11 August 2014

أيها الرقيب.. من أعطاك الحق؟

كُتبت في 4 ديسمبر 2008. ونُشرت في مجلة الرؤيا، عدد ديسمبر 2008م.
كان ذلك قبل شيوع وسائل التواصل الاجتماعي محليا ببضع سنوات.

أيها الرقيب.. من أعطاك الحق؟

في عالم أصبح أقرب ما يكون إلى قرية صغيرة يَعرِف فيها المرء تفاصيل كثيرة عن بلاد عديدة كثيرة، لا تزال بعض البلدان المغردة خارج السرب تتمسك بالنوع التقليدي من الرقابة الذي يعمل على منع الكتب ومصادرة الأفلام وحجب مواقع الإنترنت. يعبّر هذا السلوك المنتمي للقرون الوسطى عن تجاهل تام للحقيقة الآنفة الذكر ألا وهي أن العالم قد أصبح قرية معرفية صغيرة، وأن مسألة المنع من المعرفة سلوك يتنافى مع الطبيعة الإنسانية القائمة على كون حب المعرفة غريزة أصيلة لدى الإنسان تكفلها له القوانين المدنية والاتفاقيات الدولية. ومع ذلك فإن الرقباء في بعض البلدان لا يزالون يرتعدون أمام الكتب ويرتبكون عند حضور الأفلام والمسرحيات ويحجبون مواقع الإنترنت بالآلاف ويلهثون لسد ثقوب النور التي تتسلل بعنفوان إلى معاقلهم المغبرّة المظلمة وتطرق أبواب عزلتهم التاريخية وتصدّع جدرانهم التي عشش عليها عنكبوت الخوف وفوبيا المعرفة.
لماذا يخافون من الكتب؟ لماذا يخافون من الأفلام؟ لماذا يخافون من الإنترنت؟ لماذا..؟ لأنهم أميون حضاريا، يخشون المعرفة ونور الحقيقة. يخافون من الكتب والأفلام والإنترنت لأنها تعلّم المرء ما لا يودون أن يعرفه: تعرّفه أنه إنسان له حقوق وعلى رأسها حق المعرفة. يخافون من الجديد لأنهم غارقون في القديم. يخشون الآتي لأنهم يعيشون في الماضي. يلعنون النور لأنهم لا يعرفون سوى الظلام. هؤلاء هم الرقباء وحرّاس النوايا. هؤلاء من منحوا أنفسهم حق الوصاية على خيارات الآخرين، وهو حق لم يقدمه أحد لهم لكنهم زعموه لأنفسهم كما يزعم الطاغية كاذبا أنه خير حامٍ لشعبهِ بينما هو أكبر آفة ابتلي بها ذلك الشعب، وعلينا أن نفكر في هتلر وستالين كنماذج للآفات الذين سيخلدهم التاريخ في صفحاته السوداء البغيضة مقرونة أسماؤهم دوما بالعار والخجل.
آن الأوان لرقابة المنع التقليدية أن تتلاشى، أو على أقل تقدير آن لقبضتها أن تتراخى كثيرا إذا كنا نريد أن ننتمي للعالم الحر المعاصر. ما الرقابة سوى مصادرة صريحة للفكر، وهو شأن يتعارض مع حقوق الإنسان ومع دساتير الأرض جميعها. حين يتأمل المرء ما يفعله الرقباء في دائرة رقابية في بلدٍ ما يجد أنه أمام عشرات من الموظفين غير المنتجين، بل إن وظيفتهم هي إعاقة الإنتاج والوقوف سدا منيعا في وجه الإبتكار. يستنزف هؤلاء عن غير وجه حق جزءا من ميزانية الدولة في مرتباتهم ليحجبوا نور المعرفة عن الآخرين! يحرم الرقباءُ الناسَ حقَ المعرفة ويؤخرون تطور المجتمعات ويفعلون ما بوسعهم ليظل مجتمعهم جاهلا معزولا ومسيّجا بصورة نمطية مثالية متخيلة تتوهم أنه مجتمع لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ليس الحديث هنا حكرا على مؤسسة رقابية في بلد بعينه، وإنما الحديث عام عن مبدأ الرقابة أينما كانت في أي مجتمع وأي زمان. إن الخطأ الجسيم الذي يرتكبه الرقباء هو تصورهم أن المجتمعات هشة لدرجة أن كتابا أو فيلما أو مجلة أو موقعا إلكترونيا على الإنترنت سوف يهدم هذا المجتمع، وأن دورهم النبيل المتوهم هو في حماية هذا المجتمع من السقوط. أي مجتمع هذا الذي يسقط لمجرد السماح ببيع فيلم في محلات الفيديو؟ أية أمة هذه التي تنهدم بسبب طباعة كتاب؟ إنه حتى لو كان هذا المجتمع من ورق فلا فيلم أو كتاب يستطيع إسقاطه. أما لو كان هناك مجتمع يمكن أن يتهاوى لمجرد تمرير كتاب أو عرض فيلم فهو مجتمع هش وسخيف وزائد عن حاجة الإنسانية، ومن الخير له أن يسقط لأن وجوده العدمي أسوأ من زواله.. على أية حال فإنه لا مجتمع بهذا الشكل لأن المجتمعات الإنسانية أقوى وأكثر تعقيدا وعمقا من أن تتشكل وفقا لهذا التصور الساذج لبنية المجتمعات كما يتصوره الرقباء.
إذا تركنا الحديث عن عموم فكرة الرقابة وبطلانها وتوجهنا على نحو أخص إلى بلادنا فسنجد أن كثيرا من مناشطنا الثقافية والفنية لا تتم إلا بإذن الرقيب. فالكتب لابد من مراقبتها قبل النشر وكذلك تتم مراقبة الكتب الواردة من الخارج قبل دخولها البلاد. الأفلام أيضا تتم مراقبتها وحذف أجزاء كبيرة منها بلا مبررات. على سبيل المثال فإن الرقابة تحذف القُبلة في فيلم ما لكنها تسمح بعرض فيلم آخر مليء بالعنف والدماء حتى لمن هم دون سن الثامنة عشرة. هل القبلة هي التي ستحطم المجتمع أما العنف فهو ما سيجعله نقيّا؟! لا يفهم المرء هذا التناقض، بل الجهل، في عملية المنع والإباحة.. ففي الدول الغربية هناك بعض القلق من الأفلام العنيفة خشية أن تؤثر ولو قليلا في تشجيع نفر من الناس على ممارسة سلوكيات عنيفة، أما في بلادنا فالرقيب الذي ليس له منطق محدد للتعامل: يمرر العنف ولا يرى فيه قلقا ويهاجم الرومانسية –التي هي غريزة بشرية- ويحجبها. لماذا أيها الرقيب؟
في بلادنا تمارس الشركة العمانية للإتصالات (عمانتل) أشنع أشكال مصادرة حق المواطن في المعرفة.. آلاف مؤلفة من المواقع يحجبها نظام حجب إلكتروني بليد لا يفرق بين الصالح والطالح –إن وجد- فيمنع كل شيء دفعة واحدة. أما داهية الدواهي وجريمة الجرائم فهي منع خدمة الاتصال الصوتي عبر الماسنجرات المختلفة حتى دونما إصدار بيان لإطلاع الجمهور على مبررات مثل هذا القرار المتغطرس. بالنسبة لعمانتل فقد سبق لي شخصيا أن تقدمت بمقترح كحل للذريعة الوحيدة التي يتحججون بها للرقابة ألا وهي حماية الأطفال من مواقع الإنترنت السيئة. الحل هو في ترك هذا العمل ليكون جزءا من مسؤولية الأسرة عن طريق توفير برنامج اختياري للحجب يركّب على الكمبيوترات المنزلية. بمعنى أن الإنترنت تكون مفتوحة تماما للجميع من موفّر الخدمة، لكن لدى ولي الأمر خيار إجراء رقابة ذاتية على حاسوبه الشخصي عبر البرامج المخصصة لذلك والتي يمكن للفرد أن يثبتها على حاسوبه وتقوم تلقائيا بمهمة مراقبة الإنترنت. هذا الخيار أرخص بكثير من تجنيد جيش من الرقباء ودفع آلاف الريالات لأجهزة رقابة مركزية تؤدي في النهاية إلى تبطئة التصفح وضعف خدمة الإنترنت المقدمة. لتكن الرقابة خيارا ذاتيا للمرء وليس مهمة من مهام الدولة، هذا هو المنطق الأقرب لعالمنا المعاصر حيث البشر يتمتعون بدرجة كافية من الوعي والمسؤولية لاختيار ما يلائمهم من تصرفات وسلوكيات وفقا لقناعاتهم ومتطلباتهم الشخصية.
