10 June 2018

في وداع الخطاط الراحل عزت عبدالحميد


وداعا عزت عبدالحميد




بلغني بالأمس نبأ وفاة الصديق وزميل العمل عزت عبدالحميد، الذي عاش في السلطنة حوالي 35 عاما، وقد عمل لثلاثة عقود بوزارة التربية والتعليم بوظيفة خطاط. توفي الراحل في جمهورية مصر العربية، وكان قد أحيل للتقاعد من وزارة التربية والتعليم قبل سنوات بسيطة، لكنه أكمل العمل مع الوزارة بعقد سنوي تم تجديده مرتين وربما ثلاثا قبل أن يغادر لمصر قبل سنوات قليلة فقط. الرحمة لذكرى إنسان عزيز قضى أكثر من نصف حياته في بلادنا وأحبها وأنتج فيها، وفيها تعيش عائلته لغاية اليوم، والتعازي لجميع أفراد عائلته—صبّرهم الله على فقده.

كانت وظيفة خطاط مهمة جدا في العقود الماضية وذلك قبل أن تحتل الكمبيوترات مهمة تصميم الخطوط. كتب الراحل عزت عبدالحميد عناوين كافة أغلفة الكتب الدراسية التي أصدرتها وزارة التربية والتعليم في الثمانينيات وجزء من التسعينيات من القرن الماضي، وظهر خطه وتوقيعه (عزت) على منشورات أخرى للوزارة. كما تعاونت معه العديد من المطابع في تصميم أغلفة كتبها. إضافة لذلك فقد خطّ الراحل اللوحات الرئيسية الكبيرة الموجودة على كافة أروقة المبنى القديم لوزارة التربية والتعليم. فضلا عن ذلك فقد تعاون عزت عبدالحميد مع تليفزيون سلطنة عمان لأكثر من 15 سنة في كتابة الخطوط لأسماء الممثلين وطاقم العمل في مختلف البرامج التي قدمها التليفزيون في الثمانينيات والنصف الأول من التسعينيات (عندما كانت تترات البرامج تُكتب بخط اليد)، نجد ذلك في برامج المنوعات والأغاني الوطنية والعاطفية والمسلسلات والفوازير وغيرها. إنها لمفارقة أن الليلة التي سبقت وصول نبأ وفاة المرحوم كنتُ أتابع فيها في يوتيوب ولفترة تزيد عن 90 دقيقة عددا من الأغاني الوطنية العمانية القديمة التي صورها وبثها تليفزيون السلطنة في الثمانينيات، وكان اسم عزت وتوقيعه موجودا تقريبا في كل واحدة منها. كنت أقول في نفسي، لم أر عزت منذ ثلاث سنوات؟ كيف هو الآن؟ هل غادر السلطنة مؤخرا بعد أن تقاعد من وزارة التربية منذ بضع سنوات؟

كان عزت عبدالحميد إنسانا بشوشا مرحا. يدخل مكاتبنا فيملأها بهجة. في السنوات التي عملنا فيها معا كانت مهمة الخطاط قد تغيرت عند دخول الكمبيوتر في هذا المجال. وقد تغيرت طبيعة عمل عزت وفقا لذلك. صار دوره الرئيسي هو الإشراف الفني على مطبوعات وزارة التربية والتعليم وإصداراتها الإعلامية -وليس الكتب الدراسية- ومتابعة ذلك مع المطابع. مجلة مثل (رسالة التربية) التي ما زالت تصدرها وزارة التربية والتعليم لم يكن لها أن تظهر للوجود لولا جهود الراحل في إصدار أعدادها الأولى. وقد ارتبط الراحل بصداقات مع الكثير من المسؤولين في وزارة التربية وخارجها، ممن كانوا موظفين عاديين وقت بدء عمل الراحل في السلطنة وتقلدوا بعدها مناصب عليا في الدولة، وقد جمعته على نحو جيد علاقة عمل وطيدة وزمالة جيدة بكل من معالي الدكتور يحيى بن محفوظ المنذري (الوزير السابق للتربية والتعليم وشؤون الشباب) ومعالي السيد سعود بن إبراهيم البوسعيدي (الوزير السابق لوزارة التربية والتعليم)، وأنا أثق أن من عملوا مع عزت عبدالحميد سيذكرونه دائما بكل خير.

من ضمن الأشياء الطريفة التي تعلمتها من الراحل جملة حفظتها ولكني للأسف نادرا ما طبقتها، وهي أنه "فيه حاجات ما تجيش إلا بالخِناق"، أي لا تصمت عندما يكون الحق إلى جانبك. بل فليعلُ صوتك حتى لا يأكل حقك أحد. لكن هذه الجملة بالذات لم تنفع الراحل بشأن الحصول على الجنسية العمانية.

