في المسيرات أو لا يحق) هي سجالات ليست ذات أهمية بقدر أهمية تفعيل القوانين المدنية ضد من يخالف القانون. لو أنّ من قام بفعل التحرش في العام الماضي نال عقابه القانوني على فعلته بموجب القوانين المدنية المنصوص عليها لفكّر الشباب الطائشون مرتين وثلاثا قبل أن يرتكبوا سلوكا مشابها هذا العام. لكن فلات الجاني من العقاب أو نيله عقابا مخففا هو ما يجعل فئات اجتماعية تستمر في لوك الكلام حول (هل الفتيات هن السبب فيما يحصل لهن). إن التساهل في عدم إيقاع عقاب قانوني بحق المتحرشين يشجع على التحرش. وقد باتت نساء كثيرات يخشين من هذا الأمر. مَن يخرجن مِن دوامهن ليلا، ومن يضطررن للذهاب للمستشفى أو أي مشوار، وخصوصا من يعلقن بالصدفة في شارع تحتله مسيرة سيارات مزينة دون أن يكون قصدهن التواجد للمشاركة في المسيرة، هؤلاء صار لديهن تخوف من وقوع التحرش طالما لم تكن القوانين والعقوبات الرادعة مفعّلة على أرض الواقع. طالما كان المجتمع يلقي باللائمة على الشابة إذا تحرش بها أحد ويبرّئ الشاب من الإدانة، فإن عددا متزايدا من النساء يعشن خوف تحولهن إلى ملكية عامة مشاعة اجتماعيا إذا لم يتم حقا تفعيل القوانين والعقوبات الواجب إيقاعها على من تثبت مقاطع الفيديو ارتكابهم جرم التحرش ونراهم يسرحون ويمرحون حولنا دون أن يحاسبهم أحد على ما فعلوه.

22 November 2014

خبزٌ عَفِن

خُـبْــزٌ عَـفِـن*



الخبز يفسد في مطبخي، حتى والكيسة لم تُفتح بعد!
* * *
أعاني فقرا مُدقعا في عدد أصدقائي
إنني بحاجة لأصدقاء جدد. من أين آتي بهم؟
بل أين ذهب الأصدقاء القدامى؟!
* * *
بحاجة إلى حاسوب جديد لأن الحالي قد شاخ
ماذا أفعل بحاسوب جديد، وأنا قد شختُ أيضا؟!
* * *
إذا استبعدتُ الحبَ كشرط للزواج لغياب من تبادلني إياه، واكتفيت بالاستلطاف ....................
.......................................
.......................................
............ وحتى لو التقيتُ بفتاةٍ أستلطفها وتصلح لي كزوجة
الاستلطاف لا يستحق تجديد سلفيتي البنكية
الحب يستحق. الحب يستحق كل شيء.
* * *
أريد شراء سيارة جديدة. رغبة ملحة هذه الأيام.
ولكن، لماذا وأعطال الحالية قابلة للتصليح بواحد بالمائة من تكلفة شراء سيارة جديدة؟! أظنني سأغير السيارة لا لأنني مللتها، ولكن لأنني مللتُ نفسي بداخلها (لا أستطيع أن أغيّر نفسي) كما مللتُ المشاوير التي تأخذني إليها لا إلى غيرها كل يوم. هل سيارة جديدة تعرف دروبا جديدة لم أطرقها من قبل؟
* * *
السينما هي الشيء الوحيد الذي أشتهيه الآن
لكن كل الأفلام المعروضة رديئة
عليّ عدم الذهاب لتظل الشهوة قائمة.
* * *
"نهاري مع الناس، حتى إذا بدا لي الليل
هزتني إليك المهاجعُ"
صح لسانك يا طلال
* * *
ومع أنني بصفة عامة ضد زواج الرجل من امرأتين
إلا أنني ساعدتُ صديقا للقيام بهذا
فقط إنقاذا للزوجة الجديدة من مصير مؤلم (وذلك أخف الأضرار)

تبا لها من مجتمعات: إنها لا تعلمنا فعل ما نؤمن به، إنها تعلمنا اختيار أخف الأضرار
الأضرار التي مهما خفّت، تظل أضرارا
* * *
صديقتي المتزوجة (وأم الأطفال الأربعة) قالت حين علمتْ أني خسرتُ حبّا:
- عليك أن تفرح! ذلك يعني أن حبا جديدا آت!. ليس كل واحد يُرزق نعمةَ أن يبدأ حبا جديدا مرة أخرى في حياته!
* * *
نومة الظهيرة صارت أقسى من نوم الليل. أصبح هذا نمطا تسير عليه الأمور: بدء الإغفاء يتلازم مع انقباض حاد في القلب. أحس لحظتها أن سكتة قلبية ستخترق فؤادي، وأفز من نومي مذعورا.
أما نومة الليل فتأتي سلسة في بدايتها لأن التعب رؤوف بأبنائه. لكن نهايتها تكون قفزة من على السرير قاطعة كابوسا دمويا. المتوسط قفزتان مذعورتان في كل ليلة. لو أن امرأة تنام بجواري فإنها لاشك كانت ستُذعر حتى الموت للرعب الذي يُقفّزني من فراشي. ولكن يا صاحِ، لو كانت ثمة امرأة بجواري لما كنتُ أصلا سأقفز مذعورا من فراشي!
* * *
من أين يأتي كل هذا العنف في أحلامي؟
لاشك أنني أبذل جهدا كبيرا لكي أبعده عن واقع حياتي، طوال النهار!
* * *
قبيل نومي، كثيرا ما أفكر بترك باب الشقة غير مقفول بالمفتاح. وذلك إذا متّ فلن يصعب عليهم اكتشاف جثتي قبل تعفنها. أريدهم أن يجدوا جثتي يوم وفاتي، لا بعد ذلك بأيام.
كثيرا ما فكرتُ في فعل ذلك، لكني أخاف القيام به. وينتهي بي الأمرُ النومَ وبابُ شقتي مُقفل بالمفتاح.
أخاف أن أتركك يا بابُ مفتوحا لكي لا يكون ذلك نذيرا حقيقيا بموتي اليوم.
لا أريد أن أموت، ولتتحلل جثتي مائة مرة لغاية اكتشافها، ولكن يا موتُ امهلني اليوم، اليومَ أيضا!
* * *
ربما هو الشعور بالوحدة ما يدفعني للتفكير باقتناء قطة منزلية. لا، بل قطتان. قطة واحدة ستشعر بالوحدة. قطتان، هذا جيد. قطة بدلا عن امرأة. علّق أحد الخبثاء: الأمور تبدأ بقطة وتنتهي بنمرة! وأضاف من هو أخبث منه: ودورك أنت يا عزيزي هو الترويض! قلت: ترويض نفسي، ربما، أما عدا ذلك فلا أؤمن بما تقولون.
* * *

