24 August 2014

هكذا قرر الخائفون أن يعاقبوا المرأة بالعباءة

كُتبت في 1 مايو 2008، ونشرت في عدد مايو 2008 من مجلة الرؤيا الشهرية.

هكذا قرر الخائفون أن يعاقبوا المرأة بالعباءة!

تخيل أنك تسافر إلى بلد بعيدة للمرة الأولى في حياتك. فلنقل أن سفريتك امتدت شهرا أو حتى أقل. والآن تخيل أنك منذ ربع الساعة الأول بذلك البلد قد لاحظت أن الغالبية العظمى من النساء يرتدين ملابس ذات لون واحد مهما اختلفت أشكال تفصيلها وخياطتها. من المؤكد أنك ستندهش بشدة للسبب وراء هذا السلوك الغريب. لعلك ستفكر أن هذا هو الزي الوطني للبلد التي تزورها، وأن وصولك تصادف مع ذكرى الاستقلال لهذا البلد. لكن تكرار رؤية ذات اللون طوال فترة زيارتك سيزيد حيرتك أكثر، فليس كل يوم في هذه البلاد يوما وطنيا. فما السبب يا ترى الذي يجعل غالبية نساء ذلك البلد يرتدين زيا موحد اللون؟


إذا كان ما سبق قد بدا لك مجرد افتراضية، فعليك أن تنتبه الآن أنها ليست خيالية مائة بالمائة، فعمان المعاصرة –بالنسبة للزائر الأجنبي- تبدو قريبة الشبه بما وصفناه أعلاه: بلاد ترتدي نساؤها لونا موحدا هو الأسود طوال أيام السنة. اخرج إلى أي مكان ولن ترى إلا العباءة السوداء: في المكاتب الحكومية والشركات والمحلات التجارية وعلى شاطئ البحر! أنت وأنا لم يعد يُدهش أبصارنا هذا الأمر لأن عيوننا اعتادت عليه، والإنسان قادر على التأقلم حتى مع الكوارث والنكبات، إلا أن ذلك لن يمنع أحدا من القول أن ذلك الشخص يعيش تحت أنقاض الكوارث. الأمر هكذا بالنسبة لعباءة المرأة السوداء التي ترتديها الغالبية العظمى من النساء في عمان. كارثة بصرية –على أقل تقدير، بل هي أسوأ من ذلك كثيرا. فما الأمر؟ ما هي القصة؟ ومتى هبطت هذه العباءة لتغطي المجتمع العماني فتبدو الكثير من نساء هذا البلد عند ارتدائها كأنهن خيام سوداء متنقلة؟!
* * *
يعلم من تجاوز الثلاثين من عمره أن عمر العباءة في عمان أقل من ثلاثين عاما. فأمهاتنا وجداتنا لم يكن يرتدين هذا الزي الدخيل الذي أصبح مهيمنا، وهو ما يثير أسئلة حول كيفية مجيئه وكيف تم فرضه على المرأة العمانية. في كثير من قرى عمان لا تزال المرأة العمانية تنعم إلى اليوم بملابسها التقليدية المزركشة مثل الليسو والثوب والسروال، أو الماكسي واللحاف، وإن استدعى الأمر يتم لبس "الوقاية" في بعض المناسبات. إلا أن صدمة الانتقال من المجتمع التقليدي إلى المجتمع المتمدن قد سببت ردة فعل ارتدادية لكثير من رجال المجتمع الذين لم يكونوا مهيئين لمثل هذه النقلة الفجائية. فقد دخلت البنات المدارس وصارت المرأة تقود السيارة وتذهب للأسواق وتعمل في المستشفيات والمكاتب والبنوك وغيرها من الأماكن العامة، كل هذا بين عشية وضحاها. وإزاء هجمة "الاختلاط" الإجبارية التي فرضتها الحياة المعاصرة، لم يجد العربان المصدومين بمشاهدة المرأة لأول مرة في حياتهم في مواقع العمل المختلفة، لم يجد هؤلاء علاجا للفوبيا التي أصابتهم سوى إرجاع المرأة مجددا إلى نطاق السيطرة. لكن الإرجاع هذه المرة لم يكن جغرافيّا أو مكانيا، إذ لم يكن بوسع هؤلاء الخائفين من خروج المرأة أن يعيدوها للبيت، ولذا قرروا حبسها في إطار جسدها نفسه، ففرضوا عليها العباءة. إن العباءة بهذا المعني هي سجن فرضه الرجل المذعور من خروج المرأة للحياة العامة ومن منافستها له. هو سجن يمسك بمفاتيحه السجّانون الرجال الذين فرضوا العباءة قسرا على بناتهم وزوجاتهم بل وعلى أمهاتهم اللاتي عشن نصف أعمارهن دون أن يعرفن هذه الآفة الجديدة التي أتى بها هؤلاء "الصغار"! العباءة إذن، قرار ذكوري باستمرار هيمنة الرجل على المرأة. العباءة، وفقا لهذا، تعبير عن جبن الرجل، وعن جرأة المرأة التي قررت أن تكون كائنا فاعلا في المجتمع فخشي الرجل المحافظ أن ينال هذا الأمر من هيمنته. إن أي رجل يجبر زوجته أو ابنته على ارتداء العباءة، وفقا لهذا التأويل، هو سجان فزِع لا يملك الثقة في هذه المرأة ولا في نفسه، والقهر والكبت هما أسلوب الجبناء عندما تخرج الأمور عن نطاق سيطرتهم.
* * *
ساعدت عوامل تاريخية كثيرة على انتشار العباءة خلال الثلاثين سنة الماضية. كما أسلفنا قبل قليل فإن انتشار العباءة جاء بقرار في العقل الذكوري لتضييق النطاق على المرأة من قبل الرجال الذين صدمتهم سرعة خروج المرأة لمواقع الحياة العامة وخشوا أن يزعزع هذا الخروج مكانتهم التاريخية كمهيمنين على أقدار النساء. وما ساعد الرجالَ على تحقيق هذا المأرب، هو الانكسار السياسي العربي الذي ولد حالة من فقدان الأمل في المستقبل، فكان أن ارتدّت الجماهير إلى الوراء تبحث عن التعويض فيه، فظهر السلفيون الماضويون وتسيدوا الساحة لاعبين على وتر أن الماضي كان أفضل، وحين يتحدث المرء عن السلفيين فإنه يتحدث عن بعض المبادئ الرئيسية لهم والتي لا تعدو أن تكون حفنة من الممارسات الذكورية الجاهلة والقمعية مثل الدعوة لحرمان النساء من حق التعليم وحبسهن في البيوت ورفض الاختلاط وما إلى ذلك من أفكار لا تمت للحاضر بصلة. وهكذا مع شيوع السلفية جاءت العباءة ابنة شرعية لأكبر حركة سلفية حديثة في التاريخ الإسلامي المعاصر ألا وهي الثورة الإيرانية. بدت الثورة الإيرانية للجماهير العربية –عند حدوثها- كأنها انتصار كبير يعوّض شيئا من الهزائم المتتالية التي يعيشها الشارع العربي، لذا كان تأثير هذه الثورة واسعا في الشارع العربي. وسرعان ما صدّرت الثورة الإسلامية الإيرانية للعالم العربي منتجها الوطني الوحيد: العباءة!

