29 September 2014

حول تجفيف منابع الفكر المتطرف

هل محاربة داعش ستقضي على التطرف؟

بغض النظر عن الدوافع الحقيقية للحلف العالمي المكون من 40 دولة والتي يشن البعض منها حاليا غارات على تنظيم داعش الإرهابي الممتد بين العراق وسوريا، فإن وقف زحف هذا التنظيم الإرهابي قد أصبح ضرورة عالمية، ومطلبا إنسانيا. أما الضرورة العالمية، فهي أن هذا التنظيم لديه أهداف توسعية استعمارية، والفكر الذي يتبناه هذا التنظيم يهدد السلم العالمي، وينشر روح الكراهية والعنف بشكل مقيت، هذا فضلا عن أنّ مقاتلي التنظيم الذين يعودون لبلدانهم –في الشرق والغرب- يشكلون احتمالية تنظيم خلايا إرهابية تقوم بأعمال تخريبية في تلك البلدان. أما الناحية الإنسانية التي تدعو لضرورة التصدي لهذا التنظيم، فهي أن هناك بشرا لاقوا التنكيل الحقيقي بهم في المناطق التي سيطر عليها هؤلاء المقاتلون العنيفون المتعطشون للدماء، فشردوا مئات الالوف من المسيحيين وطوائف أخرى، واغتصبوا نساء بلا حصر، وقطّعوا الرؤوس بأبشع فصل في تاريخ كتاب التعذيب عبر العصور، وفرضوا الذعر في مجتمعات كانت آمنة قبلهم. من ناحية المبدأ، إذن، كان لابد من وقف زحف هذا التنظيم، بل والعمل على القضاء عليه في المعاقل التي احتلها وألحق بها الخراب العميم وأذاق أهلها صنوف الترويع والتنكيل. ومجددا، سأتجاوز دوافع الدول المشاركة في الخطة الطويلة المدى والمكلِّفة جدا للقضاء العسكري على داعش ووقف تمددهم. سأتجاوز هذه الجزئية لأنها ليست موضوع هذه المقالة، وأنتقل لسؤالي الذي يعنيني أكثر. هل يمكن بالقوة وحدها هزيمة داعش؟

قبل أن تصبح داعش تنظيما مسلحا، كانت تيارا فكريا سلفيا. لا أستخدم كلمة سلفي هنا للإشارة لمذهب محدد من المذاهب الإسلامية، وإنما أعني بها الفكر الديني المغلق الذي يستقي رؤاه من نصوص الماضي ومرجعياته دونما مراعاة لمتطلبات العصر، والذي يَعْمَد إلى اختيار الحزمة العنيفة من نصوص الماضي وتجاهل الحزمة المتسامحة. لقد كان أصحاب الفكر الداعشي موجودين دوما بيننا في زماننا الراهن منذ مرحلة التخلص من الاستعمار الغربي في النصف الثاني من القرن العشرين (هذا على أقل تقدير)، وازداد تأثيرهم تدريجيا في السنوات الخمسين الأخيرة، حتى وصل حاليا إلى مرحلة التسلح وإقامة الدولة، حين غدت الظروف السياسية ملائمة لهم. لقد كان حولنا دائما من يرهنون حياتهم بشروط الماضي، سواء من رجال الفتوى أو الدعاة أو شيوخ الدين أو الأفراد العاديين، وكان ضمن هؤلاء قطاع كبير لا يعرف إلا الركون التام لبضعة كتب ألفها بعض الأسلاف ممن لا يُفترض أن نعود إلى كتاباتهم. أولئك قالوا ما يخص زمانهم، وزماننا ليس بحاجة للعودة إليهم لنعيشه بمقتضياته التي يطلبها العصر. هذا هو الجذر الأساس للفكر الديني المتشدد. إنه الاعتقاد بأنه علينا أن نرجع في كل شيء إلى ما كتبه فلان أو أفتى به فلان أو قاله هذا النص أو ذاك. ويا ليت أنّ العودة للماضي كانت تعني العودة لكتب المتقدمين في زمنهم ومَن مثلوا رموزا للانفتاح الذهني، ولكنها عودة لرموز الانغلاق والتعصب. ببساطة، دولة داعش في لحظتها الراهنة هي تحقق عملي للفكر السلفي المنغلق. إنها رفض للحاضر. هذا الفكر وحاملوه كان دوما بيننا وتشجعه حكوماتنا ويربينا الأهل على بعض توجيهاته.  فالنظر للمرأة بوصفها عورة أو ناقصة عقل ودين، مثلا، هو جزء من هذا الفكر الشائع في الحياة اليومية. وقِس عليه العشرات من التفاصيل الصغيرة –التي تخص حياة اليوم- ولكن لا يزال البعض يريد تطبيق رأي الأسلاف فيها، كالغناء و وضع أحمر الشفاه والاختلاط والسفور وتعلّم الموسيقى والنحت والرسم الخ.. والسؤال الآن: هل أنّ هزيمة داعش في العراق وسوريا، لو تمّت، ستلغي هذا الفكر المتغلغل في مجتمعات العرب والمسلمين؟

إذا كان ينبغي محاربة داعش، وهذه –كما قلتُ منذ البداية- ضرورة إنسانية وعالمية ملحة، فإنه ينبغي بالضرورة محاربة الفكر الذي أنجبها. وهذا هو المأزق الحقيقي. يقول واقع الحال أنه لم يصدر لغاية الآن من أية هيئة إسلامية معتبرة بيان رسمي يدين فكر داعش، وكلنا نعرف الأسباب، وهي أن فكر داعش لم يأت من فراغ، لكنه أتى من بعض النصوص المؤّسسة لأيديولوجيا هذه الأمة. إن إدانة فكر داعش غير ممكنة بالنسبة لبلدان لدى كل واحدة منها مؤسسة رسمية مهمتها إخضاع حياة الناس وربط غالبية قوانين البلاد وتشريعاتها بنفس الأيديولوجيا التي يعتنقها الدواعش. لأجل ذلك، فإن الحرب على (الدولة الإسلامية) تعني في نفوس الكثيرين حربا على الإسلام نفسه، وهذا هو السبب الذي جعل وسائل الإعلام العربية تتوقف منذ انطلاق الحرب ضد داعش عن استخدام مصطلح تنظيم الدولة الإسلامية واستبداله بمصطلح داعش. إذ لو عدنا للوراء قليلا، فإن التنظيم كان قد أسمى نفسه داعش في البداية (أي الدولة الإسلامية في العراق والشام)، ثم تحول رسميا إلى (الدولة الإسلامية)، باعتبار طموحه العالمي. وقد استخدمت وسائل الإعلام العربية هذا المسمى في الشهرين الماضيين. واليوم عادت لتسمي هذا التنظيم باسم داعش، فقط لكي يبدو مستساغا لعموم المسلمين الهجوم عليه بوصفه تنظيما إرهابيا، وليس بوصفه ممثلا شرعيا للخلافة الإسلامية التي يحلم بتحققها كثير من البسطاء وتتبنى فكرها وفلسفتها تلك المؤسسات الرسمية في البلدان الإسلامية المشاركة في الحرب على داعش!

