05 August 2014

إلى معاوية الرواحي.. فرّج الله كُـرَبَهُ جميعا

كُتبت هذه المقالة بتاريخ 21 أغسطس 2010.. قبل بدء الربيع العربي بأكثر من عام.
نشرها معاوية الرواحي آنذاك في مدونته، وأذكر أنني كتبتها لتُنشر أصلا في جريدة الرؤية، ولكن لا أستطيع الآن أنْ أتذكر هي قمتُ بنشرها هناك أم لا.
كانت المقالة في الأصل تعزيزا لمعاوية في حملته لنقد أداء الإعلام العماني الحكومي في ظل سيطرة عقلية ما أسميناه أنا وهو "ود شوين الراشدي". اليوم أعيد نشرها تحيةَ حبٍ لمعاوية، و صلاةً له ليخرج من شتى المحن التي تنهش حياته.





معاوية الرواحي

في معاوية الرواحي ثمة خصلةٌ خاصةٌ عذبة، ألا وهي أنه مزيج مُحكَمٌ ومتوازنٌ بقدرٍ معقولٍ من "الرَبشة" والجديّة. الربشة، التي هي خليط من بعض الفوضى وقلة التخطيط والارتجال وشيء من "الدفوشية" العفوية، تتجلى لدى معاوية بدءا من انشغاله بألف شيء وشيء، فهو قاص، وشاعر، وكاتب عمود صحفي، ومُدوِّن نشيط للغاية، وعازفُ عُودٍ، وناشطٌ اجتماعي كلما كانت هناك قضية تحتاج لتحرك فيزيقي (مثلا حملته هو ورفاقه المدونون للتوعية بأخطار فيروس H1N1 وكيفية الوقاية منه. وهي حملة تم تنفيذها بالنزول للشوارع –وليس الاكتفاء بالبقاء أمام شاشة الحاسوب- وتوعية الناس وتوزيع المعقّم على المحلات وعلى العمالة الآسيوية). أنشطة ثقافية وسلوكية كثيرة ينغمس فيها معاوية، لكن هذه الأنشطة بذاتها ليست هي مكمن الربشة، وإنما كيفية إدارتها هي مربط الفرس. كيف يجد معاوية وقتا لكل ذلك، وهو الذي حين تُفلِح في اللقاء به تجده مشغولا بهاتفه نصف الوقت، يرد على اتصالات ومسجات كثيرة، من أصدقائه وحبيبته، وبشرٍ كثيرين؟. حاوِلْ أن تحدد موعدا لتلتقي فيه بمعاوية، وهناك ستفهم أي ربشة فعلية يعيشها هذا الشاب المشتعل طاقةً وحيوية. فهو يواعد خمسة أشخاص في ذات الآن في خمسة أماكن مختلفة، ببساطة لأنه يرغب في لقاء الجميع، ولديه ما يقوله هنا وهناك. ولكن اللقاء بكل هؤلاء صعب، لذا لابد من الاعتذار لمجموعتين أو ثلاث، هذا إنْ لم يتخلف عن اللقاء بالجميع لأن نومة غريبة طويلة جدا أخذته من 4 عصرا لغاية 2 ليلا، وهو أمر غير نادر لدى معاوية! حسنا، هذه الربشة هي انعكاس لحيويةٍ يفيض بها معاوية الرواحي، ولنظرةٍ إيجابية للحياة تدعو إلى "الفِعل" وليس الاكتفاء بالفُرجة إن كان المرء يريد تغيير الواقع للأفضل.