المؤسف بشأن الراحل هو أنه رغم أنه عاش في بلادنا أكثر من 3 عقود من الزمن، إلا أنه حتى وفاته لم يحصل على الجنسية العمانية التي كان يرغب فيها، والتي أرى أنها من حق إنسان عاش في هذا البلد وأحبها واحترم قوانينها وأعطاها ما يستطيع من جهد وعرق. يَشترِط قانون الجنسية على (العامل الوافد) أن يكمل 20 سنة عمل في بلادنا قبل أن يتقدم بطلب الحصول على الجنسية، مقرونا بإجادة اللغة العربية تحدثا وكتابة، وشريطة ألا يكون قد غادر البلد أكثر من 60 يوما متصلة أو منفصلة في سنة من تلك السنوات. وهنا هو الأمر الذي أفسد على الراحل حصوله على الجنسية، فجاءه التقاعد على المعاش من وزارة التربية والتعليم لبلوغه سن الستين قبل أن ينال مراده. كان عزت عبدالحميد يحصل على إجازة سنويا تبلغ 60 يوما بالضبط في السنة يغادر فيها إلى مصر. لم يكن يريد أن يتخطى شرط الحصول على الجنسية.  وفي إحدى السنوات وقد كان الراحل قد أقام أكثر من 15 سنة في البلد أراد الذهاب للعمرة مدة أسبوع واحد، وذهب للتأكد هل يتعارض ذلك مع شرط عدم السفر لأكثر من 60 يوما لسنة واحدة، فتم إخباره بأن الحج والعمرة هما استثناء، فذهب للعمرة مطمئنا، وكانت تلك أول مرة يغيب فيها خارج السلطنة أكثر من 60 يوما (متصلة أو منفصلة) في عام واحد. بعد إكماله 20 سنة في البلد ذهب لوزارة الداخلية ليقدم طلب الحصول على الجنسية العمانية، وعند مراجعة أوراقه تبين أنه قد غادر البلد قبل حوالي 5 سنوات لمدة تزيد بأسبوع عن الستين يوما المفروضة. كان ذلك هو الأسبوع الذي ذهب فيه لأداء العمرة. هنا أخبروه أنه خالف القوانين وأنه عليه أن يبدأ بِعَدّ 20 سنة أخرى بداية من السنة التي تلت ذهابه للعمرة. يعني أن الـ 15 سنة الأولى قبل الذهاب للعمرة غير محسوبة وقد ضاعت سدى! ماذا كانت النتيجة؟ النتيجة أن الرجل الذي قضى أكثر من 30 سنة من حياته في بلادنا قد وصل للتقاعد وغادر البلاد دون جنسية عمانية، فيما لا يزال أولاده الذين ولدوا في السلطنة يعيشون هنا ويعملون في مؤسسات خاصة تحت كفالة مواطن، وبعضهم قد تجاوز هو الآخر سن الثلاثين. فهل سيتكرر معهم قدر أبيهم بسبب صرامة القانون وعبثيته؟

إذا كان هناك درس مستفاد من رحيل الزميل عزت عبدالحميد عن بلادنا فهو الدعوة لمراجعة قانون التجنيس لغير العمانيين، بالأخص العرب، ومراعاة الظروف الإنسانية. إن 20 سنة هي فترة طويلة للغاية حتى يحصل فيها المرء على الجنسية. بل إن الأمر ليس كذلك، فمقدم طلب الجنسية لن يحصل عليها تلقائيا لأنه أتم العشرين عاما، بل هناك فترة انتظار بعد تقديم الطلب تمتد في المتوسط بين 10 إلى 15 سنة! متى يحصل الإنسان على الجنسية العمانية، هل بعد وفاته؟ والأمر ينطبق على زوجات المواطنين، إذ جرى مؤخرا تعديل صعّب شروط حصول زوجة المواطن على الجنسية العمانية، وصار عليها إكمال 10 سنوات زواج لا تغادر فيها البلد في أية سنة من السنوات أكثر من 60 يوما متصلة أو منفصلة. فماذا كان يضر لو أبقوا على القانون القديم الذي كان يتيح لزوجة المواطن التقدم بطلب الجنسية بعد 5 سنوات من الزواج؟

يبدو أنك كنت محقا عزيزي عزت في قولك "فيه حاجات ما تجيش إلا بالخِناق"، ولكن لماذا لا يكتفون بالمنطق بدلا عن الخناق؟


*كُتبت في 10/6/2018


18 March 2018

عن الهيبّي الموؤود بداخلي


شتاء الأحلام*


ثمة أشياء كثيرة تُروى باعتبارها ممارسات شائعة، ولأن بعضها لم أتعرض له في طفولتي فإنني بالكاد أستطيع تصديق أنها موجودة. مثالا لا حصرا، فإن قيام الجدات بحكي قصص للأحفاد أمر هو بمثابة ممارسة عامة شائعة في كثير من بلاد العالم، بل وحسب علمي (الحديث نسبيا) فإن الجدات العمانيات فعلن ويفعلن نفس الشيء. ولأنني شخصيا لم أسمع أية حكاية من جدتي، فهي لم تروِ شيئا لي أو لأي من إخوتي وأخواتي، فإنني بالكاد أصدق أن الجدات العمانيات يحكين حقا حكايا للصغار! ولأن جدتي لا تبدو مختلفة عن أية جدة أخرى، وعليه فإنه إذا كان صحيحا أن الجدات يروين قصصا للأحفاد فإنها لابد أن تكون قد روتْ شيئا. لكنها لم تفعل، وهذا يجعلني عاطفيا متقبلا أكثر لفكرة أن الجدات العمانيات لا يحكين قصصا للصغار، وحدهن فقط الجدات في الرسوم المتحركة من يفعل ذلك! هذا ما تقوله عاطفتي، رغم أني أدرك عقليا أن الأمر مختلف عن ذلك للبعض. إنه لصحيحٌ أنّ ما نتعلمه في طفولتنا ليس من السهل أن تغيره فينا المعرفة العقلية عندما نكبر. نعم، هذا صحيح!

