12 August 2014

فاشيّة الجسد

فاشيّة الجسد

تتمظهر الفاشية بعدة أشكال وألوان، منها الفاشية السياسية/العسكرية؛ التي تُعَد التجربة الموسولينية  (الإيطالية) أوضح نموذج لها. هذا النموذج ارتكز على ديكتاتورية في الحكم تسعى لتأسيس دولة وطنية بالقبضة الحديدية، وقد  اشتركت الحركات الفاشية –اقتباسا من موسوعة ويكيبيديا العربية- في "ملامح مشتركة تتضمن تبجيل وهيبة الدولة، حب شديد لقائد قوي، وتشديد على التعصب الوطني والعسكرة". فاشية الجنس الأسمى أو العرق الأنقى هو تمظهر آخر من تمظهرات الفاشية، وتجسده التجربة الهتلرية النازية. إمبراطورية الرايخ الألماني اعتمدت وهْمَ العِرق الآري باعتباره العرق الأنقى أو الأسمى فوق كافة أعراق البشر، لذا كانت النتيجة الطبيعية هي التخلص من الأعراق التي زعموا أنها أدنى، فجاءت إبادة اليهود والغجر والتنكيل بهم. هناك أيضا الفاشية الدينية والتي يمثلها من يعتبرون نفسهم أرقى من الآخرين بسبب الديانة أو المذهب. يجسد هذا النمط الفكر اليهودي حين ينظر لليهود بأنهم شعب الله المختار، ويجسده أيضا المبشرِّون المسيحيون عندما ينظرون للشعوب "البدائية" بأنها بحاجة إلى المُخلّص، كما يجسده المتشددون الدينيون المسلمون مثل تنظيم داعش عندما يبيدون أصحاب المذاهب والديانات الأخرى بحجة أنهم هم الفرقة الناجية. وإذا كانت فاشية موسوليني وهتلر قد ذهبت أدراج التاريخ، فإن هناك أشكالا خطرة من الفاشية ما زالت فاعلة، ولكن بصورة ناعمة، يقف في طليعتها الفاشية الاجتماعية وفاشية الجسد.


الفاشية الاجتماعية تتمرأى بأشكال عدة، منها القبلية، أو الزعم بأن هناك قبيلة أكثر أصالة من أخرى. ومنها الافتراض أن مجتمعا معينا هو مجتمع مثاليّ ليس فيه سلبيات ويخلو من الأشرار والمحتالين. في هكذا مجتمعات، إذا قال فردٌ شيئا لا يتواءم مع القطيع طالبوا بسحب الجنسية عنه، وكأن الجنسية تَفْتَرِض أن يفكر الجميعُ بنفس الطريقة (حتى لو كانت تلك الطريقة رجعية أو عنصرية أو بغيضة). في الشعوب التي تنشط فيها الفاشية الاجتماعية، يُقبَض على المتسولين ويُزج بهم في السجون لأنهم "يشوهون" صورة مجتمع أفراده ذوو دم أزرق وملابسهم ناصعة البياض! في الفاشية الاجتماعية يُعامل السود معاملة أدنى. في الفاشية الاجتماعية يُعلِّق الناسُ في مواقع التواصل الاجتماعي بسخرية واستهجان وبأساليب قذرة على أي موقف لا يعجبهم، ويسعون للنيل من ذات صاحب الرأي والإساءة إلى شخصه--بدلا عن مناقشة الفكرة التي يطرحها.

أما فاشية الجسد، فأوضح من عالجها هو فيلم (سالو) أو (120 يوما في سُدوم) لـ بيير باولو بازوليني (إنتاج 1975). ففي أحد مشاهد الفيلم يبحث القائدُ الفاشيّ بين عشرات الفتيات الصغيرات عن "الجسد الكامل". يكاد لا يُقنِعه شيء. وأخيرا حين تبدو إحداهن كأنها صاحبة الجسد الذي لا عيب فيه، يطلب منها القائد أن تفتح فمها، فيجد أن إحدى أسنانها ساقطة، فيلقي بها أرضا باحتقار شديد، لأنها لم تجسد الجمال الكامل! إنّ تمظهرات فاشية الجسد كثيرة، منها الإساءة للبدناء ونعتهم بصفات القبح والخسة. والترويج للجسد الرُمحي النحيف وجعل صورة عارضة الأزياء الهزيلة بمثابة الأنموذج المثالي للفتاة الجميلة، وهي صورة متوهمة تكاد لا تكون موجودة إلا في الإعلانات ومجلات الأزياء، ولكنها بكل أسف صارت النموذج الذي تسعى إليه كثير من الشابات ويعانين المرارة لعدم القدرة على بلوغه، لأنه أصلا نموذج فاشي فوق-واقعيّ.
* * *

