30 August 2014

الكتاب الإلكتروني في شارع الثقافة العربية

كُتبت في 27 يونيو 2010، ونُشرت في وقتها في جريدة الرؤية
لم تكن أجهزة التابلت قد عُرِفت بعد إلا بنطاق ضيق للغاية، ولكن جهاز كندل من أمازون كان قد ظهر وصار رائد القارئات الإلكترونية



الكتاب الإلكتروني في شارع الثقافة العربية

منذ ظهور الكتاب الإلكتروني منذ سنوات قلائل، واجه هذا الكتاب وما يزال أكثر من مفارقة تكنو-ثقافية، لاسيما فيما يتعلق بمدى قدرته على التواجد في الواقع الثقافي العربي.
أولى المفارقات في حياة الكتاب الإلكتروني، أنه ظهر إلى الوجود قبل ظهور القارئات الإلكترونية بفترة ليست بقصيرة في عمر التكنولوجيا، إذ منذ نحو خمس سنوات أو يزيد قليلا، كان ممكنا للأفراد أن يحولوا النصوص الطويلة التي يكتبونها باستخدام برنامج معالِج الكلمات Word Document إلى ملف PDF غير قابل للتعديل عليه، وبذا ظهرتْ أول صيغ الكتاب الإلكتروني. حيث أصبح بإمكان أي مؤلِّف تأليف كتابه والقيام بإخراجه إخراجا نهائيا كما لو أنه يستعد لإدخاله المطبعة، وعوضا عن ذلك فإنه يقوم بتحويله إلى كتاب إلكتروني (غالبا بصيغة PDF) ويقوم برفعه على الإنترنت وتبادله مع أصدقائه، أو حتى إرساله لهم بالبريد الإلكتروني—نظرا لصغر حجم الكتب بصيغة PDF (إن لم تكن تحتوي صورا ملونة كثيرة). وإلى جوار ذلك، ظهرت ممارسة أخرى في عالم الكتاب الإلكتروني تتمثل في المسح الضوئي للكتب المطبوعة وتحويلها باستخدام برامج خاصة إلى كتب إلكترونية. هذه الممارسة الأخيرة كانت هي الأهم بالنسبة للقارئ، إذ بواسطتها بدأ الناس يتمكنون من الحصول على كتب مطبوعة غير متوفرة حولهم، أو ممنوعة، أو غالية الثمن، وهي الآن تأتيهم بالمجان عبر المكتبات الرقمية التي تملأ الإنترنت. أما محور المفارقة المرتبط بكل هذا، فإننا صرنا قادرين على امتلاك الكتب الإلكترونية التي نرغب بها، غير أننا لم نتمكن بعد من قراءتها، ذلك ان طريقة قراءتها الإلكترونية الوحيدة التي كانت متاحة –حتى وقت قريب جدا- هي قراءتها على شاشة الحاسوب مباشرة، وهي عملية مضنية للغاية، ولا يستطيع القيام بها الكثير من الناس. إذ تخيل أن لديك مكتبة إلكترونية فيها خمسون كتابا تود حقا أن تقرأها، وكل واحد من هذه يتراوح بين المائتين والثلاثمائة صفحة. فمن ذا يستطيع أن يقرأ كل هذه الصفحات متصلب الظهر امام شاشة الكمبيوتر؟

الحل الذي كان متاحا، هو عمل نسخة ورقية من الكتاب الإلكتروني الذي امتلكناه ونزلناه من الإنترنت، ولكن طباعة كتاب كامل على ورق الطباعة عملية مكلفة، وفي الغالب يصل سعر الطباعة إلى مبلغ أعلى عن سعر شراء نسخة ورقية أصلية مطبوعة من نفس الكتاب. كما أن طباعة الكتاب الإلكتروني تعني أن يتم طباعته على ورق بحجم A4 المعياري، وهو حجم كبير، وسيتصف الكتاب في النهاية بـ "دفوشية" مزعجة وبوزن زائد يعيق قراءته. وهكذا، فقد كانت النتيجة أن كدّس الناس الكثير من الكتب الإلكترونية في حواسيبهم، فرحين بتخطي حدود الرقابة وامتلاك الكتب التي طالما حلموا بها، ولكنهم ظلوا عاجزين عن قراءتها، وكانت تلك هي المفارقة الأولى التي واجهها الكتاب الإلكتروني في شارع الثقافة العربية.

