04 August 2014

التدوينة الأولى: لماذا أنا هنا

هذي مؤونتي يا عُمْرَ  الرمادة

في 24 نوفمبر 1997، كان عمري 24 عاما فقط، وكنتُ قد أصبحتُ موظفا حكوميا منذ سنة وثلاثة أشهر. في ذلك اليوم بالتحديد نشرتُ في جريدة (الشبيبة) نصا مفتوحا حمل عنوان "هذي مؤونتي يا عام الرمادة". كانت النصوص المفتوحة هي الصنف الذي أكتبه أكثر من غيره في ذلك الوقت، إلى جوار الإضاءات النقدية في المسرح والقصة القصيرة. وكانت جريدة الشبيبة هي مكاني المفضل للنشر. كانت نصوصا تمزج النثر بتراكيب الشعر ولغته. ولمّا لم تكن الحواسيب شائعة بعد إلا لدى الطبّاع في كل دائرة حكومية، فقد كنا نكتب نصوصنا بخط اليد ونعطيها الجرائد للنشر، ربما باستثناء كاتب محلي واحد أو إثنين امتلكا حواسيب شخصية منذ فترة مبكرة. في الجرائد كانت تتم عملية إعادة طباعة نصوصنا، وكان الصحفيون أيضا يكتبون أخبارهم بخط اليد، ومراسلو الولايات يرسلون تقاريرهم بجهاز الفاكس إلى مقر الصحيفة لتتم إعادة جمعها. ولأن أقسام التصحيح بالصحف لا يتسع لها الوقت –ولا والاهتمام- لتدقيق نصوص الأدب تدقيقا جيدا من أخطاء الطباعة السريعة –فالمهم هو ألا توجد أخطاء في أخبار الصفحة الأولى وأخبار الوزارات- فقد كانت نصوصنا الأدبية تنزل بعشرات الأخطاء. لم نكن نصور مقالاتنا المكتوبة بخط اليد قبل النشر، إذ جرت عادة معظم الكتّاب على الاحتفاظ بنسخة من صفحة الجريدة التي نشرت مادتهم، وهذا ما كنتُ أفعله.

منذ سنتين ونفسي تراودني لفتح الحوافظ التي أحتفظ فيها بمقالاتي ونصوصي التي نشرتُها خلال فترة التسعينيات وحتى عام 2002 (عندما سافرتُ للدراسة إلى أمريكا)، أما ما تلى ذلك من نصوص فقد طبعته بنفسي على الحاسوب بعد أنْ أصبحتْ الحواسيب ثقافة عامة، وهي –أي نصوص ما بعد عام 2002- متاحة لدي في ملفات رقمية. الحنين إذن كان يحركني للبحث عن نصوص العشرينيات من عمري. نصوص الشباب والنزق والظمأ للحب والتغيير. النصوص الذاتية. النصوص التي كانت لغتها تختلف كليا عما أكتبه الآن. النصوص التي أشعر الآن أنه من حقها أن يقرأها قارئ جديد (وُلِد في الثمانينيات أو أوائل التسعينيات). إن الأخطاء الطباعية الكثيرة –الفادحة أحيانا- التي حفلت بها تلك النصوص في الجرائد هي أحد دوافعي للتفكير بإعادة طباعة بعض نصوصي المفتوحة التي نشرتها في عهد المخطوطات. هذا هو مشروعي للأشهر القادمة، جمعُ نصوصي المفتوحة –أيْ طباعتها بالحاسوب- واختيار بعضها لنشرها في كتاب ربما ينزل مع معرض الكتاب القادم في فبراير 2015. أما أكبر أسبابي للعودة لتلك النصوص، فهو الحنين إلى عشرينيات عمري—شابا كان المستقبلُ ما زال مفتوحا أمامه.

سأسمي الكتاب "هذي مؤونتي يا عُمْر الرمادة"، لأنه عمر ضاع جُلّه هباءً منثورا، وقد قضيته في جوع للحب واللذة والمغامرة وفي فقر ماديّ. العنوان يأتي من عنوان نص نشرته في تلك الفترة، هو نص "هذي مؤونتي يا عام الرمادة" الذي أعيد نشره هنا، فهذا العنوان يلخص الخط العريض لحياتي في العشرينيات من عمري، في عهد نصوص المخطوطات التي كانت الجرائد تعيد طباعتها ويشوهها طباعوها ومدققوها اللغويون الكسالى والمستعجلون لإتمام عملهم دونما وخزة ضمير بما يحل بصفحات الأدب والثقافة من تشويه وأخطاء لا أول لها ولا آخر.