حلاقة لحيتي والاستحمام: أكثر شأنين يجلبان لي الفرحة بعد إتيانهما


حلاقة لحيتي والاستحمام: آخر شأنين أتحمس أبدا للقيام بهما!
* * *
ماذا لو رميتُ نفسي للمجهول؟
هل سأتأكد حينها أن المجهول لم يُخلق بعد!
* * *
لن أعترف لأحد مهما كانت الأسباب
أن لديّ ما لم أعترف به بعد!
* * *
لا الماضي كان سعيدا، ولا الحاضر، ولا المستقبل القصير المتبقي لي.
لماذا إذن عليّ أن أتشبث بهذه الحياة؟
* * *
لم تكن طفولتي سعيدة لأفتقدها، كما أنها والحق يقال لم تكن بائسة على نحو تجاوز العاديَّ لأي طفل ولد في مكاني وزماني.
لماذا إذن كلما تيقنتُ أن حاضري بائس وخاو، يرتد بصري باحثا عن نقطة مبهجة في ماضيّ... في ماضيّ الذي بالكاد أتذكره؟ أذلك لأنني أعلم علم اليقين أن مستقبلي الباقي قصير زمنيا، وأنه مملوء بالأوبئة والديدان؟
* * *
اليوم مثلا، لم أكن سعيدا لكل هذا الوقت الذي أهدرته أمام الحاسوب لمجرد قتل الوقت. ماذا كان لدي غير ذلك لأفعله؟
اليوم مثلا. الأمس أيضا. الغد كذلك، ماذا لدي غير هذا لأفعله؟!
* * *
إلى متى سأظل أخصائي إعلام تربوي. أنا الذي ليس إعلاميا حقيقيا، ولا يعنيه الشأن التربوي في شيء!
* * *
علينا قتل الأب (غير البيولوجي). علينا قتل أب الوصاية—لاسيما أب الوصاية الذكورية. علينا جميعا قتله، ولتبدأ الفتيات بذلك أولا.
* * *
الآن قد عدتُ لعُمان وكأنني لم أسافر منها أكثر من ثلاثة أعوام. هي ذي العلامة الدامغة على العودة:
لا يشعر المرء بالخواء كما يشعر به في هذي البلد.

ها قد عدت لعمان بذات أحلام اليقظة التي عشتها فيها قبل السفر: أن أفوز بسيارة ثمينة في سحب أحد المجمعات التجارية فأبيعها وأسدد أقساطي البنكية. هذه هي عمان اختصارا: حلم يقظة سخيف لا يتحقق أبدا.
* * *
أما أصعب ما في الأمر، فهو ضرورة أن لا تعرفي أي شيء عمّا أعانيه لفقدك. لكي يسهُلَ عليكِ نسياني. ما أوجع أن أبذل قصارى جهدي لأساعدك على نسياني، أنا الذي لن أنساك يوما!
* * *
ما أكثر خبزي العفن. هل من يأكله؟
* * *
أمّا حين أترك الكيسة مفتوحة، فالخبز يجف. لذا لا أمل له حتى في أن يفسد، مثلما لا أمل له في أن آكله!
ها أني أدرك أن الخبز الجاف والعفن متساويان في واحدة: كلاهما غير صالح للاستهلاك الآدمي!
* * *
"أملنا لا شفاء منه"، بدليل أننا نتذكر ذلك فقط في لحظات القنوط!

*نصوص متفرقة كتبت في أسابيع مختلفة من عام 2006. نشرتها أصلا في مجلة الرؤيا بمناسبة دخول عام 2007. كنتُ بالكاد قد بدأت أتعافى من قصة حب فاشلة وعظيمة.

21 November 2014

من أجل أن لا يتفركش الزواج بعد كتب الكتاب وقبل ليلة الدخلة..

طقوس الزواج بين المرأة والرجل!


