04 August 2014

فيلم: حتى نهاية العالم لـ فيم فيندرز

قراءة في فيلم "حتى نهاية العالم" لـ فيم فيندرز
مرض الصورة الذي يحَوّل الزمن إلى ليل دائم!

تأليف: توني براين
ترجمها بتصرف: عبدالله خميس


يتشابه المناخ العام لفيلم "حتى نهاية العالم" للمخرج الألماني فيم فيندرز Wim Winders، والذي أنتج عام 1991، مع الكثير من الأعمال الأخرى لفيندرز.. إنه فيلم عن الرؤيا، الرغبة، والحركة... وهو ثالوث متجذر في الكثير من أفلام فيندرز.

يتسق هذا الفيلم أيضاً مع ميل فيم فيندرز لتصوير شخصيات تتعامل مع بعضها بشكل غير مباشر.. فالتواصل بين شخصيات أفلامه، لا سيما في هذا الفيلم، يتم عبر تبادل الصور، الرسائل الهاتفية، الملاحظات على قصاصات ورقية، وعبر وسائط تقنية أخرى.



يختزل فيلم "حتى نهاية العالم "، القلق السردي والبصري الذي يعتري العالم السينمائي لـ فيم فيندرز، لكن فيندرز يصل هذه المرة إلى محطة جديدة .. فهذا الفيلم يمنح امتيازاً للسرد على الصورة البصرية، بل إنه يقترح أن القصص هي الوحيدة التي يمكن أن تمنح الشفاء لما يُسمى بـ "مرض الصورة".. مرض الصورة في فهم فيم فيندرز، هو التخريب الذي أحدثته ما بعد الحداثة في روح إنسان اليوم
  
 إن صورة عالم المستقبل كما يعكسها فيلم "حتى نهاية العالم"، تدفع إلى تصنيف الفيلم بوصفه فيلم خيال علمي، فالفيلم يتضمن حضوراً قوياً لحاسبات آلية متقدمة جداً. إن التكنولوجيا في عالم هذا الفيلم يتم توظيفها بصورة أساسية لإنتاج عالم وهمي مليء بالأحلام الوردية .. كما يتم توظيف التقنية في هذا الفيلم لصالح الحفاظ على العلاقات الآدمية بين البشر أحياناً، وأحياناً أخرى لصالح تخريب هذه العلاقات وتحويل مجراها. 

يعالج الفيلم إذن الإمكانيات المتناقضة للتقنية: الفائدة والضرر.. كما يعالج العلاقات الإنسانية وارتباطها بالوسيط التكنولوجي. وأهم من كل ذلك فإن هذا الفيلم يلعب على فكرة أن العالم الرومانسي للبشر يمكن أن يدوم للأبد، وأنه قابل لأن يتحمل الاختبارات التي تجريها التكنولوجيا عليه، وهذا ما يرمز إليه عنوان الفيلم من أن العواطف يمكن أن تدوم "حتى نهاية العالم" .
* * *

يبدأ فيلم "حتى نهاية العالم" بصوت سارد يقرأ علينا ما يلي:
"في سنة 1999 خرج قمر صناعي نووي هندي عن نطاق السيطرة.. لم يكن أحد يعرف أين يمكن لهذا القمر أن يسقط . لكن العالم بأجمعه كان في حالة استنفار قصوى".
المشهد التالي يعرفنا على الشخصيتين الرئيسيتين للفيلم، كلير   Claire و سام Sam، اللذين يلتقيان للمرة الأولى في مكان حضري مُخرّب وهما يستخدمان تقنية الفيديو بواسطة الهاتف المحمول.. سام يشتكي من حساسية وتهيج بعينيه، تتقدم نحوه كلير لتفحص عينيه بطريقة حالمة كما لو أنها تفحص عين عاشق.

منذ البداية إذن ترتبط مصائر الشخصيات بالتكنولوجيا، كما ترتبط بالخراب، وتكون الرومانسية المبالغ فيها كمعادل موضوعي للخراب المادي الذي يعيش فيه الإنسان في زمن ما بعد الحداثة.. إن الرؤيا، البصيرة، التكنولوجيا، والرومانسية، هي المحيط الذي سيحكم علاقة هذين الشخصين من أول لقاء لهما وحتى نهاية الفيلم.