لابد من التدخل العسكري لوقف تمدد داعش، ولابد منه لتحرير الأراضي والشعوب التي احتلها هؤلاء البرابرة. لكن لابد أيضا من "حرب تنويرية" ضد منابع الفكر الداعشي، وهي حرب لن تقوم بها الحكومات، إما لأنها لا تستطيع ذلك، أو لأنها لا ترغب فيه حماية لمصالح معينة. من يستطيع محاربة الفكر الداعشي ووقف إمداده بمتطرفين جددا، هم ببساطة الأفراد وأولياء الأمور، وإلى جوارهم التنويريّون من أصحاب الفكر السببي الذين يعملون على تبصير عموم الناس بالممارسات التي تخلق الفكر المتشدد. إذا تمكن التنويريون من إصلاح مناهج التعليم، وكان لهم دور في وسائل الإعلام ووزارات الثقافة ومنابر التوعية الاجتماعية، فإن طاقة مضخات توليد الفكر المتطرف ستتقلص إلى أدنى مدى ممكن. أما الأهالي، فلن يكونوا لوحدهم قادرين على تنشئة أجيال متسامحة ومتحلية بالفكر السببي طالما كانوا هم ايضا مربوطين بالماضي الذي ترعاه مؤسسات الدولية الرسمية من وزارات دينية وسواها، لكنهم سيستطيعون فعل الكثير بعد ان يبدأ التنويريون العمل. لكن هل يستطيع المفكرون الطليعيون أن يفعلوا شيئا في أوساط شعوب تنتظر بفارغ اللهفة دخول طلائع داعش إلى أراضيها لينضموا إليهم؟

اليوم.. تلجأ أجهزة الاستخبارات العربية للتنويريين ليحاربوا الفكر الداعشي بدلا عنهم. لقد كانوا بالأمس هم رعاة القيادات الفكرية التي أدت إلى نشوئه. إن الدول التي تدفع المليارات لهزيمة داعش عسكريا، عليها ان تدرك أن خططها قد تنجح فقط في السيطرة عسكريا على هذا التنظيم في العراق والشام فحسب. أما تجفيف منابع هذا الفكر في المنطقة العربية فهو يأتي بالتوقف عن دعم المؤسسات الماضوية في هذه البلدان والتي تُفرد لها حكومات هذه الدول كافة وسائلها الإعلامية وتسن قوانينها بناء على رؤاها. إن رضى دولةٍ ما بتحريم أو تجريم أي سلوك يدخل في نطاق الحريات الفردية لأسباب أيديولوجية، وقيامها ببناء قوانينها المدنية وفقا لما قاله السلف، هو بالضرورة لبنة تضاف لجهودها الجبارة في بناء الجيل الجديد من مقاتلي داعش. والعكس صحيح! وكمثال فقط، كيف تعتقد دولة مثل السعودية أنها تستطيع محاربة الفكر الذي يولد الإرهابيين، بينما توجد ضمن مؤسساتها الرسمية هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي لا تختلف في منطلقاتها الفكرية عن فكر داعش؟ وإذا كانت هيئة الحسبة مثالا كبيرا واضحا وضوح الشمس على الفكر المتشدد ضمن مؤسسات الدولة وقوانينها، فهناك عشرات الأمثلة التي لا تحصى من تفاصيل الحياة اليومية توضح أن محاربة الفكر الداعشي تبدأ في اللحظة التي تَفْصُلُ فيها الحكومات دساتيرَها ومؤسساتها القانونية عن المرجعيات الماضوية المتعارضة مع الحريات الفردية وحقوق الإنسان المعاصرة. ما لم يحصل هذا الفصل، والذي لن تفعله الحكومات يوما إلا ربما بعد ضغط شديد من التنويريين، فإن محاربة داعش في سوريا والعراق ستكون مجرد علاج جزئي لمشكلة كبيرة. عموما، الحكومات وأجهزتها الأمنية خائفون الآن من داعش، ويريدون من التنويريين أن يحاربوا عنهم في الجبهة الداخلية، ولكنهم أيضا غير مستعدين للاعتراف بأن أنظمتهم تحمي الفكر الذي تترعرع في تربته النباتات الضارة. فإلى أين تتجه هذه الحبكة المعقدة في هذا المسلسل الطويل الذي ابتدأ منذ بداية التاريخ ويتجه للاستمرار حتى الأبدية؟ 

25 September 2014

ما الذي يتوقعه عبدالله خميس هذا اليوم؟

ما الذي يتوقعه عبدالله خميس هذا اليوم؟

حين يستيقظ المرءُ منا كلّ صباح، ما الذي يتوقعه من يومِه؟ ماذا ينتظر؟ ما هي تخيُّلاتِهِ لشكل اليوم إجمالا: مُرْهِقا، ممتِعا، مزعجا، مملا، عاديا، مميزا؟ هل يحق لنا أصلا أنْ توقع مثل هذا الأمر، أم أن الدقائق تليها الساعات تسير لوحدها كيفما اُتفق، بدون أن تنتظر منا توقعا معينا؟

يحلو لي أن أنطلق في تأمل الأسئلة أعلاه من زاوية شخصية. هئنذا أسأل نفسي الآن: ما الذي تتوقعه يا عبدالله خميس من يومك؟ وماذا لو كنتَ لا تتوقع شيئا؟ هل يمكن ألا أتوقع شيئا أصلا؟ هل عدم توقع شيء فرضيةٌ ممكنة بالأساس، سواء لي أو لغيري من الناس؟

ما أتوقعه ليومي لم يبدأ منذ لحظة استيقاظي، ولكنه بدأ بما كنت أقوم به بالأمس. قبل أن آوي إلى فراشي ليلا، كنتُ أعرف أنه عليّ أنْ أستيقظ باكرا هذا اليوم. لا أستيقظ باكرا في جميع الأيام، وحتى عندما أفعل، فإنني كغيري من الناس لا أستيقظ دوما بنفس المزاج. كلنا نستيقظ بأمزجة مختلفة، فيها الكسل أحيانا، والكدر أحيانا أخرى، والترقب في بعض المرات، والقلق في أيام أخرى إذا كان يومنا سيحفل بحدث غير عادي، مثل مقابلة عمل او امتحان مهم أو اجتماع لجنة معينة لتقر او ترفض مقترحا تقدمنا به. في الغالب، قبل أن ينام المرء يستشعر بالحدس كيف سيكون مزاجه في الصباح. إنه يعرف ذلك لأنه يدرك أن غده ليس إلا امتدادا ليومه. وإذا كان عليّ أن أتحدث بالتحديد عن يومي هذا، فقد كنتُ أدرك –قبل نومي البارحة- أنه على صباحي هذا أن يكون مكللا بالإصرار. كنتُ أعرف اني أريد أن أكتب مقالة هذا الصباح، وهو أمر غير روتيني لأني أفعل ذلك مرة واحدة في الاسبوع. لكن منبع الإصرار هذه المرة هو أنني كنت مدركا أنني سأكتب مقالتي في المكتب الذي يشاطرني فيه أربعة موظفين آخرين، حيث تتضاءل فرصة التركيز التي تحتاجها عملية الكتابة إلى أدنى مستوياتها. كنت مصمما على الكتابة، ولذا، قبل أن آوي إلى عالم الأحلام ليلا، كنتُ قد وطّنتُ النفس على أن أستيقظ اليوم نشيطا.