الحل الذي قدمناه أعلاه لمشكلة الرقابة على الإنترنت ينطبق على الكتب والأفلام. أصبح من الضروري جدا تفعيل نظام "التصنيف السينمائي" للأفلام المعروضة بحيث تكون هناك أفلام متاحة للمشاهدة لكافة أفراد الأسرة، وأفلام أخرى لمن هم دون سن الـ 15 شريطة مرافقة الوالدين عند المشاهدة، وأفلام لسن الـ 18 أو 19 عاما تتاح مشاهدتها لجميع البالغين. في سن الـ 18 يمنح قانوننا المحلي رخصة قيادة للمواطن ويأتمنه على سياقة سيارة بما يعني أنه يأتمنه على أرواح المارّة وكافة مستخدمي الطريق، لماذا إذن لا يأتمن هذا القانون المرء على نفسه في حق مشاهدة فيلم سينمائي؟! إن هذا السؤال يشير إلى مسألة جوهرية تتعلق بمبدأ الرقابة بصفة عامة وهو افتراضها أن الشخص غير ناضج بما يكفي ليقرر لنفسه ما يشاء، وهذا يعني افتراضها أن المجتمع ككل غير ناضج وغير مؤهل ليعرف بنفسه الصالح من الطالح، وهذه مسألة خطيرة للغاية. إذا كان المجتمع، كما يتوهم الرقباء، غير ناضج ليدير شؤونه بنفسه، فمن يعطي هؤلاء الحفنة من البشر حق الوصاية عليه وأن يختاروا هم ما يرونه مناسبا لهذا المجتمع وأن يحجبوا عنه ما يتوهمونه ضارا؟ أليس هؤلاء الحفنة من الرقباء هم جزء من المجتمع؟ إذا كان المجتمع بكامله قاصرا وغير راشد في عقلية الرقيب، أفلا يكون الرقباء هم كذلك أيضا بوصفهم جزءا من هذا المجتمع، أم أنهم أشخاص خارقين للعادة وأعلى من المجتمع بأكمله؟ إن تصورا مثل هذا هو تصور فاشستي مقيت، وإذا كان واردا في أذهان البعض فإن الأوان قد آن ليعرفوا أنه زعْم عنصري متعالٍ. أما إذا كان الأمر خلاف ذلك فإن المرء يود أن يسمع تبرير الرقيب الذي جعله يرضى بأن يعتبر نفسه فوق الآخرين وصيّا على أفكارهم وشخصا أبويا يقرر لهم نيابة عنهم كما يقرر الأبوان ملابس طفلهما الرضيع الذي لا حول له ولا قوة ليختار ملابسه. هل نحن في عيون الرقباء شرذمة من القاصرين العاجزين الذين نحتاج إلى وصاية ليختار لنا الآخرون ما نقرأه وما نشاهده؟ إن كان الأمر كذلك فليبرهن الرقباء لماذا يظنون نفسهم أنهم هم الجديرون الوحيدون بحق السمو على عموم الناس والتفكير لهم بدلا عنهم وصنع القرارات لهم؟ لماذا هم دون سواهم؟ إن هذا السؤال يعود بنا مجددا إلى فلسفة الرقابة في أي مكان وزمان فيه رقباء. إذا كنت أنت من سيراقبني، فمن ذا الذي سيراقبك يا أيها الرقيب؟ كم جدارا من الرقابة نحتاج لكي يدخل كتاب واحد يخبرنا أن الهواء النقي والنور هما في مكان آخر؟

No comments:

Post a Comment

Note: Only a member of this blog may post a comment.