21 March 2016

ماذا بعد عودة معاوية الرواحي؟

السنة التي غاب فيها معاوية



أتيحُ لنفسي حق التأمل في موضوع عودة معاوية الرواحي للبلاد، بعد سنة قضاها في سجون دولة الإمارات العربية المتحدة، لأن معاوية كان –قبل غيابه- قد تحول إلى شخصية عامة، بل إلى واحد من أكثر المؤثرين في تفكير الشباب. إنه بطل للكثير من طلبة وطالبات الجامعات. هو الأنشط –بلا منازع- في وسائل التواصل الاجتماعي. هو الأكثر تهورا إنْ شئت. والآن وقد عاد هذا الشاب ذو الشعبية الكبيرة، ما المتوقع من قبل شخصية عامة كمعاوية أن يتصرف بعد عودته للوطن؟ هل سيعود إلى سابق عهده في نشر الموضوعات الساخنة على مواقع التواصل الاجتماعي؟ هل سيسمح له أهله أن يعرّض نفسه للأذى مرة أخرى؟ هل سيترجل بطل الشباب عن صهوة وسائل التواصل الاجتماعي فيحبط مريديه الذين صلّوا لأجله طوال عام وأشعلوا الشموع لعودته؟ ولكن.. أكانت تلك بطولة مستحقة، أم مجرد ظاهرة ربما كان على هذا الشاب المتعدد الاهتمامات أن يعتبرها مرحلة عمرية عليها أن تنقضي؟ بل، ألم يكن كل ذلك ظاهرة مرضية لها علاجها الذي ظل معاوية الرواحي يرفض أن يتعاطاه؟

منذ أن عرفنا معاوية الرواحي، وحتى قبل أن نعلم أنه مريض بمرض يدعى "اكتئاب المزاج ثنائي القطب"، عرفناه شعلة من النشاط. متعدد الاهتمامات لدرجة التضارب أحيانا—كأنْ يعطي موعدا لخمسة أشخاص في نفس الوقت في خمسة أماكن مختلفة، وفي نهاية المطاف يدخل معاوية في النوم –بسبب عبثية حياته- ولا يلتقي أحدا! كنا نتقبل ذلك منه ونعتبره جزءا من شخصيته "المتنعشلة". لكن مع السنين تغير الأمر كثيرا. صار معاوية أكثر نشاطا لدرجة غير طبيعية بالمرة، وقد ترافق ذلك مع ازدهار الفيسبوك و تويتر وزيادة انغماس الناس في عالم وسائل التواصل الاجتماعي. أصبح معاوية غزير الانتاج لدرجة لا يمكن فيها متابعة كل ما يكتبه ويصوره بالفيديو من موضوعات. فهناك منشورات للفيسبوك تصل من الطول أحيانا إلى درجة لا يستطيع الفيسبوك أن يرفعها، فيلجأ معاوية إلى مدونته لينشرها. وهناك مقاطع فيديو على اليوتيوب بالساعات في الأسبوع الواحد. و هناك قصائد على الواتساب، و سيل من التغريدات في تويتر. و هناك أكثر من حساب بالفيسبوك–لأن الخمسة آلاف صديق التي يتيحها الفيسبوك للفرد الواحد لم تكن كافية لمعاوية الرواحي! كان هناك شاب مفرط الحماس متعدد الاهتمامات يقود معارك على جبهات شتى: لمناصرة قاصة شابة استأسد عليها جيش من الظلاميين، أو للقيام بهجوم موجه ضد كاتبة هزيلة مستفزة تكتب ما تسميه "قصف جبهات"، أو لفضح خرافات رجل دين لم أكن شخصيا قد سمعت به قبل حملة معاوية الرواحي ضده. ما لم نكن نعرفه أن هذا التصاعد المحموم الحاد في نشاطات معاوية الرواحي كان نتيجة للمرض الذي يعاني منه. إنه مرض غريب. وكما يحمل اسمه فهو مرض له قطبان. القطب الأول يمكن أن يُدخِل صاحبَه في نوبات اكتئاب حادة قد تصل إلى مراحل يؤذي فيها الشخص نفسه. وهذا كان يحصل لمعاوية. والقطب الثاني كان يمنح صاحبَه طاقة هائلة وحماسا خطيرا، وهنا كان معاوية يتألق. لم تكن جماهير معاوية المتنامية تعرف شيئا عن كل هذا. إلى أن وقعت الفأس في الرأس بتدوينة نشرها معاوية لم ينقذه منها إلا تسامح السلطة وجهود والده، وقد كان من تلك الجهود أنْ نشر والده لأول مرة للعلن الحالة الصحية لمعاوية والشهادات الطبية التي تثبت حالته النفسية.