يُعتبر الزواج واحدا من أكبر التحولات في حياة الإنسان، فهو انتقال من الفردانية إلى الشراكة، ومن العزوبية إلى تكوين أسرة جديدة. ونظرا لأهميته فإن إجراءات الزواج نفسها تأخذ طابعا طقسيا واحتفاليا. ومهما ظن الرجل والمرأة أنهما مستقلين أو ناضجين أو أحرارا، فإن الزواج في الوطن العربي لا يتم أبدا إلا بتدخل مباشر من الأسرتين، وهو تدخل يعيد الزواج إلى جذوره الأولى الضاربة إلى إنسان الكهف. في حقيقة الأمر فإن طقوس الزواج إحدى العلامات التي تشير إلى أن الإنسان كحيوان إجتماعي لم يتغير كثيرا عن الكائن البدائي الذي كان عليه قبل 10 آلاف سنة. فاحتفال الزواج ومراسمه وإجراءاته التنفيذية من دفع مهر للعروس ودعوة المعازيم وكتب الكتاب وطقوس ليلة الدخلة، كل هذه طقوس بدائية يبدو وجودها من الناحية المنطقية غريبا على إنسان القرن الحادي والعشرين الذي يتمتع بالاستقلال النفسي والاقتصادي عن ربقة القبيلة. إلا أن الزواج يأتي ليقول أن المرء –فيما يخص طقس الزواج- لا يزال يتصرف بذات العقلية الجمعية التي كان يتصرف بها إنسان الكهف. إن المقاربة التي نجريها بين طقوس الزواج قديما وحديثا، وكذلك وصفنا لهذه الطقوس بأنها بدائية، لا يهدف، بدايةً، للإساءة لهذه الطقوس أو امتداحها، ولكنه مدخل استهلالي ضروري لنفهم من أين آلت إلينا طقوس الزواج الحتمية التي يندر أن يتم زواج بدونها. من أين أتانا شيء اسمه المهر والذهب وفستان العروس الأبيض ودعوة المعازيم وذبح الثيران؟ ولماذا لا يمكن للزواج أن يتم إلا بإشراف تنفيذي مباشر من كلا العائلتين رغم أن الرجل والمرأة قد بلغا سن النضج؟ ما هو الجيد والسيئ في هذه الطقوس؟ ولماذا تفشل العديد من الزيجات قبل إتمام كتب الكتاب بسبب تدخلات الأسرتين؟ أعني هنا لماذا لا يزال مصير رجل وامرأة مرتبطا بقرار ولي أمر البنت وبالمهر الذي يحدده أو غيره من الشروط التي قد تكون تعجيزية؟ ولماذا ينوب عن امرأة بالغة ناضجة رجل من أفراد أسرتها عند قراءة الفاتحة وإعلان المِلكة وتُقصى المرأة صاحبة الشأن عن الموضوع؟ لماذا لا يحق للمرأة أن تنظر في عيني حبيبها وهو يقول "قَبِلتُكِ زوجةً لي"، بل إنها أصلا لا يُسمح لها دخول "الصالة" التي تتم فيها عملية التوثيق القانوني للزواج؟ أليس عيبا أن تكون هناك امرأة في الثلاثين من عمرها ومع ذلك فهي غير مسموح لها أن تردد خلف المأذون جملة "قَبِلتُك زوجا" ناظرةً إلى وجه حبيبها لترى أثر هذه الجملة المصيرية منعكسا على عينيه؟ أليس عيبا أن يتزوج الرجل واضعا يده في يد رجل آخر وليس في يد المرأة التي اختارته شريكا لحياتها؟ كل هذه التساؤلات تفجرها طقوس الزواج المعقدة في الوطن العربي والتي كثيرا ما تؤدي إلى انهيار الرجل والمرأة نفسيا قبل الوصول لليلة الزفاف بسبب الاستنزاف النفسي لهذين الشخصين من قبل من نصّبوا أنفسهم أوصياء عليهم.
* * *
يمكن تقسيم طقوس الزواج العربية إلى فئتين: الأولى هي المراسم والإجراءات المرتبطة بكتب الكتاب (المِلكة)، والثانية هي الطقوس المرتبطة بالزفاف. بنظرة سريعة وبلا حاجة لكثير من الفحص يستطيع المرء أن يلاحظ أن طقوس كتب الكتاب مسألة رجالية، أو بألفاظ أخرى خيار وقرار رجاليّ، أما طقوس الزفاف نفسها فهي مسألة نسائية يتحكم في تفاصيلها –من حيث اتخاذ القرار- العروس وأمها وأخواتها وخالاتها.
ما يهم الرجل العربي في الزواج (وأعني هنا ولي أمر البنت) هو تكريس الذكورية بكافة متطلباتها وإفرازاتها. فهناك المهر وهو شيء بدائي جدا لم يعد له وجود إلا في المجتمعات الأقل تحضرا. يُسمى المهر بالإنجليزية Dowry ويسميه الأمريكيون بالعامية woman price وتعني حرفيا "سعر المرأة". ومهما كانت الجملة القادمة جارحة للنساء فإن المهر شيء مشين لأنه ببساطة عبارة عن عملية تسعير للمرأة وتحويلها إلى سلعة يبيعها مالكها الذي يسمّي نفسه ولي الأمر. لا نعرف أصلا من الذي أعطى الحق لرجل ما أن يزعم أنه ولي أمر لامرأة ناضجة فيقرر هو عوضا عنها ما إذا كان العريس المتقدم لها مناسبا أم غير مناسب! إلا أن ولي الأمر لا يكتفي فقط –عن غير وجه حق- بتقرير مصير إنسانة مستقلة وإنما يحدد السعر المطلوب لتشتري حريتها. لقد أدرك الإسلام البعد الجاهلي للمهر ولذا دعا النبي صلى الله عليه وسلم لعدم التشدد في هذا الأمر وقَبِل أن يكون المهر آية من القرآن الكريم. بالنسبة لي شخصيا أجد فكرة تخصيص مبلغ مالي إلزامي يسمى المهر فكرة قبيحة لاسيما عندما يتم تسليم حفنة النقود لولي الأمر (حتى لو قام هو بدوره بتسليم المبلغ كاملا غير منقوص للعروس كما يفعل بعض أصحاب الضمائر الحية). القبيح فيها أنها يتم تسليمها لشخص فرض نفسه وفرضه المجتمع وصيا على العروس، كما أن المطلب إلزامي ويكون المبلغ المطلوب عادة مغالى فيه. لا غضاضة مطلقا في مبدأ المهر لو كان الرجل يقدمه كهدية (وليس كفرض اجتماعي) مباشرة ليد حبيبته تعبيرا عن رغبته في مساندتها لبدء حياة معه—حياة لها بالطبع متطلباتها المادية. إلا أن الأسوأ في الأمر هو أنه على الرغم من الطابع القبيح للفكرة إلا أن الكثير من الفتيات يتعمدن المطالبة بمهور عالية لمجرد أن لا يكون سعر الواحدة منهن أرخص من سعر زميلتها أو جارتها التي تزوجت قبلها. إن النساء هنا يقمن بأنفسهن بتسليع أنفسهن والإقرار أنهن بضائع، وإذا كان الأمر هكذا فهل يكون هناك عتب على رجل يسيء معاملة زوجته لأنه ببساطة قد اشتراها وله حق التصرف فيها؟! هذا هو البعد القبيح لفكرة المهر الذي لا تدركه الكثير من الشابات الصغيرات. هناك فعلا رجال يقولون لنسائهم بالحرف الواحد "أنا دفعت فيش الشي الفلاني ولازم أطلّع قيمة فلوسي!". طبعا سنقول أن هؤلاء رجال سيؤون، لكن الأكثر سوءا منهم هم زوجاتهم إذا كنّ هنّ من اشترط المهر العالي فقط لمجرد التباهي أمام الآخرين والتقليد الأعمى للأخطاء الاجتماعية الشائعة. لقد تخلص الغرب من حكاية المهر، ولا عتب عليهم أبدا إن أسموا المهر "سعر المرأة" لأنه حقا كذلك.