إننا نوطّن نفوسنا على ما نشاء. هذا شأنٌ بمقدورنا القيام به. أحيانا لا نفعل، ونترك الدقائق تقودنا عوضا عن أن نتولى نحن زمام الأمور. لكن الأيام الأفضل في حياتنا هي الأيام التي نفعل فيها العكس. ها إنني أكتب مقالتي وحولي الموظفون، وهناك مراجعون، وزملاء آخرون يدخلون للسلام، وآخرون أسمع رنات هواتفهم المزعجة. لكن لا شيء يستطيع إيقافي، حتى لو ناداني المدير فلن يمنع هذا اندماجي فيما أفعله الآن. لأنني كنتُ قد قررتُ أنني أريد الكتابة. ما أريده لهذا الصباح هو بعض الإنتاجية. هو إنجاز شيء ما. هذا الشيء هو أنْ أكتب. تحديدا، أنْ أكتب في ظرف استثنائي. أنْ أكتب في يوم عمل، ليس في عطلة نهاية الاسبوع. أنْ أكتب في المكتب، وليس في البيت.

كل شيء ساهم في خلق المناخ العام ليومي كان قد ابتدأ منذ الأمس. بالأمس، وضعتْ إحدى الصديقات تدوينة لها على الفيسبوك تتساءل فيها عما إذا كان علينا أن ننتظر شيئا من يومنا أو هل علينا الحياة دونما انتظار شيء. قرأت ذلك بالأمس في وسط يومي المزحوم بخطط معدة في اليوم السابق له. قرأتُ ذلك وفكرتُ فعلا انّ هذا التساؤل هو موضوع جيد لمقالة. "ماذا ينتظر عبدالله خميس من يومه؟"، سؤال وُلِد بالأمس. أما اليوم، فكنتُ مصرا على الإجابة عليه. المزاج الذي استيقظتُ به صباحا كان مرتبطا بهذا الموضوع. موضوع السعي للإجابة على هذا السؤال. لذا، حين دخلتْ عليّ طفلتي الغرفة بعد أنْ ايقظتها المربية لتتجهز للذهاب للحضانة، وأنا ما زلتُ بين النوم واليقظة، كنتُ مهيئا لأحضنها –كما أفعل دائما- ثم أنهض بعدها فورا لفنجان القهوة. أحيانا أعود للفِراش بعد حضن الصباح لطفلتي: أتكاسل في النهوض، وأطيل أمد التلذذ بلذعة البرد التي يكون جهاز التكييف قد أشاعها في الغرفة. لكني اليوم كنتُ مهيئا لمزاج الإصرار على الإنتاجية. لذا، قبل أنْ أنهي فنجان قهوتي وأنا بالبيت، كنتُ قد ألقيتُ التحية برسالة نصية على صديقة أعلم أنها بحاجة لتحية الصباح من احدهم حتى أستحث يومها للعمل. ثم أرسلتُ لها مقطعا موسيقيا ليكون –كما آملُ- مُفتَتَحا جيدا ليومها. هكذا إذن: النشاط معدٍ! الإصرارُ قابلٌ للتوزيع على الآخرين! وبهذا المنطق، أرسلتُ رسالة مصورة لصديقة أخرى منقوش عليها كلمة (صباح التفاؤل). هذا ما كنتُ أنتظره من يومي: التفاؤل. إن التفاؤل أمر مُعد بالمعنى الإيجابي للعدوى. إنه طاقة خلاقة تشع لتنعكس على الآخرين.

الآن وأنا أسطّر ما قد يكون الفقرة الأخيرة من مقالي الصباحي هذا، أعرف بشكل عام ما الذي أنتظره من يومي. إنني أنتظر منه أن يكون مملوءا بالإنتاجية. هذا ما أريده منه. لا أريده يوما ضائعا بلا معنى. حتى صفحة الفيسبوك عليّ أنْ أملأها بالمفيد. هئنذا قد روّجت لعرض الغد (اليوم بالنسبة لك يا قارئ مقالتي) بدار الأوبرا السلطانية، أملا في ان يحظى عازف الكلارينيت باكيتيو دي ريفيرا بالجمهور الذي يستحقه من الذوّيقة لفن الجاز. كان هذا فور تشغيلي لحاسوب المكتب. والآن إتمامُ هذه المقالة، وهناك قابلية للقيام بأمور كثيرة فيما تبقى من ساعات هذا اليوم. لا أريد ليومي هذا أن ينقضي دون شيء آخر مفيد، أنْ أكتب مادة في مدونتي مثلا، و أنْ أنجز شيئا إضافيا في العمل الذي تم تكليفي به في وظيفتي الحكومية، أو أن أتخاطب مع الرفاق الذين أحبهم بمقاطع موسيقية أخرى علها تلامس شغاف أفئدتهم، وأن أقضي وقتا جيدا مع عائلتي عند العودة للبيت، وبالطبع السعي لِأنْ لا ينتهي ليلي إلا بمشاهدة فيلم جديد من سينما العالم الخلاقة. هذا ما أنتظره من يومي، وهذا ما سأسعى إليه.

أكان ممكنا ألا أتوقع حدوث شيء في يومي هذا؟ لا، ليس بمقدوري تخيّل شيء كهذا. سواء أكان يومنا كئيبا أو متفائلا أو مليئا بالتوقعات والإثارة، فما هذا إلا نتاج ما زرعناه في أمسنا. ربما هناك أشياء خارجة عن إرادتنا تؤثر في ما سيكون عليه يومنا، كوقوع خبر سيئ لا قدّر الله، أو أننا قد نمنا بروح كسيرة لهجر حبيب أو لعدم حصول شيء كنا قد انتظرناه في أمسنا. نعم هذه أشياء تحصل، لكن القاعدة، انّ غدنا هو ما نزرعه في يومنا، ويومنا هو ما غرسناه في أمسنا. لذا علينا ألا نتوقع شيئا إلا حصاد ما بذرناه، فنحن لا نجني ثمار الآخرين، لكننا نقطفُ غرسَ أيدينا.

22 September 2014

الأزمة الاقتصادية العالمية وأثرها المحلي.. عام 2009م

كُتبت بالأصل في الثاني من يناير 2009.. ونُشرت في وقتها في مجلة الرؤيا.