الأشهر الستة السابقة لاحتجاز معاوية الرواحي كانت أشهرا من النشاط المحموم في حياة هذا الشاب. كان الأمر قد وصل إلى الفوضى العارمة. كانت هناك حرائق يشعلها باستمرار في مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، ولمن عرفوه عن قرب كانت هناك أشياء مخيفة تجري في حياته الشخصية كردود فعل لمرضٍ يرفض صاحبه أن يتناول أدويته. كانت تمر الأيام بلا نوم لدى معاوية، وفي ظروف كهذه يضطرب الدماغ ويفقد المرء السيطرة على الأمور. في مثل هذا التصاعد المرضي جاءت مسألة تهديد معاوية العلني عبر كافة وسائل التواصل الاجتماعي بقتل الكاتب الطبيب حسين العبري بزعم أن الكاتب قد أفشى أسراره الطبية. في هذه المرحلة بالذات كان معاوية لم يعد شخصا مأمونا، حتى بالنسبة لأصدقائه. لعله كان يقترب من الشيزوفرينيا، حيث يمكن لاكتئاب المزاج ثنائي القطب أن يتحول إلى شيزوفرينيا في الحلات المتطرفة للمرض. حسنا.. هنا حدثت مفارقة شديدة الأهمية. لقد ابتدأ معاوية الرواحي يدرك أنه مريض، وبدأ يذكّر الناس بمرضه وألا ينظروا إليه كبطل. كان ذلك على الأقل ما تقوله كلماته، لكنه كان على أرض الواقع ماضيا في التصرف كبطل. أما جماهيره المفتونة به فقد تجاهلت تحذيراته وبدأت تتجه أكثر فأكثر إلى الذوبان فيه والتماهي مع حالته. لقد ظهر لمعاوية مقلّدون في أسلوب كتاباته. وصار هناك جيل من كتاب الفيسبوك يتفاخر بالإعلان أنه مكتئب ويكتب منشورات مليئة بعبارات مكتئبة. لقد أضحت الحالة المرضية حالة مقدسة. صار الأمر مخيفا، فالمدون الذي يرتكب جريمة قانونية وهي التهديد بقتل أحدهم يصبح بطلا في عيون جماهير توقفتْ عن التفكير. جماهير من الشباب المنقاد تبحث فقط عن البطل لتتبعه، ولم تلتفت يوما لتحذيرات هذا البطل أنه لا يريد البطولة. لقد انتبه معاوية أنّ شعار "#الحياة_هجلو" الذي وضعه عنوانا لفلسفته في الحياة لم يكن إلا شعارا اكتئابيا؛ فالحياة عمل و أمل وليست مجرد تجزير للوقت. لكن جماهير معاوية المتحمسة بإفراط لم تصغِ مجددا لتصحيح المسار الذي أراد الكاتب الشاب أن يقود إليه. على مستوى شخصي لي، كنت قد توقفتُ عن متابعة معاوية الرواحي في وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة قبل احتجازه في سجون الإمارات بنحو ثلاثة أشهر. تلك الفوضى النارية كانت مخيفة، ومزعجة. لم أتوقف عن اعتبار معاوية صديقا، وكنت قد زرته في شقته قبل السجن بأيام بسيطة، ورأيت -ما سأحتفظ بتفاصيله كصديق- ما يعبر عن المقدار الذي وصلت إليه حالة التشوش الصحي والمعيشي لدى معاوية. كنت أعرف –ببساطة- أن شيئا سيّئا سيقع. كان معاوية الذي يزداد بطولة في عيون الشباب، يدخل أكثر فأكثر إلى حالة من التشوش الذاتي. كان كل شيء متوقعا (إلا السجن بدولة الإمارات). أغلب التوقعات كانت بأن تحجر عائلة معاوية عليه لأنه كان قد أصبح مؤذيا لنفسه، أو أن يرتكب حماقة في منشورٍ ما يدخل بسببه سجون البلاد. كان معاوية قد وصل إلى مرحلة لابد أن يحدث معها شيء، فهو نفسه لم يكن قد أصبح يطيق نفسه. مرة يتحول لمعلم رياضيات وتصبح مهنة يجني منها المال. ومرة ينهك جسده ليتعلم إشارات موريس في يوم وليلة ويكتب بها منشورات في الفيسبوك. ومرة يتحول إلى جراح يشرح كل يوما قطة أو حيوانا صغيرا، وهو الشاب الذي يخاف بالأصل النظر إلى قطرة دم. لقد أخذ معاوية جسده إلى أقصى طاقة المرونة بحيث كان الجسد ينتظر لحظة الانهيار. وفي مغامرته الأخيرة كان قد تحول إلى صانع للشموع، وهي تقليعة مرضية تحولت بسببها نساء متزوجات إلى مراهقات بائسات مثيرات للشفقة. قبل سجن معاوية بيوم واحد كان معاوية بالونا لابد أن ينفجر، وكنا –أصدقاءه الذين نحبه، وليس مريدوه العميان- نسأل الله اللطف بالقدر وليس رد القدر.

الآن وقد عاد معاوية، ما الذي يمكن أن يحدث؟ هناك عائلة تخشى على ابنها، وقد تخشى عليه كثيرا لدرجة إبعاده عن العيون كافة. لن ينجح هذا مع شاب بالأساس هو مبدع حيوي و نشيط: مدون وقاص وشاعر ومتفاعل مع قضايا المجتمع. وهناك على الضفة الأخرى جماهير تنتظر قائدها الذي لا ترى سوى هالته، لكنها لا تعنيها آلامه وتمزقاته. ولكنّ هناك طريقا ثالثا، اسمه أخذ الدواء بانتظام.

في غياب معاوية الرواحي فقدنا بطلين شعبيين حقيقيين لم تصنعهما جماهيرٌ تقدم أبطالها كقرابين نيابة عنها، ولكن صنعهما حب الوطن والإخلاص له. فقدنا الراحلَين الكبيرين علي الزويدي و حمد الخروصي رحمهما الله. والآن يعود إلينا معاوية الرواحي، الشاب الذي كان يمكن أن يكتب خلال الفترة التي غيبه فيها السجن عدة مؤلفات بين الشعر والقصة والتدوين. لقد حُرِم معاوية الرواحي سنة كاملة من أن يشارك بآرائه في مجريات الحياة العامة في البلاد، والآن تعود إليه الفرصة –لو تعامل معها باتزان- لينسى الجماهير العريضة التي كادت أن تورده مورد التهلكة، ويصغي لصوت المبدع في داخله. صوت الشاعر المطبوع، والناشط الإعلامي الذي ساهم منذ تأسيسه لمهذونته قبل نحو 8 سنوات في تنشيط الإعلام الإلكتروني في بلادنا والتأثير فيه. لن أزعم أن علي الزويدي و حمد الخروصي كانا بلا جماهير في حياتهما. لقد كان هناك جمهور هادئ، لم نره بوضوح إلا في جنازة كل منهما، حين انسابت الدموع الصادقة لفقدهما والدعاء للرب بالغفران لهما وبجنة الخلد. كان ذلك حبا صادقا. هذا جمهور لم يسع المرء إليه، ولم يعبأ به في حياته. كان يحصل كتراكمٍ طبيعي يتحقق بمقدار ما يكرس المرء نفسه للإخلاص لوطنه وقضاياه. أما العائد معاوية الرواحي، فعلي كصديق أن أقول أنه ليس بحاجة لهذا النوع من الجمهور الذي يحيط به، فهو بحاجة أكثر لصداقة الشعر والأدب والفن، وإلى تلك الفئة القليلة النبيلة من أصدقاء الواقع الذين يحبونه بصدق. أولئك الذين سيقولون لك يا معاوية: رجاء، لا تنس أخذ أدويتك، لأنك بصحتك الجيدة تستطيع أن تفعل أكثر وأفضل بكثير مما يفعله المرض بك و بنا.