ننظر اليوم للثورة الإيرانية بمنظور نقدي مختلف عن المنظور الذي اكتفى بالنظر إليها وقت حدوثها كانتصار ضد الاستعمار، وذلك حين نرى ما تسبب فيه قادتها من تراجع اجتماعي تضررت بسببه المرأة وعادت مجددا أسيرة لدعاوى الانغلاق والاستسلام المطلق للرجل المهيمن، وما العباءة إلا مثال يجسد هذا الانغلاق والتراجع. إن العباءة مثلها مثل النقاب الحاجب لكامل الوجه، ترميز لوجهة النظر القائلة بأن "النساء حبائل الشيطان"، ولذا ينبغي أن لا يظهر شيء من أجسادهن لأنه لو ظهر شيء فسوف تفسد الدنيا والدين كما يقول المخوّفون. المخوّفون هم أنفسهم خائفون، ولذا يحاولون باستماتة تخويف الآخرين. ومن هذا المنطلق فإن العباءة، هذه المرة، تعبير رمزي عن خوف الرجل من المرأة لضعفه وجهله وعدم قدرته على مجابهة الجمال. العباءة دليل على وجود مجتمع يسيطر عليه رجال جبناء لا يحترمون حتى النساء اللاتي أنجبنهم وربينهم، وكيف يكون ذلك احتراما إذا كانوا يعتبرون أجسادهن حبائل للشيطان ولذا ينبغي التخلص "الرمزي" من هذه الأجساد بحبسها. العباءة، وفقا لهذا، تعبير عن التمييز الجنسوي ضد المرأة وممارسة تمييزية عقابية تهدف إلى عقاب المرأة بوصفها كائنا شريرا.
                                                       * * *          
الربط بين العباءة والنقاب ليس خروجا عن الموضوع، فهما وجهان لعملة واحدة. في الكثير من دول الخليج العربية ترتدي النساء النقاب الذي يكاد يحجب كامل وجههن. لحسن الحظ فإن النقاب ليس بذاك الشيوع بعد في عمان، إذ يراه الكثير من المعتدلين مغالاة وقسوة لا داعي لهما. حسنا، أتمنى حقا لو يستطيع هؤلاء أن يروا في العباءة نفس الشيء، ذلك أن النقاب والعباءة يصدران عن عقلية واحدة، هي عقلية حصار جسد المرأة وسجنه والتحكم الرجالي فيه. يقول البعض أن النقاب مغالاة لأنه لا يوجد شيء في الإسلام يدعو لحجب الوجه، فالوجه ليس عورة. ونلفت انتباه هؤلاء أن العباءة أيضا لا ضرورة لها وفقا لنفس المنطق، فطالما المهم هو ارتداء ملابس ساترة فإن ما تحت العباءة يكفي، ولا داعي للف النساء بهذا القماط الأسود. إلا أن الإصرار على العباءة هو إصرار من الرجل على فكرة الهيمنة، والتي هي بدورها توكيد متجدد على قوة المرأة وضعف الرجل وخوفه منها. وهكذا يا من تصر على لف المرأة بالعباءة، اِعلم أنك بمعايير علم النفس رجلٌ فزِعٌ لا يقدر على منافسة خصمه منافسة شريفة فيحتال عليه غدرا ويعتقله ليمنعه من المنافسة.

