27 August 2014

ضرب الأطفال.. طريقهم إلى الشقاء

نُشرت بالأصل في جريدة الرؤية حديثة الصدور آنذاك. كُتبت في 9 يناير 2010، ونُشرت حول ذلك الوقت في  الرؤية.

ضرب الأطفال.. طريقهم إلى السعادة!

أكثر ما أثار استهجاني الأسبوع الماضي خبر وصورة قرأتهما بإحدى صحفنا المحلية (وأتوقع أن الخبر كان منشورا في بقية الصحف التي ترسخت صورة نمطية عنها لدى القراء بأنها نسخ كربونية من بعضها). حمل الخبر عنوانا استفزازيا هو "العقاب البدني للأطفال يجعلهم أكثر سعادة"، وفوق هذا العنوان ارتفعت صورة مؤذية تصور رجلا ينهال بالضرب على طفل صغير، أما الطفل المرعوب الخائف فيخبئ رأسه تحت ساعده الأيمن اتقاءً للضرب. أما مصدر الخبر فهو (واشنطن- العمانية)، أي أنه خبر آت من واشنطن وبثته لصحافتنا المحلية وكالة الأنباء العمانية!

لا أعرف شخصيا إن كان هناك في الوجود دلالة أكثر على تدني قيمة الإنسان في بلادنا العربية من أن "تبرز" إحدى الصحف خبرا ملغوما كهذا في صفحتها الأخيرة، حيث تعد الصفحة الأخيرة بأهمية الصفحة الأولى لأية جريدة إن لم تتعداها في الأهمية. وقد تم تعزيز الخبر المذكور بصورة ملونة -لرجل بالغ يضرب طفلا- لو تم نشرها في إحدى بلدان أوروبا لاقتيدت الصحيفة ومن يمثلها إلى محاكمة يستحقونها بجدارة، ولتوقف نصف القراء على الأقل –مدفوعين بواجبهم الأخلاقي- عن قراءة هكذا صحيفة لا ترى في العنف ضد الأطفال أية غضاضة.

منبع تحفظاتي على الخبر هو أنه ببساطة يحاول أن يبرهن أن ضرب الأطفال "ضربا خفيفا" –كما يدعي- يجعلهم أكثر سعادة، وهذا بيان خطير للغاية. وإذا كنا نهتم بسعادة أطفالنا فإن الخبر ينصحنا بشكل مباشر أن نضربهم. وقد يقول قائل أن الخبر تحدث فقط عن الضرب "الخفيف"، والجواب هو: ابحث لي عن أب واحد في العالم في حالة غضب ضد طفله ثم نراه يذهب إليه ليضربه ضربة خفيفة غير مؤذية، فإن وجدت إنسانا بهذه المواصفات السيكولوجية من القدرة على التحكم في الأعصاب عند الغضب وتوجيه ضربة غير مبرحة فإنه حينها تكون لا غضاضة في الخبر، وسنتجه جميعنا فور قراءتنا للخبر لشراء العصي والكرابيج لنضرب بها أطفالنا "ضربا خفيفا" لنجعلهم أكثر سعادة وفقا لهذه الوصفة الجديدة التي أعلنت عنها وكالة الأنباء العمانية بعد أن نفدت كافة أخبار العالم الأخرى التي يمكن تغطيتها وبثها!

إن فكرة "الضرب الخفيف" فكرة نظرية بلهاء، وفكرة السعادة التي تعقب إهانة كرامة المرء هي فكرة أكثر بلاهة. بلاهة الفكرة تكمن في مخالفتها لطبيعة الإنسان الغاضب. فمن تصل به الأمور إلى مستوى ضرب ابنه لابد أن يكون قد بلغ مبلغا من الغضب لا يمكن معه أن يوقفه شيء، وسيكون الأمر مجرد نكتة متخيلة أن يتجه إنسان غاضب لصفع طفل ثم يقرر في الثانية الأخيرة أن "يطبطب" خد الطفل بدلا من أن يصفعه! إنّ ما بين فورة الغضب وتنفيذ الفعل/ الضرب جزء من الثانية فحسب. فمن أين تأتي هكذا تصورات لا علاقة لها بطبيعة الإنسان وردات فعله عند الغضب؟!

الأمر الآخر الذي يجعل من نشر خبر كهذا أشد ضررا هو أن نشره يتم في مجتمع عربي معروف عنه –ككل الوطن العربي- قسوته التقليدية في التعامل مع الأطفال. ولا زال حتى الجيل الشاب من الآباء يعتمدون الضرب اليومي أسلوبا للتعامل مع الطفل. هؤلاء ليسوا بحاجة أن يقوم الإعلام بتشجيعهم وحثهم على الاستمرار في ضرب أطفالهم ولينزع عنهم أي إحساس بالندم –إن كان موجودا- عندما يضربون أطفالهم، لكنهم بحاجة إلى العكس تماما. هم بحاجة إلى إعلام يوعيهم بمساوئ ضرب الأطفال وضرره النفسي والبدني الكبير في تشكيل شخصية الطفل. إن الحاجة هي لخلق ثقافة مغايرة تَعتبِر الطفل كائنا جديرا بالاحترام وتجرّم الضرب كما تجرم نشر الصور والمواد الفيلمية التي تحتوي لقطات تصور أطفالا يتعرضون للأذى (إلا لأغراض الدراسة العلمية في المؤسسات الرصينة المختصة برعاية هؤلاء الأطفال)، أما نشر صورة استفزازية بشعة لأب يضرب طفلا فإن ذلك ليس فقط انحرافا عن المبادئ السمحة لحفظ كرامة الإنسان، ولكنه استفزاز غير أخلاقي للقارئ وجرح لمشاعره وإلحاق للأذى النفسي به، وهي عناصر –كما أسلفتُ سابقا- لا يمكن السكوت عليها في عالم متحضر.

لا تأويل لدي لبث صحفنا العربية خبرا من هذا القبيل إلا أننا لازلنا بالفعل نحتاج إلى سنوات لنرى تأثيرا ملموسا لمؤسسات المجتمع المدني المعنية بحقوق الإنسان في جهودها لرفع وعي الناس إزاء حقوقهم الأصلية، ومن هذه الحقوق حق الحصول على معلومة إعلامية نزيهة غير مضللة أو ضارة بالمجتمع. ذلك أننا كمجتمعات عربية قد رضخنا عقودا لنرى الإعلام العربي يلعب لعبة الحجب لمعلوماتٍ والتضخيم والنفخ لمعلوماتٍ أخرى، وإذا كان الناس قد انصاعوا لذلك لبعض الوقت ورضخوا لإعلام غير معبر عن قضاياهم اليومية الحقيقية، فإنه على الأقل على هذا الإعلام غير المواكب للشارع وغير المعبر عن الرأي العام أن يتوقف –على الأقل، وذلك أضعف الإيمان- عن بث الأخبار الرديئة والضارة بالناس والتي تعزز سلوكياتهم السلبية القائمة، بل وتتخطى ذلك إلى جرح مشاعرهم وإيذائهم حتى في حبهم الفطري لفلذات أكبادهم. فليدعنا الإعلام نربي أطفالنا على طريقتنا بعيدا عن نصائحه الذهبية وصوره المستفزة لإنسانيتنا.

No comments:

Post a Comment

Note: Only a member of this blog may post a comment.