22 February 2016

لقاء الغريب بالغريب

لقاء الغريب بالغريب


من أجمل المتع في الحياة، هي تلك الصدف النادرة التي تجعل غريبين –أو أكثر قليلا- يلتقيان على طاولة واحدة، ثم سرعان ما ينشأ بينهما حوار حميم. حوار يبدأ بشيء من الفضول، ثم يتطور للحديث عن شؤون خاصة. عن وجدانيات وآراء لا يبوح بها المرء كل يوم. وبدون أن يدرك المتحاوران كيف حدث هذا، يذهب الحوار بغير تخطيط إلى كبد الحقيقة. يصل إلى البوح والتقارب. فجأة يصبح هذا الغريب الذي التقيناه صديقا—كما لو أننا نعرفه بعمق من عدة سنوات. لربما نبوح له عن دواخل أنفسنا وأسرارنا بأكثر مما يعرفه عنا أصدقاء عايشناهم لسنوات. أحب أن أسمي هذا النوع من اللقاءات بلقاءات البحارة في الحانة. حانة ميناء. لعلها صورة أستمدها من فيلم (قروش البحّار الثلاثة) لراؤول رويز.. حيث يلتقي البحّار المخضرم بطالب شاب، ويعرض عليه ثلاثة قروش مقابل أن يوافق الطالب على سماع الحكاية التي سيقصها عليه البحّار. حكاية مليئة بتجارب الحياة والسفر والموانئ والنساء والصراع مع الأمواج. أسميه لقاء البحّارة لأن البحارة يرتحلون من ميناء لآخر. وفي محطاتهم القصيرة على اليابسة يجمعهم دفء شراب (الروم) وحميمية الحانة، حيث تنشأ الصداقات وتنتهي. حيث البوح يأتي بلا مقدمات. حيث يعيش المرء عمرا كاملا صاخبا في ليلة واحدة، يسرد حكاية حياته لشخص غريب كمن يشرب ثمالة الكأس الأخيرة، لأنه يعلم أنه لن يلتقي بذاك الغريب مرة أخرى.

كم أحب لقاءات بحارة الموانئ. لا أعني البحارة حرفيا، لكني أقصد أيّ غريبين يلتقيان صدفة لسويعات فتنشأ بينها صداقة عجيبة في جلسة واحدة، ثم يفترقان إلى الأبد. أنا ملّاح مثلهم، ولي موانئي المؤقتة. ولدي حكاياتي التي لا أخبر بها إلا العابرين، الحكايات التي تقال كاملة لشخص لن ألتقيه مرة أخرى. تحدث صدفة لقاء البحارة غالبا في السفر. عند مَشرب على الرصيف، أو مقهى على ضفة نهر. تحدث غالبا عند السفر، في مَواطن لا نعرف فيها أحدا، لكننا جئنا إليها من مواطننا بحب كبير حين اخترنا الترحال إليها. مَواطنُ نحن مستعدون أن نصادق ناسها وأشجارها ونسمات هوائها ونادلاتها اللطيفات. مستعدون لنآخي غرباءها الذين هم ملّاحون مثلنا، مسافرون لاكتشاف شيء جديد وتجربة شيء مغاير. إننا –عند السفر- جميعنا بحّارة. جميعنا لدينا حكاية نود أن نتشاركها، و سرّ أجّلنا البوح به حتى نلتقي بالغريب المناسب. وحين نعود لأوطاننا فإن تلك الصداقة العميقة العابرة التي دامت ليلة واحدة تكون هي أفضل ذكرى نأخذها إلى مخادعنا من ذلك البلد.

لكن السفر ليس مطلبا ضروريا للقاء البحارة. بل إنه لا ضمانة هناك أنّ السفر سيقدم لناء بالضرورة فرصة لقاء الغريب بالغريب في جلسة بوح حميمة. يمكن أن لا يحدث ذلك في السفر، كما يمكن أن يحدث لقاء الغرباء في موطنك الأم. كل ما عليك هو أن تكون مُشْرَعَا لتكون حضنا للآخر إذا احتاج إليك. أن تصغي له بانتباه. تشاركه تجربته. تطلب منه تفاصيل أكثر. وإذا كانت فتاةً جاشت بها الذكرى وهي تبوح بمشاعرها، فليكن حضنك هذه المرة حقيقيا لا افتراضيا. لعل هذا الحضن يكون الترياق الذي يحتاج إليه كلاكما حتى يتعافى من بعض وعثاء الحياة.

لقاءات البحارة قليلة. والمحظوظون السعداء هم مَن يحصل معهم الأمر مرة كل سنتين أو ثلاثا. ولقد كنت أحدهم أكثر من مرة، في السفر وبلا سفر. لن أستطيع أن أصف النشوة التي تملأ نهاري التالي عقب كل مرة ألتقي فيها بغريب أتبادل معه البوح الحميم. البارحة مثلا‘ كي لا أذهب أبعد، كيف تسنى لكل ذلك المرح أن ينشأ فجأة بيني وبين الزوجين البريطانيين اللذين التقيتهما صدفة، وانتهى بي المطاف أسوق بهما مسافة طويلة مُقلّا لهما لمنزلهما، لأن الصداقة التي تكونت بيننا في جلسة واحدة جعلتني لا أقبل أن يستقلا سيارة أجرة كالغرباء. يا إله العرش! بضع ضحكات ورشفات من إكسير متبادل جعلتنا أصدقاء في ساعة! ما أعظم موانئ البحّارة!

وهل أنسى الفتيات اللاتي فتحن قلوبهن لي، وطهّرن قمصاني بمدرار دموعهن وهن يسردن لي عن خيانات الأحبة وقسوة الزمن؟ وتلك التي باحت بأسرار لن تعرفها عنها يوما أمها، كما لن يعرفها زوجها. وأنا الذي تركت العنان لروحي لتسرد فصولَ أفراحٍ وأتراحٍ، عن رغبات مكبوتة تارة، وعن حب موؤود، وعن اشتهاءات شبه آثمة، وعن رغبة عارمة في احتضان الكون بأجمعه، وأحيانا عن فانتازيات وظلال تسكن كهوف النفس. فكان هناك من يصغي إلي بلا توجس أو إدانة. بل كان هناك من يبادلني بوحا ببوح، وحكاية بحكاية، وكأسا بأخرى، وربما دمعة بدمعة أو ضحكة بضحكة. ما أجمل البحارة في موانئهم العابرة!