ضمن طقوس الرجال أيضا في الزواج دعوة شيوخ العشائر وممثلي العائلة لإشهار الزواج. وهو مبدأ يهدف لترسيخ سلطة القبيلة وهرمية الأفراد بداخلها. إن الأمر ليس مجرد دعوة أفراد العائلة ليشاركوا العروسين الفرحة، ولكنه شكل من أشكال طلب الإذن من رب العشيرة لمباركة الزواج، وهو بالضبط ما كان يفعله البدائيون قبل آلاف السنين.
حين يحصل ولي أمر العروس على ما يرضيه من طقوس يُشبع بها ذكوريته وانتماءه البدائي للعشيرة، ينتهي دور الرجال. فقط سيهتمون لاحقا بذبح الثيران لأن التهام أطنان اللحوم يعكس مكانة ومقام العشيرة!
* * *
بالنسبة للنساء فإن دورهن يبدأ حين ينتهي دور الرجال. للنساء مطالب أخرى. لا تهتم النساء كثيرا بذبح الثيران ودعوة شيوخ العشائر، لكنهن يهتممن جدا بترتيبات حفل الزفاف وفستان العرس وصالون التجميل والشبكة والذهب وكافة المظاهر التي لا يفهم فيها العريس ولا تخصه. لا يفهم الرجل احتياجات النساء ولا يعلم لماذا كل هذا التكالب على هذه "الشكليات". بالنسبة للرجل فإن المرأة تكون قد أصبحت زوجته بمجرد انتهاء الدور الذكوري بكتب الكتاب ووجود عقد الزواج، لكن بالنسبة للنساء فالأمر مختلف. تنظر النساء لليلة الزفاف باهتمام بالغ يعكس قدرات المرأة في عملية التسوق والتأنق. ترتيبات الزفاف فيها الكثير من الذهاب للسوق وشراء الملابس الجديدة وهو أمر غير مفهوم للرجل. لا يعرف الرجال لماذا تشتري النساء كل تلك الملابس قبل الانتقال لبيت الزوجية وكأن العروس كانت حافية ممزقة الثياب طوال حياتها! لا يفهم الرجال هذا لأنهم لا يقومون به ولا يتسوقون للزفاف، وليس هناك محفز سيكولوجي أو هرموني يدفعهم لمثل هذا المسلك. إلا أن عدم فهمهم لا يمنعهم من مساندة النساء في عملية التسوق مرجعين ذلك إلى أنه "طبيعة نسائية". هذا يكفي. لكن الحقيقة أن المرأة تنظر للانتقال لبيت آخر غير بيت أهلها من منظور طقوسي شعائري. هو فعلا انتقال لحياة جديدة، ولذا يتصرف سلوك المرأة غريزيا لمحاكاة هذا الانتقال للحياة الجديدة بالاستعداد لها بكل ما هو جديد. هذا الجديد لا يشمل فقط شراء الملابس والذهب، لكنه يمتد للحرص على التأنق والتزين بما يبدو للرجل أنه شكل مبالغ فيه. الصالون ليوم الزفاف شأن مهم للمرأة، وهي تحرص أن تخرج منه مختلفة حرفيا عما دخلته. لكن كثيرا من الرجال لا يستطيعون احتمال هذه الفكرة لأن المرأة تخرج مختلفة عما ألفها الرجل عليه فيبدأ بالشعور أن هناك مقلبا ما مخبأ له: "لقد أعطوني امرأة أخرى غير التي تزوجتها!". تتم تنشئة البنات في مجتمعنا على أن الفتاة، كل فتاة، هي أجمل فتاة في الكون وأنها محط اهتمام العالم بأجمعه وأنها الأكثر جمالا في الوجود. هذه التنشئة العبيطة تشوه المرأة وتحولها إلى دمية بيد تجار بيع السلع النسائية كالملابس وأدوات المكياج. وفي العرس تحرص كل بنت على أن تكون هي الأكثر أناقة لأن كل واحدة تم تنشئتها وتلقينها وإيهامها أنها الأجمل في الوجود، لذا فإن صالة النساء في يوم الزفاف هي ميدان لإبراز خطأ التربية ولإثبات أن النساء كائنات عاشقة للمظاهر والشكليات. لا ترى المرأة غضاضة في هذا بل تراه حقا من حقوقها في أن يكون عرسها أنيقا، فهي في نهاية المطاف قد تم تحضيرها طوال حياتها لليوم الذي عليها أن تثبت فيه أنها الأجمل. إلا أن الرجل هو من يرى غضاضة في هذا ويشعر أن زوجته التي ظنها أكثر ذكاء من الأخريات هي في النهاية لا تختلف عن أية امرأة أخرى في حب المظاهر والبريق. إن الزفاف بكامل طقوسه شأن لا يعني الرجل في شيء وإنما يراه مطلبا نسائيا صرفا، مثلما لا يعني المرأة شيء في الإجراءات الرجالية المرتبطة بترتيبات كتب الكتاب مثل أهمية حضور شيوخ القبيلة وذبح الثيران. لقد تقاسم الرجل والمرأة أدوارا تاريخية واضحة لكل جنس منهما في طقوس الزواج، والمؤسف في الأمر أن طقوس الرجال تُنهك النساء وقد تسيء إليهن (مثل حرمان المرأة من تمثيل نفسها في النطق بقبولها للزوج)، و بمثل ذلك فإن طقوس النساء هي الأخرى تنهك الرجل وتجعله يشعر بالغربة لأنه يتم مطالبته بالتصرف كامرأة وذلك بالتزين الباذخ وتلبيس الدبل والشبكة والجلوس على "كوشة"، وكلها بالنسبة للرجل أشياء إن لم تكن سخيفة فهو على الأقل لا يفهم لماذا هي موجودة ولماذا هو مطالب بالتصنع والتصرف على هذه الشاكلة. للحد من عدد الزيجات التي "تتفركش" قبل الوصول لليلة الزفاف، يحتاج إنسان القرن الحادي والعشرين أن يتذكر أنه لم يعد يعيش في الكهف!