نموذج آخر للأشياء التي تروى كممارسات شائعة: أن كل طفل لديه حلم يرغب في تحقيقه عندما يكبر. شخصيا، لا أتذكر أنني حلمتُ بأن أصبح شيئا، لا طبيبا ولا شرطيا ولا أي شيء آخر، وأتساءل حقا إذا ما كان الأطفال لديهم صدقا أحلام من هذا القبيل، أم هُمُ الكبارُ وحدهم يجبرونهم على إدعاء الحلم حين يحاصرونهم بالأسئلة الملحة عما يودون أن يكونوا عليه عندما يكبرون. الأمر الغريب أنني ربما إلى الآن لا أحلم بأن أكون شيئا معينا، على الأقل، لا أريد أن أكون "وظيفة". لا أرغب في أي شيء من ذاك. ربما يراودني خلسة حلم بأن أرى نفسي مخرجا سينمائيا، لكنه شيء أشبه بطيف هائم لا أكثر. الطريف في الأمر، أنني لم أخلُ تماما من حُلمِ أن أكون شيئا. ففي مراهقتي، وليس طفولتي، حين كنتُ أعيش في قريتي الصغيرة، ثمة صورة أسرتني وحلمتُ بها. أن أكون بوهيميا متسكعا، أو بألفاظ أعرفها اليوم وما كنتُ قد سمعت بها آنذاك، هي أن أعيش حياة الهيبيين (بتصور خاص بهذه الحياة جاء من عندياتي). كنت أرى نفسي ببنطال جينز أزرق ممزق ورث، وشعر أشعث، وأنا أعيش منطرحا تحت الجسور في مدينة كبيرة. لا مسؤوليات لديّ، ولا علاقة لي بأية ضوابط وتقاليد وأعراف!

كان ذلك في النصف الثاني من ثمانينيّات القرن الماضي، ولا شك أن تلك الصورة المستقبلية المتخيلة لنفسي قد استقيتها من نوعية الأفلام السينمائية التي كانت تعرض في التليفزيون المحلي، لكن ذلك لوحده لا يبرر لماذا تمثلتُ نفسي في صورة الهيبيّ أو البوهيميّ، فالمرء يشاهد أشياء كثيرة على الشاشة ويتأثر بالقليل منها، والتأثر بصورة البوهيمي لِمراهقٍ في قرية بسيطة هو –في ظني- حدث غير مألوف. إذ كيف كنتُ أحلم أن أرى نفسي تاركا الدنيا لشأنها وأعيش زاهدا تحت جسور السيارات ببنطال جينز رث، كيف يحدث ذلك ولم أكن أرى أحدا يرتدي الجينز في قريتي سوى المدرسين العرب بمدرستي؟! على أية حال فهذا السؤال لا يشغلني كثيرا، بل لعل ما يشغلني/يروقني أكثر منه أن هذه "اللوحة" التي كنتُ أرى فيها نفسي لم تمتحِ تماما بعد، بل لازالت موجودة بصورة من الصور، هي صورة الحنين إلى زمن لم أعشه. ثمة حنين خاص يأخذني إلى الستينيات والسبعينيات، حين كان الهيبيون ظاهرة حقيقية، والبوهيمية طاقة تحرك الأفراد لنبذ قيود الحياة الصارمة والسعي لحرية أكبر حتى لو كانت مفاتيحها المخدرات والمشاعية الجنسية. حين أقول أني أتمتع بحنين لزمن الهيبيين، فهو نوع من الحنين المتخيل، أو ربما التوق، إلى تجربة لم أعشها شخصيا، فأنا أصغر عمرا من أن أكون قد عشت في زمن أُدركتُ فيه عقليا أنه كان زمن الهيبيين، وقد كنتُ أبعد جغرافيّا عن مدن العالم الكبيرة العاجة بالثوار على الأعراف القديمة إبان ذروة حركة نصرة المرأة وصعود المثليين الجنسيين ومظاهرات الطلاب حول العالم وأغاني البيتلز وجون لينون. كان ذلك يحدث في مكان آخر، وكنت أصغر من أن أدركه. إلا أن سحر هذه الأيام الخوالي لا يزال يعيد إليّ الحلم الوحيد –إن جاز التعبير- أو الصورة الوحيدة التي رأيتُ أو حلمتُ فيها بمستقبلي عندما كنتُ مراهقا: صورة الشاب الحر المنفلت من قيود المجتمع والذي يعيش حياته بهيئةٍ رافضةٍ لما هو مفروض عليه من قيود في الملبس والعادات وغيرها. شاب بقميص جينز رث وممزق يهيم تحت الجسور في مدينة كبيرة تاركا البنايات الشاهقة خلف ظهره.