قد لا نلتقي بالملّاح الذي بحنا له بكل شيء حميم في حياتنا مرة أخرى. لعلنا في لاوعينا لا نتشجع للبوح إلا لمعرفةٍ دفينةٍ في قرارات نفوسنا بأننا لن نلتقي هذا المسافر المرتحل مرة ثانية. لكننا أحيانا نلتقي بالملاح مرة أخرى. نلتقيه ونحن نعلم أننا نلتقي بصديق حميم. قد لا نأتي على ذكر ما بحنا به في أول لقاء، لكننا سندرك دوما أن ذاك اللقاء الأول كان السر وراء صداقتنا هذه. سنلتقي مرة أخرى ونضحك ونتناقش في أمور كثيرة، لكنّ كل واحد منا سيحمل حنينه السري الخاص به إلى لقاء الغريبين اللذين كنّاهما ذات يوم، ذات سويعة آفلة. الغريبين اللذين التقيا في حانة ميناء الحياة. ما أجمل الغرباء، ما أجمل حاناتهم وموانئهم!

*الصورة أعلاه هي لقطة من فيلم (قروش البحّار الثلاثة) لراؤول رويز

08 February 2016

لماذا يأسرني سنابتشات؟

رقصة سنابتشات المحصَّنة ضد الموت




لا أزال مفتونا بعالم سنابتشات منذ أن استوطنتُهُ منذ نحو أربعة أشهر. تجربتي الأولى له كانت قبل أكثر من عام، في نسخة قديمة منه. لم تكن تلك النسخة صديقةً للمستخدم، لذا لم أعرف كيفية استخدامه فهجرته. أما الآن، فأنا أقيم داخل سنابتشات وأشعر ببهجة كبيرة أنني أسكن فيه؛ حيث الكثير من البشر حولي يشاركونني نفس المتعة: أن نزيح كافة الجدران من حولنا ونكون أرواحا مُشاعة ليلاقيها الآخرون بنفس روح الأخوّة والبوح. البوح، لعلها الكلمة المفتاح لعالم سنابتشات البهيج. أعني بالبوح هنا ذلك المقدار الكبير من الرغبة في مشاركة تفاصيل حياتنا اليومية ووقائعها بما يفوق ما نقدمه في وسائل التواصل الاجتماعي الأخرى. إن البوح –بهذا المعنى- هو الجامع الرئيسي المشترك بين سكان واحة سنابتشات الحافلة بالمتعة.
* * *
لمن لا يعرف سنابتشات فهو تطبيق اجتماعي للهواتف الذكية، يتيح للمستخدِم إضافةَ أصدقاءٍ يتبادل معهم الصور ومقاطع الفيديو، كما يوفر إمكانية الدردشة النصية. الميزة الكبرى في سنابتشات أنّ المادة التي تبعثها لصديقك قابلة للمشاهدة مرة واحدة فقط ثم تختفي. لا يمكن لمن يستقبل صورتك أو الفيديو الخاص بك أن يعيد إرساله لأحد. المادة تختفي ذاتيا بعد مشاهدة واحدة. هناك في سنابتشات خياران لإرسال ملفات الوسائط المتعددة: (1) إما بإرسالها مباشرة لشخص واحد أو عدد محدد من أصدقائك، وفي هذه الحالة يراها ذاك الصديق لمرة واحدة. (2) أو أن تضيف مادتك المصورة إلى شيء اسمه (قصتي)، حيث يمكن لكل أصدقائك مشاهدتها ولا تصبح مقصورة على فرد بعينة أو عدة أفراد أنت تنتقيهم. وبالنسبة للمواد التي ينشرها المستخدِم في ألبوم (قصتي) فإنها تدوم 24 ساعة. أي يمكن لأصدقائك إعادة مشاهدتها مرارا وتكرارا طوال تلك الأربع والعشرين ساعة قبل أن تختفي. وأيضا تظل المواد في ألبوم (قصتي) عصية على أصدقائك ليشاركوها مع طرف ثالث. هذه هي ميزة سنابتشات الكبرى: الخصوصية. بقي القول أن مدة الفيديو الذي تستطيع إرساله لأصدقائك عبر سناب تشات لا تزيد عن 10 ثوانٍ فقط. وكذا الحال بالنسبة للصور، فعندما تصور صورة فوتوغرافية عبر سنابتشات وترسلها لأحدهم فإن لك الخيار أن تقرر المدة التي يستطيع فيها صديقك مشاهدة الصورة، وهي مدة تتراوح بين ثانية واحدة وعشر ثوان كأقصى تقدير، ثم تختفي الصورة. وفي حال قرر صديقك التقاط صورة للشاشة قبل الاختفاء التلقائي لصورتك فسوف ينبهك سنابتشات أن المستلِم قد قام بالتقاط صورتك عبر برامج تصوير الشاشة الموجودة في الهواتف. أنت ما زلتَ محميا وتعرف مَن يحاول خرق خصوصيتك من ضمن قائمة أصدقائك.

عندما ظهر سنابتشات في البداية (تحديدا في سبتمبر 2011) كان ظهوره بسبب مسألة الخصوصية. فنحن عندما نرسل رسالة نصية أو فيديو أو صورة ثابتة عبر برنامج آخر (كالواتساب مثلا)، فليس هناك أي طريقة نضمن بها أن المستقبِل لن يقوم بتمرير رسالتنا لطرف ثالث. جاء سنابتشات ردا على هذا. ولذا فعند ظهوره ارتبط في البداية بالمراهقين وطلبة الجامعات في أمريكا ليتبادلوا فيما بينهم صورهم الخاصة، لاسيما بين الأصدقاء الحميمين، وذلك بفضل خاصية عدم إمكانية تخزين المواد الواصلة عبره إلى ذاكرة الهاتف وكذا عدم إمكانية تشاركها مع شخص ثالث. انتشر سنابتشات بسبب هذا، لكن سرعان ما ظهرت عوامل أخرى عززت انتشاره وجعلته يخرج خارج إطار فئة الشباب (بين 12 و24 سنة) ليستخدمه الجميع. إنه عنصر الرغبة في البوح للآخرين ومشاركة تفاصيل الحياة مع الناس بدون أن يترتب على الأمر أية تبعات. من منا لا يريد ذلك؟ من لا يريد أن يتشارك لحظاتٍ تخصه مع رفاقه، ويرى ماذا يفعل رفاقه، والكل مدرك أنه لا ضررَ سيترتب على ذلك لأيٍّ من الطرفين؟ هنا السر الكبير للانتشار الرهيب لسنابتشات وتحوّله إلى واحد من أقوى وسائل التواصل الاجتماعي قاطبة.