16 November 2014

من وحي يدٍ محروقة




من وحي يدٍ محروقة





شيءٌ مثل الحرقان يلتهب على ذراعِيْ..
يدُك المحروقةُ قد لسعتني بالنار.
هي ذي اللسعةُ تمتد على كامل جسمي.. النار على ذراعيّ. وجنتيّ. صدري. بين فخذيّ..
هأنذا أشم شعري الزغبيّ يحترق.. وثعباني يبحث عن ملجأ لا تصل إليه النيران.
هئنذا ألعق ساعدك.. أنا قطك الأليف جدا. مُصَمَّمٌ لألعق جراح حروقك ورضوض سقطاتك الصغيرة..
ومصمم أيضا ﻷخدشك بشدة حيثما لا تتوقعين.
أنا القط الذي (ينبح) عندما تريدين منه المواء،
ويعض عندما يتوجب عليه التقبيل.
أنا القط الباحث عن النَمِرَة التي بداخلك.. لتردي لي صاع النشوة صاعين.
كل قبلة تعيدينها لي بِعَضّة على إحدى حلمتيّ.
كل لعقة على ذراعك المحروق تقذفيني بعدها بحمم من نهديك تحرق خديّ.
اجعلي الحرقة تتقد على جسدي بكامله،
فأنا منذ أبصرت الحرق على يدك البضة
لا حلم لي سوى أن تسلخي جلدي كله بمكواة أحرُّ من الجحيم.
احرقيني بجحيمك أيتها البركانة الجامحة.. لنصعد سراعا إلى سماء التأوهات.

14 November 2014

عن فيلم (المشوار الأخير).. والأبوّة القاسية الرحيمة

تلك الأُبوّة.. ملتقى الحب والقسوة!


الفيلم الأسترالي "المشوار الأخير" (إخراج: جليندِن إيفن. إنتاج 2009)، يتحدث عن موضوع يبدو أنه يستهوي عددا لا بأس به من المخرجين الجادين. الموضوع هو الأبوّة، وبالتحديد: العلاقة الشائكة بين الأب وأبنائه الذكور، ومعاملته القاسية لهم، الممزوجة بفهمه الخاص للأبوّة. هذا موضوع خالد حقا، فهو مطروح في كل الأزمنة والأمكنة، وحين يأتي فيلم أو رواية أو أي عمل إبداعي ليقدم رؤية أو معالجة جديدة لهذا الموضوع، فإنه بالطبع شأن جدير بالالتفات إليه.