لا توجد أفلام سينمائية أكثر تغذية لمخيلتي وإسالة لعاب اندماجي بها من الأفلام التي تتناول عالم الهيبيين والبوهيميين، لا سيما إنْ انطوت المعالَجة على شيء من النوستالجيا، ومن هذه الأفلام يأتي في المقدمة الفيلم الأسترالي "شتاء أحلامنا" للمخرج جون ديوجان. فرغم أن الفيلم قد رأى النور عام 1981، إلا أن أوائل الثمانينات كانت هي آخر مراحل الظاهرة الهيبيّة، فضلا عن أن الفيلم بنفسه عبارة عن تجربةِ حنينٍ تستوطن روحَ بطلِ الفيلم لحياته الحرة الطليقة في أواخر الستينيات. إنه فيلمٌ حنينيّ عن موضوعٍ هو –بالنسبة لي- الحنينُ ذاته، ولذا فليس غريبا أن أتوق إلى إعادة مشاهدته بين الفترة والأخرى، حيث لم يبق لنا شيء سوى شتاء الأحلام الجميلة نسترخي فيه مع ذكرياتنا وخيالاتنا التي ستبقى دوما أدفأ الأحلام وأعذبها.

*كُتبت المقالة بتاريخ 18 ديسمبر 2010. ونُشرت آنذاك في صحيفة (الرؤية) العمانية

20 February 2018

هل هذا النص متفائل بما يكفي؟

هل هذا النص متفائل بما يكفي؟



أريد أن أكتب شيئا متفائلا. شيئا جميلا. شيئا بإمكانه ان يبهج القارئ ويعطيه أملا في الحياة. وإذا كانت جملة (أمل في الحياة) هي مطلب كبير لِمَا يمكن لمنشور في الفيسبوك أو في مدونة أن يحققه، فإنني آمل على الأقل أن تمنحه كتابتي ابتسامة، أو بعضَ الطمأنينة الروحية حتى لو دام ذلك للحظات فقط.
أريد حقا أن أقول شيئا متفائلا، إيجابيا، مَرِحا إذا أمكن. لكن عن أي شيء سأتحدث؟ وكيف لفاقد الشيء ان يعطيه؟

العمر يتآكل، والصحة تتدهور -شاملا البصر ووظائف بقية الأعضاء المتأثرة بعدم القدرة على التحكم في مرض السكري-، والوضع المادي السيئ يتأزم، والمتعة تغيب عن كل فعل يمكن إتيانه.

الصداقات محبِطة، وجلسات أحاديث الليل شديدة الإضجار، وكان بإمكاني أن أفضَل عليها الإنشغال بهاتفي وتطبيقاته، لولا أن النت مكّلفة جدا، والجيجابايتات تنقرض بسرعة كبيرة. حتى الشراب الذي فيه بعض السلوى، فهو ينعشك من جانب وينخر بدنك من جانب آخر، ومن جانب ثالث فهو يثقب المحفظة. تبا!

القرض البنكي لا يبدو أنه سينتهي، والتأجيلات في الأعياد -التي لا يمكن الاستغناء عنها- تُضاعِف فترة السداد، وتطيل أمد العذاب والعَوَز المادي، وتؤجل مشروع التقاعد إلى أجل غير مسمى.

المغامرات العاطفية فشلت جميعها، كلها بسبب التربية الصارمة والخجل الشخصي اللذين تضافرا فأنتجا فردا مترددا، بل جبانا.

والسينما؟ السينما العظيمة موجودة. نعم ما تزال موجودة. لكن المرء لا يبدو أنه بات يمتلك الجَلَد الكافي للتعاطي مع فيلم لا يكشف أسراره للروح إلا ببطء وأناة. البصيرة والذائقة تلوثتا بقمامة هوليوود، التي تجعل سرعةُ إيقاعِ أفلامها الأمرَ سهلا على شخص مجهد لا يريد شيئا سوى أن يمضي الليل بسرعة وأن يقترب النوم.

حتى عروض دار الأوبرا السلطانية التي كانت سلوى عظيمة وكشفا روحيا أبهجني وأنعشني في السنوات الخمس الماضية، حتى هذه صارت بمنأى لأن الرغيف أولى من شراء تذكرة لعرضٍ فنيّ. حينما يكون الرغيف هو هم الإنسان الوحيد -بسبب بؤسه المادي-، فإن الشغف بالفنون يتراجع إلى ذيل القائمة.