سنة صعبة يا جميل!

يتوعدنا خبراء الاقتصاد حول العالم بأن سنة 2009 ستكون صعبة على الجميع في مختلف بلاد العالم.. فالصورة التي يروجها الإعلام هي أن النصف الأول من 2009 على الأقل –إن لم يكن السنة بكاملها- سيشهد المزيد من الآثار السلبية للأزمة الاقتصادية العالمية. إذ من المتوقع انهيار بعض الصناعات أو توقف نموها، وأن تقوم بعض الشركات بتسريح موظفيها أو تكف عن تعيين موظفين جددا وهو ما يعني ارتفاع نسبة البطالة، فضلا عن ذلك فإن بعض الدول ستجمد الكثير من برامجها التنموية وتعلق تنفيذها حتى إشعار آخر، أما أصحاب الصناعات الصغيرة والمتوسطة فهم مهددون بفترة صعبة وبتقلص فادح في الأرباح وربما تغلق الكثير من المؤسسات الصغيرة أبوابها. ليس السؤال هنا عما إذا كانت هذه النبوءات جميعها صادقة ولا عن إلى متى يمكن أن يدوم الوضع هكذا، لكن السؤال الذي يطرحه المرء هو: ألا يمكن أن تعود الأزمة الاقتصادية العالمية ببعض النفع على البسطاء؟ إلى أي مدى سيتأثر المواطن العماني سواء أكان موظفا حكوميا أم في القطاع الخاص أم باحثا عن عمل بآثار الأزمة الاقتصادية على الصعيد المحلي؟ أليس لكل أزمة جانب خفي مشرق يمكن أن يحمل في طياته الأمل بغد أفضل؟ وهل علينا أن نتوقع 2009 سنة صعبة حقا أم أننا سننجح في اجتيازها بأقل الخسائر؟
          لغاية الآن تبدو الآثار السلبية للأزمة المالية العالمية واضحة على فئات محددة فقط من المواطنين منهم أصحاب الأسهم في أسواق المال الذين سجلوا خسائر قد لا يكون من السهل تعويضها قريبا، كما تضرر سماسرة الأراضي والعقارات بانخفاض أسعار الأراضي والبيوت بشكل واضح في بعض مناطق السلطنة.. وهذه النقطة بالتحديد لها جانبان.. فمن خسروا هم في معظمهم من  السماسرة الذين أذاقوا الناس العذاب في السنتين الماضيتين بممارساتهم الجشعة في أعمال المضاربات التي أدت إلى ارتفاع جنوني في أسعار الأراضي والمنازل بلا سبب وجيه. إذا أردنا الصراحة فإن هؤلاء يستحقون الخسارة لأن ممارساتهم كانت من الأصل غير شرعية ولا أخلاقية، بل كانت على العكس من ذلك، مضرة بعموم الناس.. شهد عام 2008 أزمة ارتفاع أسعار البيوت والأراضي بحيث أصبح المواطن العماني ذو الدخل البسيط والمتوسط غير قادر مطلقا حتى أن يحلم ببيت يأوي فيه أسرته. لا أخجل هنا من أن أتخذ نفسي مثالا لمن أيقنوا أنه بسبب جشع السماسرة وتقصير جهات الاختصاص في كبح ظاهرة غلاء الأسعار قد فقدوا الحلم بأن يكون لديهم منزل صغير يؤويهم على هذه الأرض التي أشبعها التجار الجشعون غلاءً وحولوها إلى مكان لا يستطيع أبناء البلد أن يجدوا لهم موطئ قدم فيه. إذا أخذنا خريج الجامعة مثالا للحديث، وهو الذي ينال مرتبا يصل حاليا نحو 620 ريالا بعد مرور 5 سنوات على تعيينه بإحدى الوزارات الحكومية، كيف لشخص مثل هذا أن يحلم يوما ببيت يبنيه أو يشتريه جاهزا في ظل حقيقة أن أرخص بيت جديد في مسقط مكون من طابق واحد قد وصل سعره بنهاية عام 2008 إلى 80 ألف ريال عماني؟ إذا كانت أعلى سلفية يمنحها بنك محلي مقدارها 80 ضعفا للمرتب، أي حوالي 50 ألف ريال لمن يبلغ راتبه 620 ريالا شهريا، فماذا تفعل هذه النقود إذا كان أرخص بيت من طابق واحد، في العامرات تحديدا—وهي أرخص مكان متاح في مسقط، يصل سعره إلى 80 ألفا؟ ماذا تفعل 50 ألفا إذا كان سعر الأرض في العامرات في المناطق التي وصلتها الخدمات قد فاق الثلاثين ألفا؟! ما حصل في 2008 هو الجنون بعينه، ولقد نجح التجار ومن يقف خلفهم من مستغلي المناصب في خداع الناس بأن ذلك كان نتيجة للغلاء العالمي.. إن الغلاء المحلي كان معظمه في حقيقة الأمر نتيجة لتصرفات جشعة لم تجد من يلجمها فاستفحلت وتوحشت وكادت أن تجعل من عمان بلدا غير ممكن السكنى للعمانيين!
          قادت الأزمة الاقتصادية العالمية إلى ركود في سوق العقارات في الدول الغربية لامتناع البنوك عن الإقراض وتخوف الناس من العجز عن سداد أقساطهم إذا ما اشتروا عقارا مرهونا، أما في بلداننا الخليجية فإن آثار الأزمة الاقتصادية على سوق العقارات لا زالت جزئية.. لقد انخفضت أسعار الأراضي بعض الشيء في المناطق غير الخدمية، كما رخصت قليلا أسعار البيوت في بعض المناطق، لكن غالبية المناطق لم تتأثر بعد لكون أن السماسرة لازالوا قادرين على المناورة بانتظار ما ستسفر عنه الشهور القريبة القادمة.. يعود السماسرة مرة أخرى ليكونوا اللاعب رقم واحد في فترة الأزمة المالية العالمية مثلما كانوا أنفسهم اللاعب الأول في فترة طفرة ارتفاع الأسعار عامي 2007 و2008. لم يتغير شيء بعد في عقلية هؤلاء، فجيوبهم المتخمة بالمال وأدمغتهم المثخنة بالجشع لا زالت كما هي. إنهم