أثق أن كثيرا من المخرجين حول العالم تناولوا موضوع علاقة الأب بأبنائه، وحتى لو ضيقنا النطاق وركزنا على علاقة الأب بأبنائه الذكور (وليس علاقته ببناته)، فإن هناك عددا جيدا من الأفلام اللافتة للنظر في هذا الشأن. أول ما يخطر ببالي هو الفيلم الروسي "العودة" (إخراج: أندريه زياجنتسيف. إنتاج: 2003) وهو واحد من أهم الأفلام التي تناولت موضوع قسوة الأب على أبنائه إيمانا منه بأن هذا هو السبيل الوحيد ليصنع منهم رجالا. في فيلم "العودة" يعود أب غائب عن حياة طفليه، حيث اختفى لمدة 12 عاما لا يعرف أحد أين كان خلالها، ولا يعرف عنه الطفلان سوى صورة قديمة له. يأخذ الأب طفليه بالقارب في رحلة إلى جزيرة معزولة، وفي مَشاهد ينتاب المشاهدين خلالها مشاعر مختلطة ومضطربة بين كراهية الأب والتعاطف معه والشفقة عليه وعلى الأبناء يُعلّم الأبُ أطفاله دروسا في الحياة، دافعها النبل والمحبة من وجهة نظره هو، لكنها قاسية على الطفلين وجمهور الفيلم معا. إنه لغز لا يُفك بسهولة، تلك العلاقة الشائكة بين هذا النوع من الآباء وأطفاله والطريقة التي يختارها ليصنع منهم رجالا. إنه من الظلم أن نصف الأب بالقسوة ونكتفي بهذا الوصف، فسلوكه القاسي كان مبعثه محبة صادقة، ولقد رأينا حبه لأبنائه حين أدت تصرفاته -غير المقصود منها الشر- إلى وقوع الشر لأحد أطفاله. هنا رأينا الأب المنصهر حزنا وألما وحبا لولده، وهنا نتعاطف معه، وقد نحبه أيضا. فكيف للقسوة والمحبة أن يجتمعا بهذا الشكل؟!


قبل فيلم "المشوار الأخير"، قدمت السينما الأسترالية نفسها أكثر من معالجة لعلاقة الأب بأبنائه. أبرز تلك المعالجات فيلم "ذَهَبُ كولانجاتا" (أو "جائزة كولانجاتا الذهبية". إخراج: إيجور أوزينس . إنتاج: 1984). الفيلم عن علاقة الابن الأصغر بوالده وأخيه الأكبر. الأبناء هذه المرة ليسوا أطفالا. إنهم شباب. الأب الذي كان بطلا في سباقات الجري في شبابه، يضغط على ابنه الأصغر (لوكاس) ليكون نسخة منه، وكثيرا ما يقارن بينه وبين أخيه الأكبر (آدم)، الذي هو في رأي الأب، مثاليّ في كل شيء. بسبب التفرقة في المعاملة التي يزرعها الأب بين أبنائه الإثنين، وبدافع يحدو الابن الأصغر ليكف والده عن مقارنته بأخيه الأكبر على الدوام، بسبب من ذلك يقوم الابن الأصغر بإفساد الأمر على أخيه الأكبر في السباق القادم، إذ في ليلة السباق يرتب لأخيه حفلة ساهرة مليئة بالكحوليات، فيستيقظ الأخ الأكبر غير قادر على الجري تلك المسافة الطويلة التي يتطلبها السباق. يفعل (لوكاس) ذلك بلا وعي منه، فهو يحب أخيه الأكبر، لكن الحال كان قد ضاق به من مقارنة والده له بأخيه الأكبر "المثالي في كل شيء". في حوارهما، يسأل (آدم) أخاه الأصغر بعتاب: لماذا فعلتَ بي ذلك؟ فيجيبه: "لو لم تكن أنت رائعا جدا، لما بدوتُ أنا سيئا جدا". بمعنى، وفقا لذلك السياق، أنه: لو لم يكن أبي يراك مثاليا في كل شيء، لَمَا بدوتُ أنا رديئا في كل شيء. أنا لستُ رديئا إلا عند مقارنتهم لي بك. ولو فشلتَ أنتَ مرة فلن تكون هناك مقارنة ولن أبدو أنا ردئيا/فاشلا. خلال الفيلم -الذي كنتُ أبكي في الكثير من مشاهده لأنه يمس جانبا خاصا بي-، تأتي لحظات نتعاطف فيها مع الأب ونتفهم لماذا يقوم بما يقوم به. إنه ليس شريرا بالفطرة (هل من أحد كذلك حقا؟)، ولكن الشر هو في المنهج الذي يتبعه -بدافع المحبة- لتربية أبنائه وتحفيزهم ليكونوا رجالا أشداء بالطريقة التي يريدها هو. ما يظن الأب أنه يحفزهم، هو في الحقيقة يحبطهم. ما يظنه لصالحهم هو ضدهم. ما يراه فيضا من الحب نحوهم يرونه فيضا من القسوة ضدهم. فكيف للمحبة والقسوة أن يجتمعا بهذا الشكل؟!

يأتي فيلم "المشوار الأخير" ليطرح هذا الموضوع من زاوية جديدة. الأب الهارب من القانون يطوف مع ابنه الصغير ربوع جنوب أستراليا وصحاريها في رحلة يريد منها أن تعلّم ابنَه دروسا عديدة في الحياة. ما الذي يمكن أن يقدمه أب هارب من وجه العدالة -بسبب جريمة ارتكبها- لطفل كان حريا به أن يكون بين أقرانه على مقاعد الدراسة؟ ستعرفنا نهاية الفيلم أن هذا الأب، الذي سنكرهه في معظم مَشاهد الفيلم، قد قدم الشيء الكثير للطفل. سنرى الأب يضرب ابنه، وسنراه يعلمه السباحة عن طريق إلقائه في بركة الماء فجأة، وحين يصرخ الطفل -الذي يكاد يغرق- أنه لا يجيد السباحة، سنرى الأب يرد بقناعة: "هذه هي أفضل طريقة للتعلم". لكن الطفل حقا يتعلم السباحة. قرب نهاية الفيلم، سنعرف ما الجريمة التي ارتكبها الاب ويطارده عليها القانون، ولماذا يفر مع ابنه هائما في سيوح أستراليا. لقد حطم الأب وجه أحد أصدقائه عندما رآه يوما يتحرش بولده. كان الطفل لحظتها غافلا عما ينتوي صديق والده المحبوب لديه ان يفعله به، فإذا بالغريزة الأبوية تدفع بالأب الغاضب ليهوي باللكمات على وجه من يعتدي على طفله البرئ، لكن لكماته تنتهي بقتل الصديق، وهنا يصبح الأب فارا من العدالة مع ابنه الذي لا يوجد من يرعاه. يصبح الأب طريدا لجريمة أوقعه فيها حبه لولده وغريزة حمايته عند الاعتداء. هذا الأب الذي ظنناه قاسيا في معظم مشاهد الفيلم، هو في الحقيقة الحامي الأكبر لطفله. إنه يعرف أن بقاءه حاميا لطفله لن يدوم طويلا (لأنه مطلوب للعدالة)، ولذا يسرّع عملية تعليم الطفل دروسَ الاستقلالية في حياةٍ خشنة. كل تلك الخشونة كان دافعها الرقة، وكل تلك الأذيّة للطفل كان هدفها تهيئته ليواجه عالما لا يرحم، وهذا الأب الذي نكرهه لوهلة، لا نلبث أن نتعاطف معه، بل قد نحبه أحيانا. فكيف للمحبة والقسوة أن يجتمعا بهذا الشكل؟!