يقول البعض الآن أن الفيسبوك قد أصبح برنامجا عجوزا، لا يستخدمه إلا كبار السن. فيما يراه البعض برنامجا نخبويا يستخدمه من يجيدون الكتابة. هذا قول متطرف بالطبع لكنه مؤشر على الدور الجديد الذي أصبح سنابتشات يلعبه في حياة الناس. من يقولون بشيخوخة الفيسبوك فإنهم يجعلون سنابتشات القوة المضادة له، بوصفه معبّرا عن روح الشباب. لا يمكن إنكار الطاقة الشابة التي يتمتع بها سنابتشات، فهو يجنب المرء عناء الطباعة ويقول بالفيديو والصورة ما لا تقوله الكلمات الخرساء.  وهو مناسب للشباب من طلبة المدارس والكليات كون هؤلاء في مرحلة بناء العديد من الصداقات ولديهم مئات الزملاء في المدرسة والكلية، ولديهم طبيعةُ حياةٍ فضوليةٍ تتطلب التشارك. تتطلب –في الحقيقة- تشاركا مزدوجا: أن تعرِضَ واقعَ يومك للآخرين، وأن ترى واقعَ يومهم معروضا أمامك. أليس هذا كل ما يمثله سن الشباب؟ التشارك! هذا شأنٌ كان الشبابُ دوما بحاجة له: المشاركة. لكن ليس الشباب وحدهم من يحتاجونه، فهناك آخرون لديهم هذا الاحتياج يتمثلون في أفراد المجتمع من الفئات الأكبر سنا، كما تحتاجه الشركات والمؤسسات التي تنظم فعاليات وتحتاج إلى وسيلةً لبثها شبه حية لحظة حدوثها.

أصبح سنابتشات اليوم مطلبا حيويا ورخيصا للغاية للشركات لتروج لفعالياتها. فما عليك إلا دعوة السنابرز الناشطين الذين يملكون عددا هائلا من المتابعين وسيغطون لك فعاليتك أفضل من أية وسيلة تقليدية أو حديثة متاحة. صار لدينا في عُمان سنابرز تخصصوا في تغطية الفعاليات وهم مدعوون دائما ليكونوا في الصف الأول بين الحضور. السنابر فهمي المعولي (مسماه في سنابتشات هو famiwami) هو واحد من أنشطهم، ولعله أول من انتبه لمسألة أن سنابتشات يمكن له أن يتحول إلى مصدر رزق للسنابرز الناشطين. نشر فهمي المعولي تأملات حول أن السنابرز الناشطين في الغرب قد أصبحت هذه مهنتهم. تدفع لهم الشركات لتغطية الفعاليات لأنهم يملكون عددا جيدا من المتابعين، بينما في عُمان فإن أفضل ما يجنيه السنابرز النشطون هو دعوةٌ لحضور الفعالية وتناول العشاء!
* * *
ما الذي يعنيه لي سنابتشات بصفة شخصية؟ لقد أتاح لي سنابتشات فرصة ذهبية كانت من قبل مستحيلة لأتعرف على حيوات أصدقائي على نحو أفضل. في الفيسبوك نحن متحفظون إلى حد بعيد. ربما نتشارك بعض الأفكار لكننا لا نتشارك لحظات الحياة الاجتماعية اليومية بالصورة والفيديو. في الفيسبوك لا ننشر إلا القليل من صورنا الخاصة. ولا ننشر أبدا أي مقاطع فيديو لحياتنا الأسرية. لماذا؟ لأن كل شيء هناك يمكن أن يؤخَذ ضدنا.  خصوصيتنا ضئيلة في الفيسبوك لأن ما ننشره لا يطّلع عليه أصدقاؤنا فقط، ولكن حتى أصدقاء أصدقائنا (الذين لا نعرفهم بالضرورة) يستطيعون النبش في خصوصياتنا. سنابتشات مختلف. إنه يوفر لنا الخصوصية لأننا نتحكم بشكل كامل في الأشخاص الذين نضيفهم كأصدقاء والذين يحق لهم وحدهم الاطلاع على ما ننشره فيه.

في سنابتشات سمعتُ لأول مرة ضحكات صديقاتي اللاتي أعرفهن منذ سنوات في الفيسبوك (ما أثمن أنْ تسمع ضحكة صديقتك للمرة الأولى بكل عفويتها وبهائها). وفيه رأيتُ أطفالا لا حصر لهم يلهون ويملؤون الأرض وداعةً وحبورا. رأيت أفرادا يعيشون الوحدة ويبحثون عمن يدردش معهم في ساعات الليل الأخيرة المضنية.  رأيت هدايا اشتراها أصدقاء لعشيقاتهم السريات (دون أن يصرّحوا أنها لعشيقاتهم السريات). رأيت منى تلهو مع قطتها، ولم أكن أعرف أن أغلى ما لدى منى هو قطتها. سمعتُ عفراء تغني وتغني لتبدد وحشتها، ولتخاطِبَ عالَما غير مرئي تبث له لواعجها وتخبره أن صوتها ليس عورة. رأيت صاحبات أعمال ناشئات يحفرن الطريق الجبلي الوعر نحو النجاح ولتمكين أعمالهن في عالمٍ شرسِ المنافسة. في سنابتشات رأيت عشرات البشر من كل شعوب الأرض يتحدثون بلغات لا أعرف إلى أي بلد تنتمي، لكنهم أذِنوا لي بمشاهدة تفاصيل حياتهم بلا أدنى حرج. في سنابتشات يتابع تسنيباتي بشرٌ من أمم شتى لا يفهمون العربية، لكنّ منهم الحريصون باستمرار على أنْ يروا كيف يعيش الناس في بلاد أخرى وماذا يفعلون بيومهم. إذا كنا نقول أن المسرح قد أسقط الحائط الرابع لغرفةٍ ما فصرنا نشاهد حياة الناس في تلك الغرفة، فقد أسقط سنابتشات الحيطان الأربعة جميعَهَا. لقد بات العالم عاريا وجميلا مثلما كان عليه أن يكون منذ بدء الخليقة.