يفضلون أن تظل البنايات التي بنوها خاوية على أن يبيعوها أو يؤجروها بأسعار معقولة، رغم علمهم المسبق بأن الأسعار التي يضعونها لهذه العقارات مبالغ فيها وتمثل صورة صريحة من صور الاحتكار والجشع والإضرار بمصالح الوطن والمواطنين. لا يعرف المرء إلى متى سيستطيع هؤلاء المقاومة قد أن يبدأوا بالرضوخ لضغوطات السوق والواقع ويخفضوا أسعار العقارات ويعودوا بها إلى المبالغ الفعلية التي تستحقها. إنه لا معنى بالمرة أن تكون قيمة أرض صغيرة في المعبيلة 60 ألفا فما فوق. هذا الرقم غير منطقي بكل المقاييس ولا يعني شيئا سوى أن الجشع والاستغلال قد وصلا أبعد مدى ولم يجدا ضوابط أو قوانين فاعلة تكبح جماحهما وتضع المصلحة العامة فوق المصلحة الخاصة لتلك الفئة المحدودة من ملاك العقارات الذين يريدون الثراء الفاحش –وليس الثراء المعقول والمشروع- ولو على حساب مئات الألوف من ذوي الدخل المحدود والمتوسط. إن إحدى إيجابيات الأزمة الاقتصادية العالمية المتوقعة بالنسبة للإنسان العادي هي احتمالية انخفاض أسعار الأراضي والبيوت بحيث تعود لأسعارها الحقيقية الطبيعية وتصبح في متناول يد الطبقة المتوسطة من المواطنين. إن الجشع الحالي في الأسعار يؤدي إلى تحول الطبقة الاجتماعية الوسطى إلى طبقة فقيرة، وهو أمر مزعج للغاية كون الطبقة المتوسطة هي طبقة المتعلمين والخريجين الجامعيين والمثقفين المعوّل عليهم المساهمة في مجالات الإبداع المختلفة من سياسة وعلوم وأدب وطب وغيرها، وانهيار هذه الطبقة وتحولها إلى طبقة فقيرة من العمال الكادحين يعني غوص الاقتصاد في نمط الأشغال اليدوية البسيطة وبالتالي غياب الإنتاجية والمبادرات الخلاقة، وهو ما يعني تحول المجتمع إلى طبقتين فقط وليس ثلاثا هما طبقة الأرستقراطيين ذات الأقلية العددية البسيطة التي تتحكم في مصير الطبقة الثانية المكونة من الشغّيلة والعمال البسطاء. إن هذا السيناريو مرعب لأنه يعني وجود نظام قائم على ثنائية المالك والأجير مع غياب الطبقة الوسطى التي تصنع التوازن الحقيقي في أي مجتمع. حين يفكر المرء بأن لكل شيء جانبا مشرقا، حتى للكوارث، فإن الحسنة المأمولة للأزمة الاقتصادية العالمية على الصعيد المحلي هي أن نشهد عودة الطبقة العمانية الوسطى إلى ممارسة دورها الطبيعي الذي كان موجودا ذات يوم قبل استفحال جشع الإقطاعيين الجدد من التجار والسماسرة. إن أول ما يحتاجه أفراد الطبقة الوسطى هو تأمين متطلبات الحياة الرئيسية وعلى رأسها المسكن الملائم، فبدون هذا لن تكون الطبقة الوسطى وسطى ولكنها ستكون معدمة حالها حال الطبقة الدنيا. يأمل المرء صدقا أن تعصف الأزمة الاقتصادية العالمية بغطرسة الجشعين من الاحتكاريين ممن لم يفعلوا شيئا في السنوات الماضية سوى تهجير العمانيين إلى كافة دول الخليج بحثا عن لقمة العيش بعد أن انسدّت في وجوههم كافة أبواب الرزق في بلاد ثرية يفتَرض بها أنها قادرة على إعالة أهلها!
          قد تعاني الطبقة الدنيا أكثر في عام 2009، فالأيدي العاملة الافتراضية –أي التي هي حاليا خارج سوق العمل- والتي من المفترض أن تعمل في المهن ذات الخبرات البسيطة قد تزداد في أوساطها نسبة البطالة، وما يخشاه المرء أن تبدأ بعض الشركات فعلا في تسريح عدد من عمالها. إن أمنية المرء هنا هي ألا تدوم الأزمة الاقتصادية العالمية طويلا، كما أن بعض العزاء سيتحقق لو أسفرت هذه الأزمة عن نيل الطبقة المتوسطة بعضا من حقوقها المسلوبة حاليا وعلى رأسها حق المقدرة الشرائية لامتلاك منزل. على أية حال فإن انخفاض السلع الأساسية –وعلى رأسها المواد الغذائية- أمر متوقع كإحدى ثمرات الأزمة المالية الدولية.. قد يفيد هذا الانخفاض الطبقة الدنيا ويخفف من أعبائها. لقد بدأنا نشهد فعليا انخفاضا طفيفا في أسعار بعض السلع الاستهلاكية، وهو ما نتمنى له الاستمرارية من أجل البسطاء من الناس الذين أرهقهم الغلاء ووقفت الجهود المبذولة قاصرة عن فعل شيء جذري وفعال للتخفيف من معاناة الناس.
          هي سنة صعبة علينا مثلما هي صعبة على بقية العالم، ولكن هناك أمل في أن يستفيد منها البعض في استرداد بعض حقوقهم المسلوبة المتمثلة في توافر مسكن –تمليكا أو استئجارا- بأسعار مناسبة، وكذلك القدرة على الحصول على المواد الاستهلاكية الأساسية بأسعار لا تحوّل حياة الناس إلى جحيم.. إن جميع مؤسسات الدولة مدعوة للنظر إلى سنة 2009 باعتبارها سنة للوقوف إلى جوار المواطن البسيط، وليس المطلوب أكثر من بعض الرحمة بالناس وذلك بالوقوف في وجه سماسرة الأزمات ومستغليها من ملاك العقارات وملوك المضاربات المتوحشة على الأراضي والعقارات واللحوم والأسماك وحليب الأطفال.