المفارقة الثانية، وهي المفارقة الأكثر مرارة، نشأت منذ سنة تقريبا، وذلك مع ظهور الحل المخلِّص لمشكلة تراكم الكتب الإلكترونية وعجزنا عن قراءتها. فقد ظهرت مؤخرا في الأسواق القارئات الإلكترونية، وهي أجهزة صغيرة تتكون من شاشة تحاكي صفحة كتاب عادي متوسط الحجم غالبا، ومتصل بهذه الشاشة المكونات التشغيلية للجهاز. يحتوي القارئ الإلكتروني على سعة تخزينية تتيح الاحتفاظ بداخله بمكتبه تضم آلاف الكتب، وبإمكان المرء اختيار الكتاب الذي يود قراءته والبدء فيه والإنتقال إلكترونيا من صفحة لأخرى. ميزة القارئات الإلكترونية أنها خفيفة الوزن وسهلة النقل، وبإمكان الفرد استخدامها بسهولة كما لو أنه يستخدم كتابا مطبوعا. بإمكانه مثلا الاستلقاء على ظهره عند القراءة كما يفعل الكثير منا مع أي كتاب.

بوسع المرء أن يتخيل الخدمة الجبارة التي يمكن للقارئ الإلكتروني أن يوفرها في الدول الغربية، حيث اعتاد الناس على حمل كتبهم معهم دائما والقراءة في أي مكان، لاسيما أثناء استخدام المواصلات العامة. فبدلا من أن يحمل الواحد كتابين ثقيلين، فإن كل ما يحمله هو شاشة الكتاب الإلكتروني الرشيقة وخفيفة الوزن، والتي ابتدأت في بدايتها بسعة تخزينية تتسع لحوالي ثلاثة آلاف كتاب، تضاعفت اليوم وستتضاعف غدا لتصبح تقريبا لا متناهية. أما في عالمنا العربي، فلم يسمع أحد بعد بالقارئ الإلكتروني، والقلة القليلة جدا الذين سمعوا به من المثقفين وخازني الكتب الإلكترونية غير المستغلة في حواسيبهم واجهوا مشكلتين: الاولى: ارتفاع سعر القارئ الإلكتروني بالنسبة لدخل المواطن العربي (500 دولار أمريكي)، والثانية: عدم قدرة الإنسان العربي، حتى المثقف، على التعاطي مع التكنولوجيا والتلذذ بمعطياتها، مدعيا أنه "لا طعم لقراءة كتاب إلكتروني لا تستطيع أن تخط عليه شخبطاتك وخربشاتك أينما تشاء في علاقة حميمية مع رائحة الحبر وملمس الورق". كل هذا محض تعبير عن الخوف من التعاطي مع الجديد في ظل هيمنة ثقافة تشدنا إلى الماضي بقوة. وهنا يجدر بي القول، لمجرد التنويه، أن الكتاب الإلكتروني يتيح أيضا للقارئ عمل خربشات وشخبطات بواسطة القلم الإلكتروني، ويمكن حفظها مع الكتاب الأصلي وإظهارها وإخفاؤها متى ما استدعى الأمر. والحقيقة الثانية، أنه حتى حجة ارتفاع سعر الكتاب الإلكتروني هي كذبة أخرى يكذبها المثقف العربي على نفسه، فهذا المثقف ذاته الذي يستغلي سعر الكتاب الإلكتروني لا يتورع أن يشتري كل سنة أو أقل هاتفا نقالا سعره نفس سعر الكتاب الإلكتروني (الذي تشتريه مرة ويعيش معك ربما للأبد)، ولا يستخدم من ميزات هاتفه النقال باهظ الثمن إلا عشرة بالمئة منها، وهذه الميزات المحدودة التي يستخدمها كان يمكن أن يتيحها له هاتف نقال آخر بسعر 100 دولار وليس 500 دولار. إنها مسألة عشق المظاهر والتكنولوجيا الزائفة، ومجافاة التكنولوجيا الأخرى التي تستطيع أن تأخذ المرء للأمام إنْ كان قادرا على مجابهة انجذابه المرضيّ للماضي الساكن. فرغم أننا نقف أمام شخص مثقف يدعي الحداثة، إلا أنّ الحقيقة التي لا يستطيع الجهر بها هي أنه، ووفقا لعنوان أول دواوين الشاعر خميس قلم، "ما زال تسكُنهُ الخِيامُ" التي لا يريد أبدا أن يبارحها!

No comments:

Post a Comment

Note: Only a member of this blog may post a comment.