لا أحب المتفرجين في سنابتشات. لا أحب من يشاهدون تسنيبات الآخرين ولا ينشرون شيئا. إنهم متلصصون. فكرة سناب الجذابة هي التشارك المزدوج، أمّا مَن يطّلع على كافة تفاصيل حياتي ولا يشاركني شيئا فلا أحتاج له. أحيانا أقول أن هؤلاء قد يكونون مضطهدين اجتماعيا بشدة بحيث لا يستطيعون التسنيب، ويكتفون بمشاهدة ما يجود به سنابتشات كنافذة السجن الوحيدة ليروا من خلالها العالم. أتعاطف قليلا ولكني لا أستطيع أن أنشغل بالسجناء. سنابتشات هو نافذة حريتي المتجددة. لا أريد أن أفتحه يوما بدون أن أرى فيه الجديد. لذا أضيف دوما بشرا لا أعرفهم ولا أعرف من أي البلدان هم، فقط لأرى حياة متدفقة كالنهر المتجدد. لا أريد السكون. لا أريد الموت.
* * *
وكما في كل وسيلة اجتماعية جديدة للتواصل، ومثلما في كل باب جديد للبوح، فإن الفتيات هنّ دوما الأجرأ. هنّ الرائدات. هنّ مَن يفتحن هذه النافذة الجديدة لنسمة هواء كنّ دوما بحاجة إليها، ليخرجن بواسطتها من سجن الواقع إلى رحابة العالم المأمول. هكذا أرى ريادة الفتاة في سنابتشات قياسا بتمترس الذكور في مناطق طمأنينتهم المعهودة. هكذا أرى جرأة منشوراتهن مقارنة ببؤس منشورات الشباب المحافِظة والحيادية حد الملل. لذا سأقول: إن لم تملأ سنابتشاتك بقائمة من صديقاتك الفتيات فإن سنابتشات لا معنى له أساسا في المجتمعات المحافظة.

25 January 2016

معاركُ رجلٍ في الأربعين

معاركُ رجلٍ في الأربعين

 (1)
للأربعين معاركها. للأربعين الكثير من المعارك الجارية. بعضها محمول على الأكتاف منذ سنوات أسبق، وبعضها قيد الوقوع. منها ما سيخبو خلال فترة بسيطة، ومنها ما سينتقل لسنين العمر القادمة.



(2)
يفكر في نفسه أن الأربعين قد جلبت له بعض الراحة. لقد أصبح أقل قلقا إزاء بعض الأمور. أبسطها أنه قد قضى أكثر من 15 عاما موظفا حكوميا، وقد وصل راتبه إلى مستوى مقبول (قياسا بما بدأ به). سلفية بيته قد مضى نصفها. ويبدو أنه و زوجته قادران على إكمال الدرب (رغم صراعاتهما المتكررة). أطفاله الثلاثة يملؤون حياته (ولكن يزعجه إصرار زوجته على ضرورة مجيء الرابع). لا يبدو أن تهديدا كبيرا يتربص بخط حياته العام. ثم يتدارك ويسأل نفسه: ماذا عن الصحة؟!
لا يتذكر أيهما حدث أولا، ضعف البصر أم إصابته بالسكري. عالج الأول بالنظارة لرؤية الأشياء البعيدة، فإذا الأشياء القريبة تصبح هي العلة. صار يبدّل بين نظارتين. اشترى مرة نظارة فيها القريب والبعيد، علاجان في واحد كما زعم له المحل الذي أخذ 350 ريالا لقطعة من الزجاج. ارتداها فأصبح البعيد ضبابا وأمسى القريب دخانا. قالوا له ستتعود عليها، لكن ذلك لم يحدث. فعاد إلى مسألة النظارتين وأخذ يفكر: ليتني قرأتُ أكثر عندما كان نظري أفضل.
فكّر في جراحات الليزر الحديثة، لكن شيئا ما فيه يجعله يخاف خوض أية جراحة. لماذا عندما يكبر المرء يرفض الجِرَاحات ويختار التعايش مع المرض؟ هناك من ماتوا بالسرطان وسواه لأنهم رفضوا إجراء الجراحة. هناك رجل عجوز يعرفه أصيب بالعمى الكامل لأنه رفض جراحة صغيرة لعينيه قائلا: "بو باقللي ذا النظر. إنْ خاسوه موه هيبقالي؟". أما السكري فلا يبدو بالنسبة له أنه أسهل  من أزمة جراحة الليزر. على العكس من ذلك، فهو يدرك أن الحل بسيط: المشي وتنظيم الغذاء. ولكن من ذا يقول أن هذا بسيط؟ هذا يعني باختصارٍ الكثيرَ من التغيير في نمط الحياة، وهل التغيير سهل لرجل في الأربعين؟

(3)
عندما يسأله الرفاق عن رأيه في الزواج، اعتاد أن يقول: "60 بالمئة إيجابي و 40 بالمئة سلبي". الآن صار يقول: "شرٌّ لابد منه". منذ متى حدث هذا التحول؟ ولماذا؟
هو موقن أنه و زوجته سيكملان الدرب. امممم، يقول ذلك لنفسه في أوقات السلام العائلي (وما أندرها)، أما في أوقات الشدة، فقد فكر في الطلاق ما لا يقل عن ست مرات بجدية تامة. ما مشكلته مع زوجته؟ هي مشكلة جميع الرجال، لا شيء خاصا أبدا. "النساء يحببن المشاكل. يتلذذن باختلاقها. يحببن أن يرين حياتك كسيحة معطلة لأسباب مجهولة، وحين ينجحن في ذلك ويعطلن حياتك يتهمنك بأنك عديم النفع!"، هكذا يقول. هو يعرف أنها ليست مقولته الخاصة به، فخلفان و علي وسعيد وسليمان وسويلم راعي الفرصادة يقولون نفس الشيء. خلفان يقول له: "طنّش تعش تنتعش". أما سعيد فيفكر في الزوجة الثانية وينصح صديقه بها، ويقول "الحرمة ما شي يأدبها غير حرمة غير". لكن ذلك لا يبدو مقنعا له، فالمتأدب الحقيقي "اللي ماشي على عجين ما يلخبطوش" هو الزوج. إنه الزوج دائما. هو متأدب بوجود زوجة واحدة، فماذا سيحل به لو جاءت "كارثة" ثانية؟ لا شك أنه سينفجر لفرط الأدب! هكذا يرد على سعيد، ويردد له مثلا سمعه منذ سنوات في فيلم مصري: "قل لا تتزوج اثنينِ. أنا من وحدة طِلْعِتْ عيني". في الحقيقة، لا تستعصي فكرة على فهمه أكثر من فكرة أن زوجا منكوبا بسبب زوجته ومع ذلك يقرر الزواج بامرأة ثانية! لا يبدو له أن في الأمر شيئا من المنطق، فكيف تعالج جرحك بنفس النصل الذي أدماك؟ لكنهم يفعلون هذا كثيرا في هذا البلد، فهل ينجح العلاج؟
نصحه سويلم راعي الفرصادة أن يعيد قراءة كتاب (الرجال من المريخ.. النساء من الزهرة)، فهو –على الأقل- حلٌّ أرخص تكلفة، لكنه أصبح موقنا أن حلول هذا الكتاب ونظيراته مثالية، وأنّ قراءة الكتاب لا معنى لها إن لم يقرأ الطرف الآخر الكتاب أيضا ويتناقشان فيه. هل يمكن أن يكون حل مشكلة أزلية عامة شديد البساطة بهذا الشكل، ومتوفرا هكذا؟ ربما عليهما أن يجربا ذلك!
مرة قال لزوجته: "كنا سنصبح صديقين رائعين لو لم نكن أزواجا". هل المشكلة، إذن، في الزواج وليست فيهما؟ وهل لهذه المشكلة حل في مجتمع لا يعرف إلا الزواج صيغةً معترفا بها للعلاقة بين رجل و امرأة؟

