26 August 2014

عن تهمة "إهانة كرامة" التي حوكِم بمقتضاها كُتّاب عمانيون

كُتبت بتاريخ 23 يناير 2010، ونُشرت في وقتها في جريدة الرؤية.


كُـتّـاب في قفص الاتهام

برّأت المحكمة يوم أمس الأول القاص حمود الشكيلي من تهمتي "إهانة كرامة" فرد و"مخالفة قانون المطبوعات والنشر"، وذلك بعد قضية رفعها ضده مواطن يبلغ من العمر 15 عاما متهما فيها الكاتب بتضمين إحدى قصصه القصيرة إشارات مباشرة تخص الحياة الشخصية له. هي ليست أول قضية يرفعها "المجتمع" ضد قاص عماني، وهي كذلك ليست المرة الأولى التي يبرّئ فيها القضاءُ الكاتب، وإن كان ذلك يتحقق بعد أشهر من المعاناة النفسية للكاتب، بل إن هناك من اعتزل كتابة القصة القصيرة بعد جولة صعبة مع القانون والمجتمع كما حدث لكاتبة عمانية.


ظاهريا ومن حيث المبدأ، لا غبار على "حق" أن يرفع شخصٌ ما قضية ضد كاتب حين يعتقد هذا الشخص أن ثمة مساسا بحياته الشخصية يخدش حقه في الخصوصية وأن ثمة ضررا قد وقع عليه جراء نشر نص أدبي معين. لا ضير في ذلك طالما كان هناك قضاء عادل يفصل في الأمور بين طرفي النزاع {وقوانين واضحة يُحْتَكَم إليها}*. إلا أن ما يلفت نظر المرء، وما يثير القلق إزاء مسلسل محاكمات الكتّاب لدينا في عُمان، هو البعد الاجتماعي لهذه القضايا، فهي تعبر عن مجتمع لم يستوعب بعد دور الأدب وطبيعته. فلكوننا بالأساس أمة ذات عادات قرائية ضعيفة (ليس لدينا مكتبات أصلا)، فإنه لم يتأصل بعد أي وعي لدى الكثير من الشرائح بأن الكاتب حر في اختيار مادته وإعادة إنتاجها بالطريقة التي يرغب فيها، وذلك بطبيعة الحال دون "قذف" و"تشهير"، وهي ممارسات أحسب أنه منصوص على مخالفتها للقانون قياسا بقوانين الدول المجاورة. إلا أن ما يُحاكَم عليه الكتاب العمانيون في الغالبية العظمى من الحالات تهمة ذات مسمى غريب يدعى "إهانة كرامة"، وهو مصطلح ضبابي وغير واضح المعالم. فما هي حدود إهانة الكرامة، وما هي الكرامة أصلا كاصطلاح قانوني؟

حسب علمي فقد تم توظيف مصطلح "إهانة كرامة"، ربما للمرة الأولى، أثناء محاكمة الكاتب يحيى سلام المنذري عام 2003 بعد أن اشتكى بعض جيرانه أنه يلمِّح إليهم في إحدى قصصه القصيرة. ولأن الأمر كان جديدا على القضاء، لم تكن هناك مادة واضحة في القانون يتم على أساسها تحديد التهمة ورفع الأمر للمحكمة، إلا أن مادة "إهانة كرامة" الموجودة أصلا في القانون، والتي ربما كانت "نائمة" حينها، تم تفعيلها واعتمادها بوصفها "التهمة" التي يمكن بناء عليها إحالة الأمر للقضاء. ومن يومها وجميع الكتاب العمانيين الذين تمت محاكمتهم قد حوكموا بموجب تهمة "إهانة كرامة".

إشكالية محاكمة المجتمع للكتّاب لا تكمن فحسب في ضبابية التهمة ذاتها، لكن المشكلة هي في المجتمع الذي يخلق لنفسه التصور الذي يناسبه عن مفهوم "الكرامة" وعن "إهانتها". وإذا أردنا أن نكون صرحاء، فإن هذه التهمة الغائمة قابلة لأن تتيح المجال، ولعلها قد أتاحته بالفعل، لكثير من ضعاف النفوس أن يتخذوها مطية لمحاكمة أي كاتب، والهدف: المال قبل كل شيء، ولسوف نوضح هذه الجزئية بشيء من التفصيل في السطور أدناه.