عشتُ في أمريكا خلال الفترة بين أكتوبر 2002 وفبراير 2004 طالبا يدرسُ اللغة الإنجليزية. في تلك الفترة –التي تلت أحداث 11 سبتمبر بعام واحد فقط-، كان المجتمع المدني الأمريكي قد تعسكر بالكامل. كانت أمريكا –وأظنها ستبقى هكذا لفترة طويلة- دولةً هي بكاملها أقرب إلى معسكر مفتوح لتدريب الجنود (يسمونه هناك boot camp). كان الإحساس بالحرب يسيطر على أذهان الناس، بتأثير انهيار مبنيي مركز التجارة العالمي والحرب الدائرة ضد طالبان في أفغانستان. معظم البيوت قد رفع أصحابها عليها علما أمريكيا عملاقا. ومن لا يفعل يَنظُر له جيرانه كما لو لم يكن مواطنا أمريكيا مخلصا. كانت طبول الحرب تُدَق لغزو العراق، وكان إعلام بعض المدن الأمريكية مكرَّسا لتحذير الناس من الإنسان العربي العدو، فهو إنْ لم يكن ملتحيا فهناك علامات أخرى لتعرفوا أنه عربي.. فاحذروه (استطرادا، كان إعلام لوس أنجليس بالتحديد يوعي الناس لتمييز الأنف العربي واللكنة العربية حتى لو كان الرجل حليق الذقن ويذهب للحانات). وفي ظل هذا المجتمع المتعسكر ذي الشيفونية العسكرية الهائلة، كانت حتى ملابس النساء الداخلية وملابس الأطفال هي ملابس عسكرية. وأكثر ألعاب الأطفال شيوعا هي المسدسات. وأشهر لعبة إلكترونية هي قتلُ ابن لادن. كنتُ قبيل عودتي من أمريكا أدخل محلات الملابس ويهولني منظر ملابس الأطفال العسكرية للأولاد والبنات. كانت هي المسيطرة. وكنتُ أفكر ماذا لو أنني أريد شراء ملابس أطفال كهدية لإحدى العائلات العمانية، هل أجلب لهم زيا عسكريا عليه عَلَمٌ أمريكي مصغّر؟



إن الطريقة التي أفكرُ فيها بالجَمال، أو بالأدق، الكيفية التي أتذوق فيها جمال المرأة، لا علاقة لها مطلقا بالزي العسكري. هما شيئان لا يجتمعان أبدا. حتى عندما أتحدث عن الجمال الظاهري للجسد كما تعبر عنه، مثلا، صورةٌ فوتغرافيةٌ في مجلة للأزياء، فإن الزي العسكري أبعد ما يمكن أن يكون عن فهمي للجَمال. يتعارض هذا إذن مع الموضة التي كانت رائجة آنذاك في أمريكا في أن تكون ملابس النساء الداخلية مزينة برسم العَلَم الأمريكي، أو على هيئة زي عسكري مبقّع بدرجات الرمادي (ألوان التمويه والاختباء في الزي العسكري). إنّ افتراض أن تكتسي النساء بالعَلَم الأمريكي –الذي يكرّس أصلا صورة دولة عسكرية- هو شيء ينتمي للفكر الفاشيّ في رأيي. إن الفاشيّة، في أبسط تعريفاتها، هي توهّم الكمال المطلق. هكذا كان الأمر في الذائقة الأمريكية في اختيار الألوان العسكرية والعَلَم الأمريكي لملابس الأطفال وأزياء السرير النسائية (لينجري). كان ذلك نوعا من عسكرة الجسد: رفْضُ براءتِهِ العادية وعدم قبوله إلا ملطخا بروح الحرب والكراهية. ما زلنا لغاية اليوم نجد في مواقع الإنترنت الامريكية صورا لنساء بالملابس الداخلية التي تجسد العلم الأمريكي، كما نجد إصرار مجلات الأزياء والموضة على ظهور الموديلات مرتديات للأزياء العسكرية، وأحيانا يحملن مدفعا رشاشا، أو مسدسات كرعاة البقر! إن افتراض أن زيّا من هذا النوع هو زي مثير ومناسب لغرف النوم الحميمة هو افتراض ينبثق من ذهنية فاشية مولعة بتمجيد الحروب وتعشق الدمار، لاسيما وأنّ العَلَم مرتبط في العقلية الأمريكية بـ "ضرورة خوض الحرب لصالح تحسين الاقتصاد الأمريكي". لقد رموا غُلالات الحرير والقِطع الشفافة وقماش الساتان الرهيف، واكتفوا بالعَلَم الأمريكي كوسام "للجسد الفاتن"، وهو نفسه الذي يُمنح في الحروب كوسام لمن يقتل أطفالا أكثر. إنها لـ "قضية كبرى" أن يتشوه الجَمال وأن يتم عسكرة حتى الجسد. لو حدث هذا في العالم أجمع، فماذا سيبقى من رموز البراءة والطُهر؟ ليس الكثير. إن الصور والمجلات التي تريد أن تعلمنا كيف نتذوق الجمال الآدميّ على الطريقة الأمريكية لهي صور مستفزة حقا. إنها الطريقة الأمريكية التي لم أحببها يوما لا في الوجبات السريعة ولا سينما هوليوود ولا ملابس الأطفال العسكرية، ولن أحبها قطعا في الترويج للجسد الآدمي متوشحا عَلَمَ شرطيّ العالم، فالجَمال أبعد ما يكون عن عيون الفاشيين العمياء.

No comments:

Post a Comment

Note: Only a member of this blog may post a comment.