هذي مؤونتي يا عامَ الرمادة

"تواضعي أيتها اللغة
لا يكتبُ الجسدَ غير الجسد"
-أدونيس-

صريع الغواني
يزدحم السابلةُ على مسام البشرة
حيث الروح مهيّأة لامتصاص الشجن.
نساءٌ بملامح مسحورة
يخطرن في مواكب لا يطالها الرعية حتى يلمسوها
متباركين
وأُخَرٌ يرشقن زهور الوَلَه القليلةَ
فتقتتلُ الجموعُ الغفيرةُ لالتقاطها.
وحدي الذي يفتش بين جيش الأعداء
الرابضِ عند ثغور الجسد
عن الرصاصة التي لن تنطلق يوما
الرصاصة التي ستصرعني في الحال.

فأي شيء إذن صرتُ أنا؟!
في الحانة التي يتغير ندلتها
تقبع آنيةُ زهورٍ بلاستيكية، خِلْتُها يوما جميلة. وإذ أنني أحب هذه الحانة تحديدا؛ نظرا لأنني أحب سياستها التي لا تتغير فتفكر بطردي يوما، فقد داومتُ عليها عشرة أعوام.. وبدونما مقدمات، ثمة من صاح في أذني: انظر، الزهور البلاستيكية أصبحتْ فولاذا!

حرمان
لن أحب امرأةً بعد الآن
فالحب ضد الجسد.
ليس لي إلاكَ يا جسدي.
مالنا، إذن، كمتآمِرَين آثمَين، لا نكف
عن الصراخ بصوت واحد:
"سأحب امرأةً الآن.
سأحب امرأة في كل وقت
إلى أنْ أموت".

لمن؟
إن ملايينَ من الأحلام يشاهدها امرؤٌ واحدٌ كل يوم هي في جُلها الأعظم غير قابلة للحديث عنها ولا حتى بالكتابة التقريرية العادية. هذه الملايين لاريب أنها تذهب من فورها طي النسيان.
في هذه الملايين، ثمة ألوف مؤلفة من الأحلام مما يستحق ألا يذهب أدراج الرياح، لكن النذر اليسير الذي يبقى، إما يبقى بوصفه حيّا في ذاكرة الحالم—وهو بالتالي فاعلٌ في سلوكه وحاضر في معيشته اللاحقة (بشكل أو بآخر)، وإما أن يكون مادة/روحا لعمل إبداعي إذا وقَعَ في شِباكِ راءٍ ما (فنان – كاتب).
بهذا المعنى تكتسب الأعمال الإبداعية جوهريتها بقدر ما تتلامس مع روح الحلم. روح الحلم، إذن، هي ذلك الشيء الذي يجعل الندرة من الاحلام غير قابلة للنسيان. غير قابلة إلا لأنْ تكون فاعلة في حياة الحالم.
فلمن المجد إذن، للحلم أم للحالم؟

من ذا يقول هيهات؟!
لو تطول أصابعُها قليلا
لو ينحف ساعداها
لو تُولِي عنايةً أكبر
بفواكهها الدانية..
...لحقّ لها أنْ.....
* * *
لو أنني أسمحُ لشعر صدري الحالم
ألا يستتر إلا بقميصٍ أبيضَ مُشجّرٍ أو مزركشٍ
مفتوح الأزرار.
لو أنّ بنطالي الجينز ذا الزرقة الفاتحة
يكتفي بالتوقف مُشَرشَرا عند منتصف الركبتين.
لو أن فيزياء جسدي
شرسة ككيمياء المخيال
لحقّ لي أنْ...
* * *
لو أنّ مدينتنا
جادَ عليها تاريخُ العشق
بأنْ تستوعب أنّ
شفتي على الهاتفِ
هي
أذني على أذنها.
لو أنّ مدينتنا
جرّبت قبلة الأذنين
لحقّ لنا أنْ...
لكنّ...

كيف شذّ قلبي عن نظرية داروِن
وفقا لداروِن: فإن العضو المستعمَل يزداد وينمو، أما المهمَل فيضمحل ويتلاشى.
يقترح داروِن أنّ الإنسان كان له ذيل. لكن دارون يثق في أن الإنسان لم يحتجْ إلى استعمال ذيله كحاجة الضبع أو البقرة أو النسناس، فاضمحل حتى تلاشى ولم يبق منه سوى ذلك النتوء في نهاية العمود الفقري الذي يتمتع به إنسان اليوم.
داروِن منطقيّ جدا، إذ يمكن أن أطبق نظريته على ذراعي وقدمي وأمعائي وحتى مخي.. ولكن ماذا عن قلبي الذي كلما توقفتُ عن استعماله تضخم وازداد توقا إلى الحب؟!
داروِن العزيز: كيف أُوقفُ تضخمَ قلبي قبل أن ينفجر؟

الزمن الذي أحياه
عاينتُ زمانا
فيه الروحُ
اسفنجةٌ جافةٌ
والجسدُ بلل.

1 comment:

  1. صديقي .. التدوين سيخبرك بنفسه عن نفسه، وستعشق هذا الدفتر
    عليك اللعنة لسان المودع بدأ يخيفني
    ليس من حقك أن تموت الآن
    أمامنا وقت
    وغد
    أحبك

    ReplyDelete

Note: Only a member of this blog may post a comment.