تلك إذن ربشتُه وشخصيته المتعددة الاهتمامات، أما جديته، فتكمن في أن تصرفاته لا تنبع من فراغ. إنه شخص متأسس من الداخل، لديه حزمة مبادئ واضحة تقود سبيله. حين يستشيط غضبا أيام الإعصار "فيت" من موضوع طرحه أحد السلفيين على الإنترنت مُرهِبا فيه ذلك السلفيُ الناسَ بأن الله يعاقبهم بالإعصار على سماعهم للأغاني، فإن معاوية يستشيط غضبا لأنه يعلم أنه رغم الخلافات الفكرية بينه وبين هذا الرهط من الناس إلا أن الوقت غير ملائم لإثارة هذه الخلافات، وأن ما تحتاجه عُمان في وقت الشدة هو تلاحم الناس وترك الخلافات جانبا. لذا تراه لا يهدأ له بال حتى يتم شطب ذلك الموضوع حتى تبقى عُمان على قلب رجل واحد. قد لا يستطيع معاوية أن يجلس أمام حاسوبه ويفتح ملفا نصيّا يرصد فيه ثوابته ورؤاه، أو مبادئه المحركة لأفعاله، لكن هذه اليقينيات والرواسخ لديه تتحرك من تلقاء نفسها دونما تنظير لها. معاوية يعرف أنه يعيش زمن الشباب الفاعل، وأن فاعليتهم مربوطة بالإنترنت –هذه القوة التي تعجز الرقابة أمامها- ولذا فإنه يعرف كيف يوظفها لصالح التغيير. معركة معاوية الأولى هي الصور النمطية التي يبثها الإعلام الرسمي في إطار البروباجندا المؤسساتية المتغنية بالمغالاة في المنجزات فحسب، وما يتبع ذلك من تضخيم لأشياء وحجب لأشياء وابتعاد عن القضايا الحقيقية للناس، وهو يعرف أن الإنترنت، والتدوين بالتحديد، هي السلاح الأمضى لإعلام مختلف، وللمطالبة بالتغيير والنقد البناء للواقع والمتحقق، ولتبادل أفضل للآراء، وليس للبقاء للأبد رهن صوت وحيد واحد يسيطر على خِطاب وسائل الإعلام المحلية. قناعات معاوية الفطرية هذه، هي ما تجعله جريئا في طرحه، ولا تغيير بدون مبادرات جريئة من طالبيه. هذه الجدية التي تتضافر مع ربشة معاوية وتعدد اهتماماته، تنسجان معا تلك السمة الخاصة العذبة فيه، ألا وهي سمة التوازن المعقول، فلا تتحول ربشته إلى فوضى، ولكنها تصير طاقة إيجابية تدفعه للأمام دائما، وللتجدد والتجديد والعطاء المتواصل والتألق.
* * *
حمل معاوية الرواحي لواءً خاصا ربما لم يرشحه أحد في البداية لحمله، لكنْ سرعان ما عَقَدَ له أترابُه من نشطاء التدوين البيعة ونصبوه زعيما. هو حامِلُ لواء "الهَذْوَنَة": هو "المُهَذْوِن الأكبر"، لأنه وجد من البداية مهمة خاصة للتدوين على الإنترنت، تتمثل في كون ما يدونه ليس نصوصا أدبية، ولا مقالات أو بيانات صحفية، إنه مجرد بوح حر، تداعٍ للأفكار والخيالات أقرب إلى الهذيان، لكنه الهذيان الذي يقول أكثر مما يقوله الكلام المرصوص المنتقى بعناية والذي هو دوما يتستر أكثر مما يقول. رفض معاوية بدايةً مصطلح التدوين واختار الهَذْوَنة، مثلما يرفض فكرة أن المثقف يجب أن يحيا في برج عاجي وأن يتوهم أن الشِعر قرين الكآبة. كان يتندر حين يصفه أحد بأنه مُدّون قائلا: "إنت ما تعرف ايش يعني مدوّن بالعماني؟!" (نقول: بطارية السيارة مدونة.. أي خلصانة!). عَبْرَ السبيلِ الفعالِ الذي اختاره معاوية، أي الهذونة، ثرثرَ هذا الشابُ الفائضُ بالحماس خلال سنة كاملة عن كل ما يجول بخاطره، وألف قصصا –متناقضة أحيانا، وهذا لم يُهمه!- عن نفسه وعن صحيفة "صوت الحقيقة" الوهمية التي يعمل فيها، وما "صوت الحقيقة" –ربما دون وعي من معاوية- إلا مهذونته وما باح به فيها من لواعج حرة شفيفة تقول الحقيقة مطلقة دفعة واحدة. بعد سنة من الهذونة أغلق معاوية مهذونته وفتح "مدونة"، لا لتكون "أكثر تعقلا" أو أقل صدقا، ولكن تغييرا في الأسلوب، وانتقالا إلى مرحلة أخرى من فِعْل التغيير عبر الإنترنت. كان معاوية قد نجح من خلال المهذونة في إعادة تسمية أشياء كثيرة بأسمائها الحقيقية، ووضَعَ الإصبعَ على مواضع الخلل، متوسلا لذلك لهجته السمائلية القحة كوسيلة تعبير عن "إنسان عماني جدا". لقد أعطى "للخصوصية العمانية" تعريفا جديدا وذلك بالتخلص من نقطة رأى أنها وُجِدت بالخطأ في غير موضعها. سعى معاوية ليَفْصِل الزائف عن الحقيقي مما هو عالق بالصورة النمطية الرائجة عن هذي البلاد وأهلها، وأن يُنبه إلى أن "الشباب قادمون"، وأن التعاطي المؤسساتي التقليدي مع القضايا الراهنة لن ينطلي على أبناء الجيل الجديد. ومضى أبعد بعد إغلاق المهذونة ساعيا لطبع هذونات سنة كاملة في كتاب مطبوع من ثلاثة آلاف صفحة، لكن قدراته المالية لم تسعفه لتحقيق حلمه. إن رؤاه المتميزة جعلته يخطو هذه الخطوة الجديدة: أن يَنْقُل عالَمَ التدوين إلى الورق، وليس العكس.

رؤى معاوية لتسمية الأشياء بمسمياتها لا تزال طازجة تتوهج، وباعتباره "إنسانا عمانيا جدا" يحب هذه البلاد بفطرته بلا تزلف لأحد وبدون خطاب مبهرَج ومخادع، فإن مدونته الجديدة تمضي في نفس طريق المهذونة، مثلما تمضي مقالاته الجريئة المكتوبة للنشر الصحفي، جميعها تحمل روح شاب حالم بالتغيير، ساعٍ إليه وواثق من حدوثه، مؤمنا بأن إعلاما جديدا –للنت فضلٌ كبير عليه- سيشرق أخيرا ليسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية.

No comments:

Post a Comment

Note: Only a member of this blog may post a comment.