 إذا كنا قد أشرنا أن تهمة "إهانة كرامة" قد "تم تدشينها" مع محاكمة القاص يحيى سلام المنذري، فإن قضية المنذري لم تكن المرة الأولى التي يشتكي فيها "مواطن" على كاتب عماني وإن كان الأمر لم يصل للمحكمة حينها. فهناك حالات كثيرة، وأذكر منها حالة قاص من قريتي اشتكتْ عليه -إلى الوالي، على ما أتذكر- امرأة وأهلها لأنه استوحى إحدى القصص من حياتها الشخصية، وبعد أخذ وعطاء تمت تسوية "القضية" توافقيا، أي دون تحويلها للمحكمة، وذلك بتعويض أهل المرأة ببعض المال عن "الضرر" الذي لحق بها، وهو ما يُعرف بـ "التسوية أو التراضي بين الطرفين"، وهو معمول به كثيرا في دونما بلد حول العالم.

أنهت النقود خلافا كان يمكن أن يأخذ أشهرا في سلك القضاء، ولكن في الحالات التي كان الكتاب يصرون فيها على براءتهم من إدعاءات المجتمع، ويرفضون الرضوخ لمطالب المدعي للتسوية المالية، فإن الأمر كان يصل للقضاء، وفي كل الحالات التي وصل فيها الأمر للقضاء فقد برأ القضاء المدعى عليهم. نعود هنا مجددا لما يشكل لنا قلقا في غموض تهمة "إهانة كرامة"، بل وفي وجود بند من هذا القبيل في القانون أصلا يتم توظيفه لمساءلة النصوص الأدبية، وهو قابلية تسخير هذا البند للاستغلال من قبل ضعاف النفوس ومحدودي الثقافة، وما أكثرهم في المجتمع. هنا يتحول الكاتب إلى هدف مكشوف وجاهز لكل من له هوى شخصي أو رغبة في تحقيق مكسب مالي معتمدا على أن هناك فرصةً أنْ يرضخ الكاتب للإبتزاز ويقوم بتسديد المال لكي لا يرفع الطرف المدعي قضية عليه، كون أنه لا أحد يرغب في المجازفة للذهاب للمحكمة ومعايشة ضغط الإجراءات القانونية عدة أشهر. إلا أن الكتّاب الذين يؤمنون بالقيمة الرفيعة للأدب، هم أقوى شكيمة من أن يعبث بهم مجتمع لا يزال الكثير من أفراده  يفكرون بطريقة القبيلة، ويسوون نزاعاتهم بطريقة "الديّة" التي تسدد إذا ما جار أحدهم على غنمة من قطيع قبيلة أخرى!

إلى يومنا هذا فقد خيبت جميع محاكمات الكتاب العمانيين الذين حوكموا بتهمة "إهانة كرامة" طموحَ من يمكن أن يكونوا قد رغبوا في استغلال هذا البند في القانون لمطامح شخصية، إلا أنه لحماية الكتاب من سوء الظن بهم واستغلالهم مجتمعيا، فإن المطلوب إزالة كل لبس عن مفهوم "إهانة الكرامة"، ومراجعة ما إذا كانت هذه التهمة هي الأنسب لمساءلة النصوص الأدبية، أو أن الأقرب إليها تهم أخرى صريحة معروفة في القوانين كـ "القذف" و "التشهير"، فهذه تهم محددة واضحة ولا تُرمى جزافا أمام أي نص أدبي، ولا يمكن أن يكون مجرد تشابه طفيف بين شخصية أدبية وشخصية حقيقية منطويا بالضرورة على احتمالية "قذف" أو "تشهير"، لأن لهذه المصطلحات معايير واضحة تحكم انطباقها وثبوتها في الكثير من قوانين العالم، وهي معايير كفيلة –لوضوحها- بتوفير حماية للكُتاب من أن يتحولوا إلى هدف مكشوف للصائدين في الماء العكر ممن يحاكِمون الكتاب حتى دون أن يقرأوا كتبهم أحيانا!

هامش:
*ما بين المعقوفين إضافة لم تكن موجودة في النص الأصلي عند النشر بجريدة الرؤية.

No comments:

Post a Comment

Note: Only a member of this blog may post a comment.