ومع ذلك، فالمرء لا يزال تصله أربع جرائد محلية مجانية على طاولة مكتبه كل صباح. إنني شغوف بتصفح الجرائد، رغم أني أقرأ العناوين فقط، فليس لدي من الصبر ما أحتمل به قراءة التقارير الصحفية الطويلة. جرائد ورقية مجانية في المكتب، حسنا، هذا جيد لشخص لم يستطع أن يحب قراءة الصحف على جهاز إلكتروني. هذه من نِعَم الحياة الصغيرة. أليس كذلك؟

المرء أيضا قد نجا من حادث سير كبير وانكتب له عمر آخر. كل من رأى صور سيارتي بعد الحادث لا يزال مندهشا كيف خرجتُ منه حيا بالحد الأدنى من الإصابات. أنا ممتن لذلك حقا، ولكني في نفس الوقت ما زلت أعاني آثار الإصابات، مثل تيبس مفصل الكتف وآلامه وعجز اليد اليمنى عن أداء كافة وظائفها الاعتيادية، وكذلك تورم كاحل الرِجل اليمنى في موضع العملية، وهو التورم الذي يقول الطبيب أنه وارد وعادي أن يظهر ويختفي ثم يظهر مجددا في الستة الأشهر الأولى بعد الجراحة. إذن ما يزال لدي شهران ونصف أتصبر فيهما على تحمل هذا التورم. حسنا، طالما لم أصب بشيء فادح في الرأس أو الأحشاء نتيجة الحادث، فما زلت أقول بقناعة أن كل هذا بسيط وهيّن.

السفر يبدو مستحيلا، حتى إلى دولة قريبة وعزيزة على نفسي مثل البحرين. إنه صعب حاليا لوضعي الصحي، وصعب دوما لوضعي المالي. لكن السفر نفسه لم يعد يبهجني كثيرا كما كان الأمر في عشرينيات عمري. صرت بحاجة لرفيق للسفر، ولكن بالكاد لي رفاق وأنا قارٌّ في مكاني، فكيف أثناء السفر؟! لا الاستقرار يبهجني ولا السفر، فماذا أنا فاعل بنفسي يا إله العرش؟!

حسنا.. أعرف ما هو الحل. عليّ أن أملأ حياتي ببعض الأكشن. بعض الأفعال والأنشطة. عليّ، بدايةً، أن أتعلم الطباعة الصحيحة على الحاسوب لأتشجع للكتابة. لكي تأخذ أسطرا مثل هذه زمنها الطبيعي في الكتابة وليس ضعفيّ ما يستغرقه الآخرون في كتابتها. لعل الطباعة الصحيحة ستجعلني أكتب رواية (وماذا ستفعل رواية في مجتمع متخلف سوى أن ترسل صاحبها إلى المتاعب والتهلكة وربما غياهب السجون؟). عليّ أن أنظم حياتي وأعتمد أربعين دقيقة يوميا للمشي، فهذا سيفقأ عينيّ السكري—عدوي الأول. عليّ أن أنجح في التوقف عن تناول مدخَلات السكر والنشويات، وهو أمر أنجح فيه دائما كلما بدأته، لكنني لا أستمر طويلا. وعليّ قبل كل شيء، إذا أمكن الأمر، أن أجدا متعا أخرى غير مكلفة لتزجية الوقت، بديلا عن عاداتي الحالية المكلفة في الاستمتاع وتزجية الوقت. ولكن هل ذي البلد فيها شي الواحد يسوّيه؟

عليّ العودة للقراءة. هذا مهم للغاية. مؤكد أن فيها سلوى ومعرفة وفائدة. المهم تنظيم عناصر الحياة اليومية الأخرى حتى يمكن أن تتحقق فرصة القراءة. إنه لمن الحزن أن أقتني الكتب من معرض الكتاب سنويا ويأتي معرض جديد وأنا لم أفتحها بعد.

أظن أنني أريد حقا أن أفعل شيئا لصالح تغيير الحال الواقع إلى الأفضل. أعرف أني أريد التغيير بدلالة أني قاعد الآن أكتب هذه الأسطر. إنني أفكر مع نفسي الآن. أفكر بصوت عالٍ (رغم صمتي). على الأقل أنا أفكر. وأنا أفكر، إذن أنا موجود! ويا ليتني لم أكن موجودا!

28 January 2018

ماذا يعني لي أن أكون توأما؟





لي أخ توأم ليس له وجود إلا في ذهن أمي! كان اسمه راشد. توفي بعد أن أكمل حولا واحدا بأيام قليلة. ليس له صورةٌ ولا شهادةُ ميلادٍ باقية. لا أحد من إخواني الأكبر يتذكره، فقد كانوا أطفالا. ولأن أبي متوفى، فليس للطفل وجود سوى في ذاكرة أمي، ولا أسمع عنه سوى منها.

روت أمي أنها عندما كانت حاملا بنا قد حلمت أنها حامل بتوأم، وقررت تسميتهما طالب وغالب! لا أدري هل حدث هذا الحلم حقا، أم أنه قد تشكل لاحقا في لاوعي أمي بعد ولادتنا. إن الذاكرة خؤونة ولا ترتّب الأشياء دوما ترتيبا صحيحا. لا أعلم، على أية حال، لماذا تغيرت أسماؤنا من طالب وغالب إلى راشد وعبدالله!