21 September 2014

عن أوبرا (مكبث) بدار الأوبرا السلطانية

حين تحركتْ غابةُ بِرنام بدار الأوبرا السلطانية!


بواحدة من أهم تراجيديات وليام شكسبير الكبرى، وبأحد أهم أعمال جوزيبي فيردي عند تأليفهِا (إذ كان عُمر مؤلفها 34 عاما فقط آنذاك)، افتتحت دار الأوبرا السلطانية مسقط موسمها الجديد 2014 / 2015 بعرض أوبرا (مكبث)، المبنية على نص أعده فرانسيسكو ماريا بياف عن المسرحية المعروفة. مسرحية (مكبث) عمل عميق، خالد، عن النفوس المعقدة التي تضحي بسلامها الروحي من أجل السُلطة، وليس مُهمّا لديها مقدار الدماء التي تتخضب بها يداها في سبيل الحفاظ على السُلطة. هذا الصراع الدرامي العميق ما يزال يُلهم اليوم مخرجين مسرحيين وسينمائيين عديدين لإعادة إنتاجه، إلا أنّ أوبرا فيردي هذه تضيف لعظمة النصِ الموسيقى المذهلة، والأداءَ المستحدثَ في أسلوبه الفني. أما إنتاج فرقة مسرح (فيردي تريستي) التي قدمت هذا العمل بدار الأوبرا السلطانية، فهو أخاذ بصريا وإخراجيا، وحابس للأنفاس على صعيديْ الإضاءة وتصميم المناظر.
سأقتبس تلخيص حكاية أوبرا (مكبث) من مقالة نشرها مؤخرا د. ناصر الطائي مستشار دار الأوبرا السلطانية للتعليم والتواصل المجتمعي، بتصرف محدود للغاية. تدور أحداث أوبرا "مكبث" في مقاطعة موراي في شمال أسكتلندا. تبدأ الأوبرا بالجنرال مكبث وصديقه بانكو اللذين تستوقفهما مجموعة من الساحرات وهما في طريق العودة من موقعة كبيرة، وإذ بالساحرات ينادين مكبث بلقبه الجديد لورد كاودور ثم بالملك. أما بانكو فألقين عليه التحية قائلات: "ستكون أقل شأنًا من مكبث وستكون موفور السعادة!" وتنبأن له بأن أبناءه من بعده سيكونون ملوكًا. وتحقيقا للنبوءة، تساعد الليدي مكبث زوجها على قتل الملك دنكن وتكتمل الجريمة بإدانة حارسي الملك النائمين بعد تلطيخ أيديهما بالدماء.
في الفصل الثاني نرى مكبث وقد أصبح الآن ملكًا ولاذ مالكوم ابن دنكن بالفرار. يسعى مكبث الذي تسيطر عليه نبوءة الساحرات حول مستقبل بانكو إلى قتل بانكو هو الآخر وابنه، إذ قالت الساحرات أن أبناء بانكو سيصبحون ملوكا لاسكتلندا. وبالفعل يلقى بانكو مصرعه فيما يتمكّن ابنه من الهرب. في إحدى مآدب الطعام، ليلة مقتل بانكو بتدبير من مكبث، تغني الليدي مكبث أغنية عن الشراب، ويبدأ مكبث بالهذيان حيث يرى شبح بانكو جالسًا مكانه على العرش. يعتقد الضيوف أن مكبث قد فقد صوابه على الرغم من محاولة الليدي مكبث إعادة النظام.
في الفصل الثالث، تعود الأحداث مرة أخرى الى عالم الساحرات المظلم إذ يجتمعن في كهف ويبلغن مكبث بثلاث نبوءات: أنْ يحذر من ماكدف (أحد القادة المخلصين للملك المغدور به دنكن)، وأنه لا يمكن لأي رجل ولدته امرأة أن يُلحِق الأذى به، وأنه لن يُغلَب إلا إذا تحركت أشجار غابة بِرنام وجاءت إلى قلعته.
وفي الفصل الأخير، يصر ماكدف على الانتقام لزوجته وأطفاله الذين لقوا حتفهم (على يد مكبث)، وينضم إليه كل من مالكولم ابن الملك دنكن والجيش الإنجليزي الذين يحملون فروعًا من أشجار غابة بِرنام متخفين خلفها، وينقضون على قوات مكبث.
كانت مسرحية (مكبث) مغرية دوما للمخرجين لتقديمها، لعمق موضوعها، وقوة البُعد السيكولوجي فيها. فمكبث والليدي مكبث تقودهما أطماعهما لارتكاب الجرائم، إلا أنّ كل جريمة يرتكبانها –للحفاظ على العرش- تزيد عذاب ضميرهما أكثر فأكثر. وكل جريمة لابد من التغطية عليها بجريمة أخرى، حتى يولغان تماما في الدماء، ولكنهما أيضا يوغلان في الهلاوس والخوف، وينسيان راحة البال تماما، بل وينسيان النوم. في الفصل الرابع من الأوبرا التي لحنها فيردي، ثمة مشهد مهم آسر. الليدي مكبث تسير وهي نائمة (مُسَرنَمة)، وتهذي بالكيفية التي لطّخت فيها يديها بدماء الأبرياء. يراها الخدم ويسترقون إليها النظر، وهي تسير مفتوحة العينين لكنها لا ترى شيئا. ثم تقوم بغسل يديها دونما ماء، في ذروة لحظات تأنيب الضمير، إذ تعتقد أن ذلك سيطهر يديها مما أراقته من دماء. لقد كانت الليدي مكبث أقوى شكيمة من مكبث، فقد بدا مكبث مترددا منذ البداية في ارتكاب الجرائم، لكن نبوءات الساحرات بأنْ يصبح ملكا كانت تغريه. وحين كان يتردد في القتل، كانت الليدي مكبث هي المحفز له، بل تُكمل جرائمه التي لا ينجح هو إلا في ارتكاب نصفها وتركها مُعلّقة. هذا ما يحدث في اليقظة، على مستوى الوعي: تكون الليدي مكبث الأكثر إصرارا على ارتكاب الجريمة بدم بارد. لكن على مستوى اللاوعي، فإن العذاب والندم يفعلان بها الأفاعيل، فيحرمانها حتى من النوم، لينتهي بها المطاف وقد قتلت نفسها لأنها لم تعد تحتمل أكثر!
المشهد الذي تسير فيه الليدي مكبث مُسَرنَمة، كان أكثر مقاطع الأوبرا لفتا للنظر بالنسبة لي من الناحية الموسيقية. لقد كان أطول مشهد تستمر فيه الموسيقى دونما غناء أو حوار (باستثناء مقدمة الأوبرا overture). وقد كانت الموسيقى مسترسِلة، ممتدة، مسافرة في حلم طويل. لستُ موسيقيا لأصف الأمر بكلمات أكثر تحديدا، لكنْ يمكنني القول أنّ موسيقى هذا المشهد كانت مسرنمة هي الأخرى. على أية حال، فقد شكلت أوبرا (مكبث)، منذ تقديمها لأول مرة، تحديا لمغني الأوبرا، وذلك بسبب طبقة الصوت المطلوبة لليدي مكبث ولمكبث ايضا. فبخصوص الليدي مكبث، فالأمر بحاجة لمغنية تؤدي بطبقة تجعل صوتها معبرا عن طاقة الشر الكامنة لدى الليدي مكبث، وهو أمر صعب للغاية، إذ انْ ذلك يتنافى ظاهريا مع فكرة "الصوت الجميل". السهل هو إيجاد مغنية تجعل صوتها يبدو كما لو أنه قبيح، ليحاكي روح الشر المنشودة. لكن مسألة "كما لو أنه" هي ما شكلت تحديا لفيردي ومن أتوا من بعده. المطلوب هو الشر، وليس محاكاة الشر. لذا يمكنني القول أن السوبرانو المجرية سيسيلا بوروس التي أدت دور الليدي مكبث في عرض دار الأوبرا السلطانية كانت مذهلة بحق.
يقول د. ناصر الطائي في مقالته المشار إليها: فيردي كان يعي تمامًا الأهمية التاريخية التي تمثلها مسرحية شكسبير، ولقد كتب إلى فرانشيسكو ماريا بياف، مؤلف نص عمله الأوبرالي قائلًا: "إن هذه التراجيديا هي أعظم ما أبدعه قلم إنسان! وإن لم نستطع أن نصنع منها شيئًا عظيمًا فدعنا نحاول على الأقل أن نصنع شيئًا مختلفا". إن الساحر الوحيد الذي يبدو أنه لم تواجهه مشكلة في عرض أوبرا (مكبث) هو هينينج بروخاوس، مخرج العمل، إذ قدم عرضا مبهرا وظف فيه الإضاءة والديكور بشكل يأخذ الألباب. لقد جعل بروخاوس غابة بِرنام تتحرك فعلا على خشبة المسرح، في مشهد مهيب، وأعطى مَشاهد الليل حقها من الوحشة، وجعلها "كناية عن الجانب المظلم من حياتنا ومن الإنسانية" (كما يقول بروخاوس نفسُه). كما كان الإخراج ثريا بصريا في مشاهد الساحرات أثناء طقس إلقاء نبوءاتهن. أما صور الجماجم التي امتلأ بها الديكور، فكانت انعكاسا لعتمات الشر وظلام الفوس، وقد أضافت بعدا "أخلاقيا" للعمل، وربطت واقعنا المعاصر –المملوء بالرؤوس المقطوعة- بهذا العمل المثخن بأساطير الساحرات والعرافات.
لا يزال عرض (مكبث) مستمرا ليوم غدٍ الإثنين على مسرح دار الأوبرا السلطانية مسقط، وهو عمل لا يمكن تفويته. أما فنانو المسرح والدراما في بلادنا، فعليهم بالقطع أن يجعلوا مشاهدته مساء الغد على رأس قائمة أولوياتهم –إنْ لم يكونوا قد فعلوا ذلك فعلا-، لأن عملا كهذا قد لا يتكرر في القريب العاجل. وستبقى أنّة الليدي (مكبث) ماثلة في نفوسنا إلى أمد بعيد، وهي تزفر بمرارة: "إن جميع العطور العربية لن تكفي لغسل يديّ الآثمتين". لا شيء آخر سيعصم حياتنا من الوقوع في المزيد من الآثام.. سوى الفن.