(4)
نعم قد ارتفع راتبه عما كان عليه في بداية مشوار حياته الوظيفية، لكن أوجه إنفاقه قد ارتفعت أيضا، وأصبح مسؤولا عن آخرين. لا عن نفسه فحسب.
عشر سنين تبقت على قسط البيت. إذن هي عشر سنين قبل التقاعد. هو لم يعد يطيق عبودية الوظيفة، ولم يدّخر في حياته قرشا أبيض ليعينه في يومه الأسود. وها قد حل اليوم الأسود. لن تكون هناك أعوام أسوأ من هذه السنة والتي تليها. إنه انهيار عام. سيتضرر فيه مثلما سيتضرر جميع البسطاء. خطة التقاعد التي كان يفكر فيها قبل عام أصبحت ضربا من الخيال. كان يفكر أنه اذا تقاعد فسوف يؤسس عملا آخر يعزز دخله، ولكن ها هي الأعمال تتهاوى من حوله، والانهيار مرئي على مد البصر.
أتراه يخادع نفسه عندما يقول أن الأربعين قد جلبت له بعض الراحة و الطمأنينة؟ تبدو له الصورة هكذا من الخارج أحيانا، لكنه عندما يفتت التفاصيل يجد أن السوس ينخر كل شيء. الصحة والمال والحياة الشخصية والمستقبل الآمن. ومع ذلك، يحتاج إلى طمأنة نفسه، ويثق أنه ما يزال قادرا على أنْ يُحِبَ و أنْ يُحَب، وهذا تقريبا يكفيه.
(5)
أما معركته الكبرى فهي أنه لا يكف عن السؤال: هل كان مسار حياتي خاطئا على طول الخط؟ لو استطعتُ العودة للوراء، أكنتُ سأسلك شبرا واحدا في نفس هذا الدرب؟
كم من معارك سأحمل معي للباقي من العمر؟ ولكن، ما الحياة أصلا إذا خلت من كل تحدٍ؟ ما الحياة بلا معارك؟

20 January 2016

شجرةٌ وحيدةٌ عندَ النبع

 إلى مُنى




أريدُ أن ألتقيكِ اليومَ
لساعتينِ أو ثلاثا.

كم أتمناه لقاءً في مكانٍ ليسَ بالعامِ ولا بالخاص
ربما تحت شجرةٍ معزولةٍ على ضفةِ غَيْلِ ماءٍ يجري
أو
على ظلِّ سدرةِ نبقٍ تطلُ مباشرةً على البحر.

ننطرح متعانقَين.
يدي تطوقك.
ولا نتبادل الكلامَ.. لكنّ "بحيرةَ البجعِ" ترفرفُ حولَنا.

نصغي لموسيقى أرواحِنا
ولا نشعر بأسى
أنّ هذا سيكونُ عناقَنا الأخير.

12 January 2016

اشتهاءُ ملاك


اشتهاءُ ملاك





أيّ انتصابٍ عظيمٍ مستديمٍ مرهِق
كان سيفتك بجسدي و يُفنيني
لو كنتِ أنتِ خليلتي وساكنة مأواي و عريني -مثلما تسكنين رأسي-
يا أيها الملاك الكاعب!

سأجازف.. و أضيفك!



سأجازف.. و أضيفك أيتها الفتاة المجهولة.
ستكونين ضمن قائمة أصدقائي.
لا شيء أعرفه عنك بعد (بل لستُ متأكدا أنك فتاة أصلا، لكن حدسي لم يخطئ يوما في شم عبير الأنثى ولو من خلف زنزانة القناع والفزع).
سأضيفك لأن صورة بروفايلك أعجبتني، وأنا أعرف أنها ليست صورتك الحقيقية، فأنتِ على الأرض لستِ باقة ورد أو لوحة لامرأة دامعة العينين من عصر النهضة، ولا حتى وجهَ موديلٍ محسّنة بالفوتوشوب. ولكن سأضيفك لأن صورتك التي اخترتيها ليست قناعا، بل هي القناع-الضد.
سأضيفك لا لأن عدد الأصدقاء المشتركين كبير بيننا (في الحقيقة يزداد قلقي كلما كان بيننا أصدقاء مشتركين كُثُر).
سأضيفك أيتها الصديقة الجديدة المحتمَلة، لأن فكرة أنه (لا شيء أعرفه عنك بعد) تغريني. ولأن كل أنثى هي قصيدة، أو شيء يبدو كقنبلة، ولكن اذا انفجرت فقد تتطاير منها الزهور أو رزاذ العطر. كل أنثى هي وردة شائكة، يجعلنا حزنها ألطف، وإذا بكينا يوما معا -ولو عبر اتصال هاتفي، كما حدث لي مؤخرا، وكما حدث من قبل، وكما سيحدث دائما- فإن ذلك يجعل روحي أخف، و أنفاسي أجمل.
سأجازف.. وأضيفك أيتها الفتاة المجهولة.
ستكونين ضمن قائمة أصدقائي. لأننا حتما سنكون سعداء معا. سنسعد بدمعة مشتركة، وبعناق افتراضي آخر الليل، بعد أن يسكب كلا منا دموعه على وسادة خالية.

10 January 2016

عاشقُ الضحى في الهواء الطلق

يوميات رجل سعيد

أنت تؤمن أنك سعيد، إذن فليسعدك الرب أكثر وأكثر.
تستيقظ على لذعة برد خفيفة من النوع الذي تحبه. النوع المحفّز لا المثبّط. النوع الذي تريد لأجله أن تنهض من السرير، لا أن تتدثر باللحاف أكثر وتستغرق أطولَ مختبئا تحته. تحفزك زاوية صغيرة مفتوحة بالمنزل كي تهرع إليها لتشم هواء نقيا عذبا، هواءً لطيفا. وتفكر، "كم ستكون حياتي أجمل بعد بضع سنوات من الآن عندما أتقاعد، فيكون لدي المجال لأستمتع بصباحاتي بالطريقة التي أريد".