ومع أن قلة عرفوا راشد شخصيا، لكن جميع أهالي بلدتنا كانوا يعرفون أن لي أخا توأما راحلا. أتحدث هنا عن أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، عندما كان الناس يعرفون بعضهم عن كثب، وكانت القرية كأنها بيت واحد كبير. أن أكون جزءا من أخوين توأم عنى هذا شيئا خاصا للقرية وطقوسها. كان ثمة اعتقاد أن التوائم لديهم بَرَكة خاصة، لذا كنتُ مطلوبا بشكل متكرر في طقسين، ولكني كنت قلما ألبي الدعوة. الطقس الأول هو التبول في فنجان بغرض استخدام بولي في علاج العيون المصابة بالرمد أو بمرض آخر. لقد طُلِبت -وأنا طفل- لأفعل هذا أكثر من مرة، واليوم أشعر ببعض الرثاء لمن تسبب بولي في حرقانٍ بعيونهم، وآمل أنه لم يتسبب بمضاعفات أخرى أكبر. الطقس الثاني هو طقس (المغبار)، وهو طقس لمعرفة سبب (الضر)، أي الضرر، الذي أدى لمرضِ شخصٍ ما. لا أتذكر الكثير من مشاركاتي في هذا الطقس. لابد أن عمري كان أقل من ثمانية أعوام. كان يتم إشعال نار عليها طنجرة بها ماء مغلي، ثم يُصب الرصاص المغلي فيها، أو ربما كانت الطنجرة للرصاص المغلي وبجوارها ماء بارد. لا أتذكر بالضبط، لكن ما أتذكره أن الرصاص الُمذاب يُسكب على الماء فيتشكل على هيئةٍ ما فور تجمده. هنا كنا نغني أهزوجة هدفها مساعدة الرصاص على التشكل. لا أذكر منها سوى جملة "كان طويرة تصوّري" (أي إذا كان سببَ الضر طائرٌ فلتتشكل أيها الرصاص على هيئته). كنا نردد أسماء مخلوقات وجمادات عديدة، ثم يقرر (الباصر) نوعية الهيئة التي تشكّل عليها الرصاص، وبذا يكتشفون سبب الضر الذي أدى لمرض الشخص الذي كان يقام المغبار طلبا لمعرفة سبب علته. بعدها يتم إقرار نوعية القربان المطلوب لرفع الضر، والذي يكون غالبا ذبح ديك ووضع بعض التمر في مكانٍ ما. كان التوائم مفضلين في الغناء في طقس المغبار، بسبب فكرة البَرَكة النابعة بدورها من الاعتقاد بوجود "نقاء" خاص يسري في أرواح التوائم. لقد كنت أكره طقوس المغبار كما كنت أكره التبول في فنجان، وكنت أتهرب دوما من أدائها رغم كثرة الطلب على خدماتي في أوساط أهالي البلدة.

هل عنى لي أن أكون توأما شيئا خاصا؟ مؤكد أنه عنى شيئا للبلدة وطقوس حياتها، وربما لوالديّ. بل عنى أيضا شيئا لخالتي التي كان لديها رضيع في نفس عمري أنا وأخي التوأم، وكانت تساهم مع أمي في إرضاعنا (إذن هنا شخص آخر يتذكر راشد إضافة لأمي). لقد رضعتُ من سيدتين، وما زلت أتساءل هل هذا في لاوعيي هو سر ولعي البالغ بالنهود وافتتاني الدائم بها؟ على أية حال، لا أظن أن كوني توأما قد عنى لي الكثير على صعيدي النفسي. الشيء الوحيد الذي أذكره هو الإحساس بنوع من الامتعاض الخفيف عندما تجيء أمي على سيرة أخي الراحل –على فترات متباعدة-. سبب الامتعاض أنها تكرر في كل مرة ما معناه أنه كان أكثر وسامة وعيونه أجمل. أو بالأدق، كان وسيما وأنا الزوج القبيح! مؤكد أن هذا ليس له أثر موعىً به في روتين حياتي اليومية، وأستبعد أنه يمثل شيئا عميقا لي في اللاشعور.

توفي توأمي بحمى شديدة وكان قد أكمل حوله الأول منذ بضعة أيام. مر رجل واقترح على أمي دواءً سيفيد في خفض الحمى. أعطاها فنجانا به ويسكي! سقته للطفل، فأمي لم تكن تعرف الويسكي ولا أعرف من أخبرهم لاحقا أن ذلك الدواء ما كان سوى خمرا محرّما. لن أزعم أن هذا سبب وفاة توأمي، فأمراض ذلك الزمن كانت كثيرة، وكان شائعا أن يموت الطفل قبل إكمال عامين. لكني أنتقم لك يا راشد من كل كحول العالم! هل كان الرجل متخابثا وقصد إلحاق الضرر بالطفل، أم كان حَسَن النية مؤمنا أن الويسكي علاج للحمى؟ لن أعرف الإجابة يوما لأنني لا أسعى لذلك. أنا لا أعرف أصلا من هو هذا الرجل ولا أعرف إذا ما كان ما يزال على قيد الحياة. إنها حادثة وقعت عام 1974 وسمعتها من أخي الأكبر الراحل، الذي لا شك أنه سمعها بدوره من والدي أو والدتي.