02 November 2014

في بيتنا كلب

في بيتنا كلب!



لم تكن علاقتي بالكلاب جيدة في يوم من الأيام. وعلى الرغم من أنني أمتلك الآن جروا صغيرا بالبيت، وبفضله أصبح بإمكاني الزعم أني أعيش شهر عسل مع الكلاب، فإن علاقتي بهذه المخلوقات الوفية مازال يشوبها الخوف. هو الخوف الذي أود اقتلاعه، ولا أريد مطلقا أن يجد مكانا له ذات يوم في نفس طفلتي. ولذا، ففي بيتنا كلب!

الكلاب التي تجري خلف السيارة التي تقلنا إلى المدرسة، هي واحدة من أبكر الصور التي تستعيدها ذاكرتي للكلاب. هي صورة مربوطة بالخوف. كائن سريع ينبح بصوت مخيف. يطاردنا نحن الأطفال في (البيك-أب). فمه مفتوح وأسنانه بارزة. ولسانه الطويل الخارج من فمه تجسيد لكل الشر في الكون. ما أقبحكِ أيتها الكلاب وما أبغضك! ثم إنك تنبحين فجرا لأنك ترين الشياطين التي لا نراها نحن البشر، لذا أنتِ مقرونة بالرعب والشر والقوى الغامضة. كنتُ أتوجس خيفة إذا استيقظتُ يوما على نباح كلب ذات فجر. لابد أن الجن حولي. هكذا استوطنتني هذه الأساطير. حتى كنت ذات يوم في السادس الابتدائي. وكان لزاما عليّ الذهاب أحيانا ماشيا لشراء بعض مستلزمات البيت من مكان يبعد عنا أقل من كيلومتر، ولكن الطريق إليه محروس بكلبة سوداء لمالكتها (شَمُّوس). كانت كلبة شَمّوس هي ذعر حياتي. أسير بحذر للدكان، وفرحة حياتي هي عندما لا يكون هناك أثر لتلك الكلبة. أما عندما تكون بالجوار، فأسير على أطراف أصابعي، وأحاول الابتعاد عنها قد المستطاع. لكن كلبة شمّوس من إنْ ترى سيارة حتى تجري خلفها. إنه الذعر كله! وذات يوم وأنا في طريقي للدكان، وقد كنتُ بمحاذاة بيت الجارة شمّوس، إذا بالكلبة السوداء المرعبة قادمة تجري نحوي بكامل سرعتها. فما كان مني إلا أنْ أطلقتُ ساقيّ للريح جهة باب بيت شَمّوس الذي كان مفتوحا وكانت بعض نساءٍ يقفن عنده. رميتُ نفسي من الخوف بينهن وأنا ألهث. لا تستعيد ذاكرتي نهاية المشهد، لاشك أن الكلبة قد انشغلت بسيارة أخرى مارة في الشارع وذهبت لتطاردها. أما أنا، فلا شك أني أيضا ذبتُ خجلا عندما ألقيتُ بنفسي وسط "الحريم"، فهذا مشهد لو عرف عنه رفاقي في الفصل لعيروني به مدة خمسين مليون سنة ضوئية قادمة!

تجنبتُ الكلاب طوال حياتي. ولكن في الفترة من 2002 إلى 2005 كان لابد لي أن أراها يوميا. إنها فترة دراستي في أمريكا ثم أستراليا، حيث الكلاب أكثر من البشر. كلاب من كل نوع وحجم وشكل. في كل بيت. حتى البيت الذي سكنتُ فيه في أستراليا كان به كلب صغير! ماذا فعلتُ يا ربي لأنال كل هذا الشقاء؟ وكيف نجوتُ إذن؟

