18 March 2018

عن الهيبّي الموؤود بداخلي


شتاء الأحلام*


ثمة أشياء كثيرة تُروى باعتبارها ممارسات شائعة، ولأن بعضها لم أتعرض له في طفولتي فإنني بالكاد أستطيع تصديق أنها موجودة. مثالا لا حصرا، فإن قيام الجدات بحكي قصص للأحفاد أمر هو بمثابة ممارسة عامة شائعة في كثير من بلاد العالم، بل وحسب علمي (الحديث نسبيا) فإن الجدات العمانيات فعلن ويفعلن نفس الشيء. ولأنني شخصيا لم أسمع أية حكاية من جدتي، فهي لم تروِ شيئا لي أو لأي من إخوتي وأخواتي، فإنني بالكاد أصدق أن الجدات العمانيات يحكين حقا حكايا للصغار! ولأن جدتي لا تبدو مختلفة عن أية جدة أخرى، وعليه فإنه إذا كان صحيحا أن الجدات يروين قصصا للأحفاد فإنها لابد أن تكون قد روتْ شيئا. لكنها لم تفعل، وهذا يجعلني عاطفيا متقبلا أكثر لفكرة أن الجدات العمانيات لا يحكين قصصا للصغار، وحدهن فقط الجدات في الرسوم المتحركة من يفعل ذلك! هذا ما تقوله عاطفتي، رغم أني أدرك عقليا أن الأمر مختلف عن ذلك للبعض. إنه لصحيحٌ أنّ ما نتعلمه في طفولتنا ليس من السهل أن تغيره فينا المعرفة العقلية عندما نكبر. نعم، هذا صحيح!

نموذج آخر للأشياء التي تروى كممارسات شائعة: أن كل طفل لديه حلم يرغب في تحقيقه عندما يكبر. شخصيا، لا أتذكر أنني حلمتُ بأن أصبح شيئا، لا طبيبا ولا شرطيا ولا أي شيء آخر، وأتساءل حقا إذا ما كان الأطفال لديهم صدقا أحلام من هذا القبيل، أم هُمُ الكبارُ وحدهم يجبرونهم على إدعاء الحلم حين يحاصرونهم بالأسئلة الملحة عما يودون أن يكونوا عليه عندما يكبرون. الأمر الغريب أنني ربما إلى الآن لا أحلم بأن أكون شيئا معينا، على الأقل، لا أريد أن أكون "وظيفة". لا أرغب في أي شيء من ذاك. ربما يراودني خلسة حلم بأن أرى نفسي مخرجا سينمائيا، لكنه شيء أشبه بطيف هائم لا أكثر. الطريف في الأمر، أنني لم أخلُ تماما من حُلمِ أن أكون شيئا. ففي مراهقتي، وليس طفولتي، حين كنتُ أعيش في قريتي الصغيرة، ثمة صورة أسرتني وحلمتُ بها. أن أكون بوهيميا متسكعا، أو بألفاظ أعرفها اليوم وما كنتُ قد سمعت بها آنذاك، هي أن أعيش حياة الهيبيين (بتصور خاص بهذه الحياة جاء من عندياتي). كنت أرى نفسي ببنطال جينز أزرق ممزق ورث، وشعر أشعث، وأنا أعيش منطرحا تحت الجسور في مدينة كبيرة. لا مسؤوليات لديّ، ولا علاقة لي بأية ضوابط وتقاليد وأعراف!

كان ذلك في النصف الثاني من ثمانينيّات القرن الماضي، ولا شك أن تلك الصورة المستقبلية المتخيلة لنفسي قد استقيتها من نوعية الأفلام السينمائية التي كانت تعرض في التليفزيون المحلي، لكن ذلك لوحده لا يبرر لماذا تمثلتُ نفسي في صورة الهيبيّ أو البوهيميّ، فالمرء يشاهد أشياء كثيرة على الشاشة ويتأثر بالقليل منها، والتأثر بصورة البوهيمي لِمراهقٍ في قرية بسيطة هو –في ظني- حدث غير مألوف. إذ كيف كنتُ أحلم أن أرى نفسي تاركا الدنيا لشأنها وأعيش زاهدا تحت جسور السيارات ببنطال جينز رث، كيف يحدث ذلك ولم أكن أرى أحدا يرتدي الجينز في قريتي سوى المدرسين العرب بمدرستي؟! على أية حال فهذا السؤال لا يشغلني كثيرا، بل لعل ما يشغلني/يروقني أكثر منه أن هذه "اللوحة" التي كنتُ أرى فيها نفسي لم تمتحِ تماما بعد، بل لازالت موجودة بصورة من الصور، هي صورة الحنين إلى زمن لم أعشه. ثمة حنين خاص يأخذني إلى الستينيات والسبعينيات، حين كان الهيبيون ظاهرة حقيقية، والبوهيمية طاقة تحرك الأفراد لنبذ قيود الحياة الصارمة والسعي لحرية أكبر حتى لو كانت مفاتيحها المخدرات والمشاعية الجنسية. حين أقول أني أتمتع بحنين لزمن الهيبيين، فهو نوع من الحنين المتخيل، أو ربما التوق، إلى تجربة لم أعشها شخصيا، فأنا أصغر عمرا من أن أكون قد عشت في زمن أُدركتُ فيه عقليا أنه كان زمن الهيبيين، وقد كنتُ أبعد جغرافيّا عن مدن العالم الكبيرة العاجة بالثوار على الأعراف القديمة إبان ذروة حركة نصرة المرأة وصعود المثليين الجنسيين ومظاهرات الطلاب حول العالم وأغاني البيتلز وجون لينون. كان ذلك يحدث في مكان آخر، وكنت أصغر من أن أدركه. إلا أن سحر هذه الأيام الخوالي لا يزال يعيد إليّ الحلم الوحيد –إن جاز التعبير- أو الصورة الوحيدة التي رأيتُ أو حلمتُ فيها بمستقبلي عندما كنتُ مراهقا: صورة الشاب الحر المنفلت من قيود المجتمع والذي يعيش حياته بهيئةٍ رافضةٍ لما هو مفروض عليه من قيود في الملبس والعادات وغيرها. شاب بقميص جينز رث وممزق يهيم تحت الجسور في مدينة كبيرة تاركا البنايات الشاهقة خلف ظهره.



لا توجد أفلام سينمائية أكثر تغذية لمخيلتي وإسالة لعاب اندماجي بها من الأفلام التي تتناول عالم الهيبيين والبوهيميين، لا سيما إنْ انطوت المعالَجة على شيء من النوستالجيا، ومن هذه الأفلام يأتي في المقدمة الفيلم الأسترالي "شتاء أحلامنا" للمخرج جون ديوجان. فرغم أن الفيلم قد رأى النور عام 1981، إلا أن أوائل الثمانينات كانت هي آخر مراحل الظاهرة الهيبيّة، فضلا عن أن الفيلم بنفسه عبارة عن تجربةِ حنينٍ تستوطن روحَ بطلِ الفيلم لحياته الحرة الطليقة في أواخر الستينيات. إنه فيلمٌ حنينيّ عن موضوعٍ هو –بالنسبة لي- الحنينُ ذاته، ولذا فليس غريبا أن أتوق إلى إعادة مشاهدته بين الفترة والأخرى، حيث لم يبق لنا شيء سوى شتاء الأحلام الجميلة نسترخي فيه مع ذكرياتنا وخيالاتنا التي ستبقى دوما أدفأ الأحلام وأعذبها.

*كُتبت المقالة بتاريخ 18 ديسمبر 2010. ونُشرت آنذاك في صحيفة (الرؤية) العمانية