مرة في حدود عام 1996، كنتُ أعمل مدققا لغويا في صحيفة الشبيبة، وكان هناك رسّام صفحات من صعيد مصر. ذات جلسة، هكذا وبدون مقدمات، نظر إليّ وقال: "انته شِق توم". نطقها بصعيديته، قالبا القاف إلى جيم. ويعني كلامه "أنت أحد زوجَيْ توأم". اندهشت لهذا التصريح الفجائي منه. هذه معلومة لم يعرفها أحد حولنا ولم تكن هناك مناسبة لأحكيها. سألته بسرعة: "كيف عرفت؟". أجاب بما معناه أنه شعر بهذا بالحدس. بالحدس وحده. أتاه حدس فجائي بهذا الأمر! لا زلت أجد هذا غريبا، فهل هناك حقا إشارات يبعثها التوأم أنه تشارك بطنا واحدة مع إنسان آخر؟ أنا لا اصدق كل ما يقال عن التواصل الروحي بين التوائم، وأنهم يشعرون ببعض عن بُعد، عبر نوع من التخاطر الغريب. هذا بالنسبة لي محض هراء، واعتبرته دوما نوعا من الخرافات والخيالات. لكن من أين أتت لهذا الصعيدي فكرة أنني توأم؟ حسنا، في الحياة دوما ثمة أشياء غير مفسّرة. وعلى أية حال فقصة حدس أحدهم أنني "شِق توم" لا تعني لي سوى غرابة الموقف—لا أكثر.
كان لدينا جيران لديهم ابنان توأم. كان النظر إلى التوائم فيه شيء من الطرافة. إنها يتسببان في اللبس. وأحيانا أفكر من باب الدعابة أنه لو كان أخي راشد حيا وصار كبيرا، لربما أضفنا إلى هذه المدينة بعض المرح عبر اللخبطة التي كنا سنخلقها في أوساط أصدقائنا. تخيل أن يلتقيك أحدهم –في الحانة مثلا- ويكون غير واثق هل أنت ذاك الشخص الذي كان يبوح له بأسراره البارحة أم أنه الآن أمام شخص آخر. كان هذا سيجعل حياتي أكثر مرحا. لكن مهلا، لم نكن توأما متطابقا. كان أحدنا أكثر وسامة وبعيون أجمل. ولا أدري أكان الوسيم هو الأكثر سمرة أما أنا البدين. لكني كنت الأكبر حجما حتى منذ أن كان عمري عاما. تبا، حتى لو كان راشد حيا ما كنا سننجح في خلق المرح في محيط حياتنا اليومية. كان الأصدقاء سيميزون بيننا بسهولة لأننا لسنا متشابهَين.

منذ متى لم ألتقِ بأي توائم؟ منذ زمن طويل حقا. فعلا منذ أكثر من عشرين عاما. أظن أن عدد التوائم كان أكبر فيما مضى لسببٍ ما. أتذكر عدة توائم في بلدتنا، لكن هنا في مسقط لم يسبق لي الالتقاء بتوأم سوى أخوين لا أعرفهما معرفة شخصية، لكنهما يترددان على الأماكن التي تستضيف حفلات رقصة (السالسا). أمم، سيكون جيدا لو التقى المرء بفتاتين توأم. هنا قد تكون المتعة الحقيقية😜.

*كُتبت هذه المادة بناء على مقترح من الصديقة الكاتبة هدى حمد لتقديم شهادة عن ماذا يعني لي أن أكون توأما.


10 January 2018

شغفُ تاكو مساء الأربعاء: هواجسُ ليلةٍ شتوية

شغفُ تاكو مساء الأربعاء!


كان ثمة كلامٌ مُحْكَمٌ في رأسي، لكنه تبخر! كانت أفكارٌ تكتب نفسها في دماغي وأنا أقود السيارة. أتراني تأخرتُ على تدوينها؟

ربما أردتُ أن أتحدث عن لماذا حذفتُ الواتساب من هاتفي مؤخرا. إذا كان هذا هو الموضوع، فإنه بسيط. لقد حذفته لأن التفاهة التي تصل من خلاله قد تجاوزت الحد. ولأنه يذكّرني في كل مرة كم أنّ غالبية أبناء هذا الشعب مثيرون للرثاء بسذاجتهم في تصديق أي شيء، وغياب العقل الناقد عنهم، وتجذّر الجهل فيهم، وهي حقائق يسرني أكثر أن أتغاضى عنها وأن أتناساها. إضافة لكل ذلك، فأنا لستُ على استعداد للتواصل مجانا مع من أثبتوا أنهم يستخسرون إنفاق عشر بيسات في رسالة نصية يسألون فيها عن صحتي. هذا ما حدث عندما حذفتُ الواتساب: حذف الكثيرون أنفسهم عن التواصل! ما أرخص الإنسان عندما لا يساوي عند أصدقائه عشر بيسات.