إنه غريب جدا الفرق الشاسع في الحق الذي يمنحه المجتمع للرجل على صعيد الملابس وذلك الحق الذي يمنحه للمرأة. الرجل يتجول في البيت طوال اليوم أمام أخواته بـ "وزار وفانيلة" بيضاوين شفافين تشفان عن أسرار جسده، أما المرأة فليست فقط مطالبة بتغطية جسدها كاملا بطبقة واحدة من الثياب، وإنما بعدة طبقات تعلوها العباءة التي تم اختيارها سوداء عمدا ليتم تعذيب النساء بها وتذكيرهن طوال الوقت أنهن رهن الاعتقال والتعذيب. العباءة قاتلة في جو عمان الحار، فاللون الأسود يمتص الحرارة أكثر، ولأن الرجل يعرف هذه المعلومة فقد اختار للمرأة اللون الأسود واختار لنفسه اللون الأبيض الطارد للحرارة وهو يرتديه شفافا لتتخلل جسده نسمات الهواء. هل الراحة حق رجالي والحر حق للنساء؟ أم أن الأمر تعبير بليغ عن غاية العباءة الأولى والأخيرة باعتبارها سجنا تُعتقل فيه المرأة ويتم تعذيبها بداخله؟
* * *
محزنة ومبكية تلك الريالات التي تصرفها النساء لشراء أجمل الملابس ثم لا يراها أحد مطلقا لأن العباءة تغطيها ليل نهار. إن النساء يشترين الملابس بدافع السلوك الأنثوي الغريزي الذي يدعوهن للتجديد والتغيير المستمر للأشياء—بدءا من الملابس وليس انتهاء بقطع أثاث البيت، وحتى هذه الغريزة قد تم تشويهها بالعباءة، فما فائدة اقتناء أجمل الفساتين إن كان لن يراها أحد أبدا؟!

إن المطالبة بعباءة ملونة ليست حلا للعباءة السوداء. إن المشكلة الجذرية ليست في اللون، لكنها في الجوهر من وراء مبدأ ارتداء المرأة للعباءة، والذي هو فرض الهيمنة الذكورية وعقاب المرأة على خروجها للعمل ودخولها معترك الحياة العامة وإثباتها لذاتها. لقد باتت العباءة بحد ذاتها رمزا لمنهج في التعامل، ورفضها هو رفض لهذا المنهج المغلوط الذي اخترعه الرجال الجبناء الأميون حين –بدون مقدمات- تمكنت المرأة الواثقة من نفسها من نيل نصيبها لتكون فاعلة في الحياة العامة. آن للعباءة أن تعود الأدراج من حيث أتت—هذا إذا كان قد بقي لها مكان في العالم المتحضر.

3 comments:

  1. قلت : لأكبر حركة سلفية حديثة في التاريخ الإسلامي المعاصر ألا وهي الثورة الإيرانية

    شو دخل الثورة الإيرانية بالسلفية ؟؟
    لا تخبط الهيل بالفلفل
    وثاني شي ما حد فرض على الحريم اي لبس وحدهن اختارن وعجبهن

    ReplyDelete
  2. كل تيارات الإسلام السياسي يعتبرون الأسلاف منهلا وإطارا فكريا لأحزابهم وتنظيماتهم. لا يهم المذهب
    أعلم أن البعض يربط السلفيين بالسنة فقط. لكن البعض الآخر يعتبر جميع حركات الإسلام السياسي سلفية كون السلف هو مرجعيتهم الفكرية التي تنهض عليها رؤاهم وممارساتهم المعيشية

    ReplyDelete
  3. كيف تقول إن العبائه دخيله على مجتمعنا ونحن من يوم طلعنا على الدنيا وامهاتنا وجداتنا يبلسنها !! وإذا هو موضوع شيء دخيل على مجتمعنا فكلامك هو الدخيل على العموم إترك المرأه لتختار فهي ليست ضعيفه لتحتاجك لتدافع عنها

    ReplyDelete

Note: Only a member of this blog may post a comment.