بعد ذلك، تتعقب كلير تنقلات سام أثناء سفره في بلدان أوروبية متعددة .. إنها تستخدم أحدث الكمبيوترات لتراقب بطاقته الإئتمانية بهدف معرفة أين يذهب وماذا يفعل، والغرض هو التعرف أكثر على هذا الشخص الجديد.. في الحقيقة فإن التواصل بين كلير وسام في الثلث الأول من الفيلم لم يكن ممكناً أن يتحقق بدون وجود وسيط الحواسيب الذكية المتقدمة.

تتوثق علاقة كلير بسام حين تقدم له كاميرا متطورة لا تقوم فقط بالتقاط الصور، وإنما بالتقاط الأمواج الصادرة عن دماغ الإنسان ورسمها على هيئة صورة. إن هذه الكاميرا مهمة جداً لسام ليقدمها لأمه العمياء بهدف أن تصبح قادرة على الرؤية من جديد، ولكن بأسلوب جديد للرؤية.

مع قدرة هذه الكاميرا على تجسيد تخيلات البشر على هيئة صور مرئية، تتهدد حياة الناس. أول ما يهددهم هو إدمان الصورة، وثاني التهديدات يأتي من إلغاء الخصوصية، فعبر هذه التقنية تنتشر مشاكل اجتماعية عديدة بين الزوج وزوجته والأب وأسرته، ويصبح تهديد التكنولوجيا أقوى من تهديد الخطر النووي الذي ابتدأ به الفيلم.

وبغض النظر عن تأكد كلير من خيانات سام المتعددة لها، فإنها تساعده حين يقع في مأزق.. ما يقع فيه سام هو أكثر من مجرد مأزق، هو مشهد مطاردة ضخم متتابع توزعت مشاهده التفصيلية بين عدة مدن أوروبية، حيث سام قد امتلك كاميرا متطورة يطوف بها العالم لاختزال اللقطات ليغذي بها بصيرته، لكنه لكثرة ما جمع من لقطات يصاب بضعف في البصر، في الوقت الذي يطارده فيه عميل سري ساعياً لسرقة الكاميرا منه.

بخلطة من الأعشاب الطبيعية تنقذ كلير بصر سام من التدهور الحاد الذي كان قد وصل إليه.. بعد ذلك يهرب العاشقان إلى استراليا عند والدي سام اللذين يعيشان في محمية يقطنها سكان استراليا الأصليين، ليتفرغا لمواجهة الخطر النووي الزاحف.. هناك تحدث تفاصيل معقدة وتشابكات في العلاقات الآدمية.. كل ذلك في ظل خطر نووي محدق.

بعد زوال الخطر النووي تنجح والدة سام في رؤيا العالم من جديد بعين الخيال، وذلك وفقاً للصور التي التقطها لها سام في أوروبا وساعدته كلير في إنقاذها .. لكن نجاح والدة سام في الرؤية لا يسبب لها إلا الوفاة كمداً على ما آل إليه العالم  من خراب، فصورة العالم التي كانت والدة سام تحتفظ بها في ذهنها وهي عمياء أجمل من الصورة التي رأت عليها العالم حين استعادت بصرها.

بوفاة الأم، يتحول كل من سام، كلير، ووالد سام إلى مدمنين لأحلامهم، ويصبحون شخصيات انعزالية. لكن حين يزول إدمانهم يكتشفون أن العلاقات الآدمية قد تصدعت فيما بينهم.. اللقطة الأخيرة في الفيلم تظهر فيها كلير داخل قمر صناعي يعمل لصالح جماعة "السلام الآن"، نائية بنفسها عن كل أشكال التواصل مع البشر إلا عبر القمر الصناعي!
* * *