مشهد كلبة شمّوس تكرر عام 2003 في أمريكا. حيثُ ذهبتُ مع خليلتي لزيارة إحدى صديقاتها في ولاية أمريكية أخرى. كان الاتفاق أنني عندما أكون بالصالة فإن عليهم أخذ كلبتهم إلى غرفة أخرى. ولكن ذات يومي ما كاد أحدهم يفتح باب الغرفة حتى اندفعت الكلبة جارية باتجاهي، فوقفت على الكنبة وصرخت. كانت كلبة أنيقة، لكن هذه الجملة لا مكان لها في الإعراب في تلك اللحظة. تصرّف أحدهم وأبعد الكلبة بسرعة، بعد أنْ كانت الدماء قد نشفتْ في عروقي. حاولوا إقناعي أنها كلبة غير مؤذية ولا يمكن أن تهاجمني يوما، بل إنها هي الخائفة مني (يا راجل!!). على المستوى العقلي كنت أعرف أن كلامهم صحيح، ولكن على المستوى العاطفي لم يكن ممكنا مقاومة فزعي. على أية حال، فإنه من العبث أن تخبر شخصا مصابا بفوبيا الكلاب أن الكلاب غير مؤذية. هذا هراء لا معنى له للمصاب بالفوبيا. وفوبيا الكلاب هي إحدى فوبيات حياتي الأربع أو الخمس التي مازالت تفعل فيّ الأفاعيل في يقظتي وكوابيسي!
في أستراليا تعرفتُ على (مارك)، جارنا في البيت الملاصق. شاب في منتهى اللطف. كانت لديه كلبة صغيرة من نوعية (تشيواوا) مخلوطة مع سلالة أخرى نسيتُ اسمها الآن. بذل مارك جهدا ليساعدني في التغلب على فوبيا كلاب. إن ارتباط مارك بكلبته المحبوبة (فيبي) عنى شيئا واحدا: إما أنْ أقبلهما معا كصفقة واحدة، أو أنساهما معا. وقد كان مارك شخصا رائعا، وكان دليلي لفهم ثقافة أستراليا. أول مرة دخلتُ فيها غرفة مارك، أخبرني أنه لابد لفيبي أن تلعقني، فهذه طريقة الكلاب في التعرف على الآخرين. تيبستُ كالخشبة وأنا أترك فيبي تمرر لسانها عليّ. ثم تنفستُ الصعداء عندما انتهى الأمر. مرت الأمور بعدها بسلاسة. ربما لأن فيبي كانت صغيرة فقد بدا لذهني المشوَّش أنه لو هاجمتني يوما فبإمكاني أن أرديها بلكمة واحدة. أظن كان هذا سبب طمأنينتي. وسارت الأمور جيدا مع فيبي ولم أعد أخشاها إلا بالحد الأدنى. صحيح أنني كنتُ اشعر بالتقزز جراء لعقها لي، ولكن الخوف قد تناقص بشدة. في تلك الفترة جاءت طالبة كندية هي وأخوها ليسكنوا في بيتنا الطلابي ذي الغرف الست. مالكة البيت اجتمعت بنا وقالت أنها تريد موافقة الجميع على سكن (ليزا) معنا لأن ليزا لديها كلب صغير من نوعية (مالطيز). كنتُ أعرف نوعية المالطيز، وهي كلاب صغيرة كثة الشعر. وسعيا مني للتخلص من فوبيا الكلاب وافقتُ على سكن ليزا وأخوها وكلبها، ولأهداف أخرى في نفس يعقوب تخص الفتاة الكندية الجميلة. ورغم أن الكلب كان صغيرا ووديعا، لكني كنت أخاف منه. وذات يوم أخذته في حضني وطلبت منهم أن يصوروني وأنا أداعبه. كانت ابتسامة واسعة (مزيفة بالطبع) تملأ وجهي، ولكني كنت بحاجة للصورة لأضعها في بروفايلي في مواقع التعارف الاجتماعي الموجودة آنذاك، ففرصتي في مصادقة فتاة أسترالية ستزداد كلما كنتُ محبا للكلاب. لا أخفي سرا أنني كنت أكره الفتيات اللاتي لديهن كلاب، فقد كان ذهني المريض بفوبيا الكلاب يتصور وجود علاقة غير سوية بينهن وبين كلابهن. ولذا، لم أنجح يوما في تضبيط علاقة مع أسترالية! إلى الجحيم يا شقراوات طالما كان الثمن أنْ أصادق كلابكن اللعينة!

الآن.. تريد طفلتي كلبا! ويلاه يا رباه، هل مازالت معاصيّ مستعصية على الغفران حتى تأتيني عضة الكلب من عقر داري؟! حسنا. أفهم الآن شيئا واحدا. إذا كانت لديّ عقدة من الكلاب، فعليّ تجنيب ابنتي هذا المصير. عليها أن تنشأ في علاقة سوية مع الحيوانات. لاشك أن قراءاتي في الداروينية في السنوات الأخيرة وإيماني بها لتفسير وجودنا الإنساني في هذا الكوكب كان لها أثر واضح لأرى الأمور بشكل علمي. الآن أعرف لماذا يُخرِج الكلب لسانه وهو يلهث. لا لأنه يريد أن يعضني (كما كنت أتصور في طفولتي)، إنه يفعل ذلك عند التعب وعند شدة الحرارة لأن جلد الكلب ليس به غدد عرقية كجلدنا، لذا يُخرج الكلب لسانه المبتل حتى يساعد جسمه في تبخير الماء فتتوازن درجة حرارته. لن أتغلب على الفوبيا في يوم وليلة، ولن أجلب للمنزل كلبا كبيرا، لكن الجرو (من نوعية جاك راسل) الذي بحوزتنا الآن –ولا نعلم بعد بصفة مؤقتة أم دائمة- هو في الحقيقة كائن ابتدأت أحبه، وأفتقده حين أسهر خارج البيت، وأستمتع باللعب معه. نعم مازلت أقرف من قيام حيوان بلعقي طوال الوقت، لكن لكونه جروا فأنا أراه مثل طفل صغير بحاجة إلى اللهو واللعب والرعاية والحب. هو بالفعل طفل، وهو جدير بإعطائه فرصة عله يُشفي روحي من واحدة من مخاوفها الكبرى غير المبررة.