لقد كنت أفكر (هئنذا أتذكر الآن) أنني فاقد للاستمتاع بشيء في الحياة. ليس لديّ حماس لإنجاز أي شيء أو الاهتمام بشأنٍ ما أو التواصل مع أحد. لكنني مع ذلك ما زلت أحب الحياة. إني أستغرب حقا من نفسي كيف أحب حياةً لا أجد فيها ما يُمتِعني! مهلا، ثمة ما أمتعني في الشهر الأخير. إنها وجبات التاكو التي تعرفتُ عليها عبر بوفيه مساء الأربعاء بأحد الفنادق الذي زرته صدفة. على أية حال فأنا لا أستطيع دفع قيمة بوفيه كامل لأجل قطعتيّ تاكو بالروبيان!

لستُ جيدا لا في التواصل الاجتماعي ولا في التواصل في العالم الافتراضي (عبر برامج السوشيال ميديا). إنني أفضّل التواصل بالبريد الإلكتروني أكثر عن أية وسيلةِ تواصلٍ أخرى (لولا أن بُطئي في الطباعة يُكرّهني في الأمر). أكره الحديث بالهاتف، وأفضّل التواصل مع الماكينات عن التواصل مع البشر.

لم أُتقِن شيئا يوما كما ينبغي. لا الإخراج ولا النقد ولا كتابة القصة ولا المقالة ولا المسرحية، ولا حتى إمتاع امرأة كما أشتهي (تبا لسرعة القذف). جرّبتُ من كل بستان زهرة—حتى أن أكون جناينيّا أزرع الطماطم والفلفل. لم أتقن إعداد طبخة واحدة، ولا برعت في استخدام الحاسب الآلي رغم تأليفي لكتاب عن أساسياته. والحق يقال أنني برعتُ في عبّ الجعة باستمتاع كبير قلّ نظيره على مدار سنوات وسنوات، لكن جسمي كافأني بالسكري تحية لهذا الشغف!

ربما لستُ سيّئا كأب لطفلتي الوحيدة، ولكن ليس في هذا سلوى كافية. حتى السفر الذي تمنيته، لا أستطيع إتيانه لضيق ذات اليد، وإذا فعلته فإنني دوما بلا رفيق (عدا عن استثناء لمرة واحدة). والصديقُ قبل الطريق، كما يقولون!

أأنا خذلتُ حسناواتي أم هنّ خذلنني؟ أأنا لم أعد أستمتع بالأفلام أم لم يعد هناك سينما جيدة؟ منذ متى لم أتعلم شيئا جديدا؟ منذ متى لم أكمل قراءة كتاب؟—وإذا فعلتُ فإنه لا يمنحني المتعة التي أبتغيها!

كنتُ مع مطلع كل عام ميلادي أسطّر حقيبةَ أحلامٍ أتمنى تحقيقها. لم أكن أحقق منها الكثير. لكنني منذ عامين لم أضع حتى رؤوس أقلام بشيء أريده. لم يعد لدي رغبة سوى في سير الأمور كما هي عليه. لم يعد لدي سوى حلم واحد، لكنني لا أعمل لتحقيقه. هو أن أتقاعد. لكن بديوني هذه فأنا مربوط بالوظيفة حتى يطردني منها يوما مديرٌ حديثُ التعيين في نصف عمري!

إنني لا أأسف على أي شيء فعلته أو لم أفعله، وهذه هي كارثة حياتي. كل الأمور متساوية عندي. المهم أن يمر الوقت بسرعة. الشيء الوحيد، الوحيد ربما، الذي أتمناه في هذا العمر، هو لو أنني لم أكن مصابا بالسكري. إنه مَخْزَنٌ كبيرٌ للشرور. مستودَعٌ للدمار. يدس أنيابه بخفاء في كل مفاصل الحياة فيدمرها بصمت. ولكن ماذا كان سيحدث لو أنني غير مصاب بالسكري؟ ماذا كنت سأكسب؟ حسنا، لا شيء، سوى المزيد من الطعام والجعة بلا قلق أو مخاوف! (وهل هذا بالشيء اليسير؟!)

أأريد شيئا حقا؟ أجل بالطبع. أريد أن تقول ابنتي ذات يومٍ -وأنا ببطن التراب أو ما زلت على سطح الأرض- أنه كان لديها أفضل أب في العالم. أريد أن أسافر وأستمتع. أن أعيش بلا قلق الديون. أن أشاهد فيلما يأسرني ويجعلني أرتعش. أن أشرب كأسي بلا قلق من سرطان قد ينجمُ عنه! حسنا، أريد أن يكون الشغف متجددا، بحيث يكون هناك بين الفترة والأخرى تاكو جديد أعشقه. لا عن التاكو أتحدث، ولكن عن شيء أشغف به كما يشغفني حاليا تاكو بوفيه مساء الأربعاء.

"ونحنُ نحبُ الحياةَ
إذا ما استطعنا إليها سبيلا".*



*محمود درويش