19 September 2014

كلُّ النساءِ تُحيلُ إليكِ

كلُّ النساءِ تُحيلُ إليكِ




وأنا أفتحُ فَصّ السُوتيانِ
حَضَرَتْ في رأسي سبعُ نساء!
اللعنة!
واحدةٌ همستْ في أُذُنيْ شيئا عن كيفَ أطوّعُ جسدَ الأنثى
ليكون لهيبا، وحشا يزأرُ بالشهوةِ.
إني يا صاحبتي.. -والشكر لنصحكِ موصولٌ- أعرفُ كيف يصير الجسدُ لهيبا
لا أحتاجُ سوى أن أعطيه الوقتَ الكافي
حتى يتفتحَ كالزهرةِ، ويفوحَ عبيرا.
هل أخبرتُكِ يوما، ونحن نثرثر في سَهَرٍ عن كيف يُربّي المرءُ الشهواتِ، هل أخبرتكِ كيف أحبُّ الجسدَ الفوّاحَ، وما يزعجني عَرَقٌ أو عطر، فالكل بِعُرْفِ الحب سواء؟
هل أخبرتكِ أني أسعى.. أبحثُ أصلا عن هذا العَرَقِ الناضحَ في الأنثى
فهو العطرُ لروحي في خفقاتِ الرعدِ وجلجلةِ الأنواءْ.
فدعيني الآنَ يا صاحبةٌ
فحين يُفَكْفَكُ زرُ السوتيانِ لا أحدا أحتاجُ
سوى أنثاي/ الأفعى الرقطاء.
* * *
ولقد حضرتْ أنثىً أخرى
وأنا أرشفُ هذي الحلماتِ.. حضرتْ في رأسي أنثىً أخرى
كانت تجلسُ قربي في مقهىً ذي ضوءٍ هادئْ
كانت شاردةً، وأنيقةْ
ما كان الميكَبُّ بوجنتها أكثرَ مما يحتاجُ الأمرُ ليُشرقَ فِطْريُّ حلاوتها
والصمتُ على الشفتينِ أباحَ خَفِيّ الرغبةِ
تلك الرغبةُ والحرمانُ كانا سرا تحرسه نظراتٌ شاردةٌ.
كانت ضجرى حتى من هاتفها!
وبقيتُ أنا في الطرفِ الآخرِ من ذاتِ المقهى.. أرقبُ عبقا يتصاعد في الجوِّ
عبقا لا يدركه سوايَ
عن أنثىً شاردةٍ وتفيضُ أنوثة.
ما بالُ العبقِ يلاحقني الآنَ، وأنا أحضنُ أنثاي –الآنَ-
أنثى العمرِ الدائمِ
والسوتيان على الجانب منطرحا؟
يا العبقُ الآتي من أنثىً شاردةً في مقهى
لستُ الآن أناديكَ، ولا أدعوكَ
فأنا في عبقٍ آخر يغمرني حدَّ الدوخةِ
عبقُ العودةِ للُّقيا
عبقُ عناقٍ مشتعلٍ، مع أنثى حين أقبّل شفتيها
تَسكرُ روحي.. تتحدُ الروحانِ
ونغدو حقلا من زهرٍ شفافٍ
يتماوجُ طربا في الجنةْ.
فدعينا الآنَ –فتاةَ المقهى-
فحين يُفَكْفَكُ زرُ السوتيانِ لا أحدا أحتاجُ
سوى أنثاي/ الأفعى الرقطاء.
* * *
ولقد حَضَرتْ أنثى ثالثةٌ –حين بمص النهدِ هممتُ-
وجاءتْ رابعةٌ، ولسانانِ كانا قد سَكِرا وانتشيا
وجاءت خامسةٌ، وذراعانِ اعتصرا جسدا مِطواعا، قد ذاب كما الشوكولا
وعَبَرَتْ بالرأسِ فتاةٌ سادسةٌ، تتلوها سابعةٌ
فكل فتاةٍ –دوما- تأخذني نحو امرأةٍ أخرى!
لكني- أقسمُ بإلهٍ يشرقُ من روحكَ يا أنثايَ المحبوبةَ-
لا أنظرُ. لا أصغي. لا أتحققُ إلا وأنا  في كُنهُكِ.
معطوبٌ إلا في حضنكِ
لا قيمةَ لي إلا وفمي يهمسُ بالآهٍ والعرقُ المنعشُ يُنشِينا
أبوسُ الإبطَ –ما أشهاهُ- وما أشهى لثمَ الصدرِ، الأنفِ، الرُكبةِ، لعقَ أصابعَ قدميكِ
وأعودُ صعودا للإبطِ.. يا للفتنة!
هل أخبرتِك يا أنثى وَلَعِي، ونحن نُرَخِيّ ذاك السوتيانِ الشفّافِ، هل أخبرتُكِ يوما كيف أحبُّ الجسدَ الفواحَ، وما يزعجني عَرَقٌ أو عطرٌ، فالكلُّ بِعُرْفِ الحبِ سواءْ؟
هل أخبرتكِ أني أسعى.. أبحثُ أصلا عن هذا العَرَقِ الناضحَ في الأنثى
فهو العطرُ لروحي في خفقاتِ الرعد وجلجلة الأنواءْ
فخذيني الآنَ -يا قُبلةُ روحي-
فحين يُفَكْفَكُ زرُ السوتيانِ لا أحدا أحتاجُ
سوى أنثاي/ الأفعى الرقطاء.