يُجذّر فيلم "حتى نهاية العالم" نفسَه في ثقافة ما بعد الحداثة، حيث الشخصيات الرئيسية تتجاهل الأخطار التي يحدق بها العالم منشغلين عوضا عن ذلك بمطاردة أهداف شخصية تخصهم وحدهم. البشر بمعزل عن بعضهم البعض، وهم مسيّجون دوما بوسائل التكنولوجيا المتقدمة. التنوع الإنساني في الثقافات يكاد يكون قد تلاشى في عالم ما بعد الحداثة، وفي المقابل يسود خوف مرضي يغلف علاقة كل فرد بالآخر. إن "مرض الصورة" الذي مر به سام وكلير يحيل إلى قوة وخطورة تأثير الصورة في المجتمعات الغربية كما تعكسها وسائل الإعلام المعاصرة. إن الفيلم يقترح أنّ من يصيبه مس الصورة، لا علاج له إلا العلاج الروحي.

لكن "حتى نهاية العالم" قد عكس أيضا بعض الجوانب الإيجابية عن النفس الإنسانية. فالبشر رغم توجسهم من بعضهم لا يزال بإمكانهم اللقاء في فرح مشترك، وهو ما يحدث في استراليا حين يأتي الناس من كل حدب وصوب للاحتفال بزوال الخطر النووي وسطوع فجر قرن جديد.

أما المشاهد الحلمية التي تعكس ما تراه الشخصيات في أحلام اليقظة، حين يستخدمون الكاميرا الخاصة بالتقاط موجات الدماغ، فهي تعد من أفضل المشاهد بصريا في الفيلم، ومن أجملها على صعيد امتلائها بلحظات إنسانية عميقة كالطفولة والخسران والفراق.. على أن هذه الصور رغم جمالها قد شكلت خطورة نفسية على جوانيات الشخصيات، فقد تحول الحالمون بها إلى سائرين نياما، وتحول الزمن عندهم إلى ليل دائم.

منذ بداية الفيلم تبدو كلير أكبر المرشحين للإصابة بـ "مرض الصورة"، فهي بمثابة الشخصية المحورية في الفيلم التي تنتظم حولها الأحداث.. في معظم مشاهد الفيلم تظهر كلير وبيدها كاميرا تصوير صغيرة بحجم كف اليد، هذه الكاميرا هي عين كلير وعقليتها اللتان ترى بهما العالم من حولها. إن كلير ببساطة هي المرشحة المثالية لمرض الصورة، لأن الكمبيوتر يراها "متوافقة تقنيا" مع هذا الغرض.
طوال أحداث الفيلم كانت هناك شخصية الكاتب جينGene، الذي ظل طوال الوقت يصارع لتأليف اسطر في كتابه المسمى بـ "رقصة حول العالم". حين يسمع جين بقصة سقوط كلير ضحية لمرض الصورة، ينجح أخيرا في تأليف كتابه.. يقرأ الكتاب على كلير وهو ما يسبب تعافيها من مرض الصورة.

إن الشفاء يأتي من القوة العلاجية التي تنطوي عليها الكلمات. فإذا كانت الصور المرئية تسبب المرض، فإن الكلمات المكتوبة تحمل معها الشفاء. هذا جزء مما أراد فيم فيندرز قوله في الفيلم. فالعلاج بالكلمات كما صوّره الفيلم، يتناسب تماما مع التوجه الفكري الجديد لفيم فيندرز.. هو بمثابة شهادة ذاتية يقدمها فيندرز عن معتقده الذي اعتنقه في السنوات الأخيرة فيما يتعلق بالقوة العلاجية للكلمات والحكايات.

إن من الأسئلة التي يثيرها الفيلم سؤال السينما في عالم اليوم، أو ربما عالم الغد.. إن السينما هي الأخرى صورة، فهل يمكن أن تسبب للمشاهد مرض الصورة؟ وهل على مخرجي الأفلام أن يتحولوا إلى كتاب وشعراء؟
لعل الإجابة، إلى الآن على الأقل، هي "لا".. ففيندرز نفسه وهو المؤمن بالقوة العلاجية للكلمات، حين عالج هذا الموضوع عالجه على هيئة فيلم سينمائي ولم يؤلف كتابا بخصوصه. عالجه عن طريق الصورة، لا عن طريق الكلمات وحدها.

No comments:

Post a Comment

Note: Only a member of this blog may post a comment.