هذه الأيام أنت تعيش عينة مبكرة لمستقبلك كمتقاعد، فأنت في إجازة سنوية. لا تشعر بالفراغ مطلقا، إذ لا يخلو يومك من مشاوير وارتباطات لتنجزها، بل إنك تشعر أحيانا أن الأربعة والعشرين ساعة ليست كافية لما تود القيام به. مشاوير للبيت والعائلة ولنفسك ومع الأصدقاء. ووقت للكتابة والقراءة، والبحث عن فرص تنفيذ أعمال خارجية متقطعة تزوّد بها دخلك لتنفق بسخاء على ملذات حياتك—وليس على الأساسيات. لم تعد قلقا بخصوص الأساسيات مثلما كنتَ وأنت في العشرينيات من عمرك. لديك الكثير مما يمكن أن تبدأ به صباحا بهيا، إذ يمكن لك الذهاب لمقهى مفتوح لتجرب شايا عطريا. أو تبدأ يومك بكتابة مقالة وجدانية لمدونتك أو استكمال قراءة رواية جيدة كنتَ بدأتَ بها البارحة. أو مشاهدة فيلم خلاق من ثمار السينما اليانعة الشهية التي تبدعها أنبل عقول البشرية من الرائين. كما أنه  لديك (سنابتشات) يمكن أن تبدأ به صباحك. تطبيقٌ لا تمل من التلصص فيه على حيوات بشر من مختلف البلدان واللغات أذنوا لك بمتابعة وقائع أيامهم، ومعظم ما يبثونه لحظات بهيجة مملوءة بالمرح و الغشمرة. بل لديك –في سِنابِك- حتى فاطمة النبهانية، لاعبة التنس الدولية التي تعتبرها بطلةً شخصيةً لك منذ ما قبل حملتها ضد أكياس البلاستيك، هذه الحملة التي جعلَتها أعلى شأنا في نظرك لأنها جاءت في وقت لا يعير فيه الكثيرون أي شأن للقضايا البيئية. كم كانت فاطمةٌ بعيدة، والآن هي في سنابتشات الخاص بك وترى يوميا طلتها الحلوة وابتسامتها الساحرة وتسريحة شعرها المتموج التي تدعو ربك ألا تغيّرها في يوم من الأيام، فهي علامتها الجمالية الخاصة وماركتها المسجلة. ألا يكفيك قُربُ النبهانية (الموجودة على راحة يدك) –يا عاشق الضحى في الهواء الطلق- لتكون سعيدا؟ فديتك أيها الحالم المتواضع!
* * *
تجلس لتخطط للقاء يجمع الرفاق، ليتعارفوا، ليتحابوا، ليتعاضدوا ضد قسوة الحياة. حياتك لا معنى لها دون أن يكون أحبابك حولك. لا تحتاج سوى لبضعة اتصالات لتدعوهم ليلتقوا، ثم الكثير من الصلاة لتسمح ظروفهم باللقاء. تعلم أنهم سيستمتعون معا، وستستمتع بوجودك بينهم. وبينما أنت تفكر فيهم يباغتك أحدهم برسالة ليدعوك بـ "يا أطيب قلب". تبتهج بالطبع، وتدرك أنه عليك أن تصلي في هذه اللحظة بالذات حتى لا يعتذر أحد عن اللقاء.
هناك تحضُرُ الضحكاتُ والموسيقى، ويأتي البوح الحميم. ولن تكون الرؤوس مشغولة بالتفكير في أزمة هبوط أسعار النفط وخطط التقشف التي –حتما- ستطال الجميع. لن يكون أحد معنيا بعالم الجشعين وصراعاتهم، فذاك ليس الوقت المناسب ليتذكر فيه الضحايا أنهم ضحايا. إنه الوقت الأنسب ليعلو فيه الطيبون على فكرة الظلم. ليصعدوا بأرواحهم إلى سماوات توحدهم جميعا كبشر نبلاء أطيابا خيّرين ولا شيء آخر. قد يأتون في الحديث على ذكر بعضٍ مما يزعجهم أو يؤرقهم. هذا طبيعي تماما. إنها وسيلة للاستشفاء. لرمي المكابدة جانبا لبعض الوقت، فما إنْ يبوح المرءُ بما يزعجه حتى يصبح قادرا على خطو خطوة للأمام بكاهل أكثر تخففا. لا بأس يا أشقّاء الروح إن جئنا على ذكر ما نقاسيه، فنحن هنا لنتعاضد. ها إني أرى أحدهم سرعان ما يطرح نكتة، أو تدندن فتاة مقطعا من أغنية عاطفية تحبها، أو يتنهد إنسان زافرا ذكرى قديمة يشعر في تلك الحظة، في تلك اللحظة فحسب، أنها باتت أقل إيلاما. ها أني أرانا نضحك، نستخرج الطفل الذي لم يكبر بعد بداخلنا، ونتوجه للطفلة الفعلية الوحيدة –بحسابات العُمر- الموجودة معنا في جلستنا و نكبُر حتى نكون أطفالا مثلها. ها نحن نلاطفها. ها هي تستمتع مثلنا، فهي لا تحظى دوما بكل هذا التجمع من الأرواح الطفولية حولها. ها أننا جميعا في عمر واحد. إننا أطفال الفرح و أبناء اللحظات السعيدة.
* * *
أيتها الأرواح عيشي طفولتك دائما، ولا تكبري أبدا.
الصباحُ طفولةُ اليوم. رضيعُ النورِ البرئ، الحابي نحو الرشاقة والعطاء.
هو الطفل الذي لا يعرف إلا اللعب والاكتشاف.
هو الطفل الذي يعصم الأرواح من التكلس أو التخشب، فيمنحها قبسا من براءته.
أيتها الأرواح كوني دائما طفلة. مشعة بالحياة وعشبُ خطاكِ مُخضَرٌ بالفرح والمحبة.
التقِ يا أرواحُ وقتما تشائين، فلقياكِ صبح. ولتهنأ أنت يا عاشقَ الضحى في الهواء الطلق، حيث لن يعرف يومُك كلُّه سوى جذل الطفولة و كركراتها الصافية.