15 September 2014

الدنيا نظر عين.. لوحة ثلاثية الأبعاد

(الدنيا نظرْ عين)

إلى لِيَا.. ناظرة بعينيها إلى نفسها تبتعدُ عن نفسها على شاطئ الحُلم المبدّد!*
وإليكِ.. لنهدينِ ما جَرَأتُ على اختلاس النظرِ إليهما، وما قَوِيتُ على سحب النظرِ عنهما!




هذا نهدٌ أعرفهُ.
لا يَعرِفني.
وهُنا توأمُهُ—نهدٌ ثانٍ
أيضا لا يألفُني.
لكني أعرفهُ. أألفٌهُ. ألمُسُهُ. أوْزِنُهُ. ألعقُه. بل إني –أحيانا- أعضُّ أنامِلَهُ. ألثمُ مُقلتَه.
هذا نهدٌ أعبُدهُ.

هذانِ النهدانِ هما عينانِ
أنظرُ بهما للدنيا
-والدنيا نظرٌ للعينِ-.
أنظر بهما فأرى سينما
هي ذي (وِينْسلتُ)** تقرأ كُتبا، بعينَيْ طفلٍ عاشقْ
تتعرى في حضرته، فيغدو الطفلُ إلهاً، وأنا أغدو عبدَاللهِ.
أغدو عبدا لإلهٍ لا يتمرأى إلا في صالةِ سينما.

هي ذي (أولمانُ)*** في (بِرسونا).. تأخذُ أحشائي للعُتمةِ.
لا أعشقُ إلا العُتمةَ، حيثُ الشهواتُ تَمُوجُ كَمَا حيّاتٍ تتناسلُ
ملساءَ.. زاهيةَ الألوانِ.. تفيضُ أنوثةْ.

هذانِ النهدانِ هما عينانِ
أنظرُ بهما فأرى لوحةْ.
ما أجملَ هذا الجسدَ العاري..
ما ألطف هذا الشيفونَ المسترخي
ما أجملَ هذي السُرّةَ والخِصبُ يلوذُ بها.

أنزلُ نظرةْ.. فأرى عشبا مبتلا بالأمطارِ.
بالأحضانِ أتوّجهُ.
هذا العشبُ سيزهو يوما في أحلامي.
يا أنفاسي دفّيها الآنَ.. دفّي الأفعى الملساءَ..
دفّيها الآنَ.. الآنَ الآنَ وليس غدا
فالباكرُ قد لا يأتي.

يا أنفاسي دفّي حسناء (الكورسيتِ)****، وخذيها للزمن الباقي
هذا (الكورسيتُ) مَهِيبٌ وأنا أربطُ أزرارَهْ.
مهيبٌ وأنا أفتحُ أزرارَهْ.
هذا الكورسيتُ –ونهداكِ يفيضانِ بنشوتهِ- هو كلُّ اللوحةِ في معرضِ عصرِ النهضة--إذْ لا أعرفُ عصرا آخرَ.
نهداكِ النهضةُ، فانهضْ يا ثعبانَ الروحِ المحرومَ. انهضْ يا غوريلا الغابةِ..

كمْ نادمْتُكَ –والعفّةُ قيدٌ-، وفؤادُكَ مكسوٌ بالكِلْسِ.
كم سِرْنا بنيذٍ تلوَ نبيذٍ، وأنتَ الراهبُ.
وأنتَ الرافضُ إلا أنثى (الكورسيتِ) المخبوءةِ في عَبَق الرغبةِ
فانهضْ يا غوريلا الرغبةِ واللهفةِ، مُنتصبا!

هذانِ النهدان هما الدنيا
-والدنيا ليستْ إلا نظرةُ عينٍ-
فاذهبْ بالبصرِ إلى النهرِ المشقوقِ
واعْبُرْ بين الضفةِ والأخرى. واسْبَحْ....
اسبَحْ
اسبحْ يا رعديدُ. اسبحْ أو فلتغرقَ يا ابنَ الـ...
لا تُهدِرْ عمرا آخرَ.
يا ابنَ الـ...
يا ابنَ الحرمانِ، التوهانِ، الكبتِ، الفَنتازيا
لا تُهدِر عمرا، لا عمرا آخرَ أحدٌ يضمنُهُ.
فانهضْ..
ارضعْ نهديها يا ابنَ الرب!
قبّل شفتيها يا ابن الإنسان!
فهذا نهدٌ تعرفُهُ، وهذا توأمُهُ—نهدٌ ثانْ.
هذانِ النهدانِ هما عينانْ
اُنظرْ بهما للدنيا
-والدنيا نظرٌ للعينِ-
انظرْ بهما، يا عبدَاللهِ
انظرْ لترى سينما. لوحةْ. عشبا مبتلا بالأمطارِ.
لا تُهدِرْ عمرا آخرَ.
وارضعْ نهديها حتى يشفى جُرحُ الرغبةِ
ويئنُّ الحزنُ الأبديُّ:
"هذا نهدٌ أعرفهُ. أألفُهُ. ألمُسُهُ. أوْزِنُهُ. ألعقُه. بل إني –أحيانا- أعضُّ أنامِلَهُ. ألثمُ مُقلتَه.
هذا نهدٌ أعبُدهُ.
هذا نهدٌ أعبدهُ.
فانهض يا غوريلا الرغبةِ واللهفةِ، منتصبا!
هذانٍ النهدان هما الدنيا.
والدنيا نظرةُ عينٍ.. لا أكثرْ!"


*إحالة إلى شخصية (لِيا) أو (إيزابيل) في الفيلم الفرنسي (صغيرة وجميلة) Jeune & jolie. إخراج: فرانسوا أوزون. إنتاج: 2013
**إحالة للممثلة كيت وينسلت في دور هانا شميتز في فيلم (القارئ)، حيثُ كانت أميّة وتطلب من صبي مراهق أنْ يقرأ لها. إخراج: ستيفان دالدري. إنتاج: 2008
***إحالة إلى الممثلة ليف أولمان بطلة فيلم (برسونا). إخراج: إنجمار برجمان. إنتاج: 1966
****الكورسيت corset أو (مشد الصدر). من أزياء القرون الوسطى الأوروبية وعصر النهضة. نسخة عصر النهضة كانت أكثر فتنة.