17 August 2014

لا أسرار في هذه القرية!

لا أسرار  في هذه القرية!

مِن أمتع مناخات الأفلام السينمائية بالنسبة لي، تلك الأفلام التي تدور أحداثها في بلدة أو قرية صغيرة، بحيث نعايش في الفيلم أفرادَ قرية كاملة، العديدَ منهم، بعاداتهم وطباعهم وأحزانهم وأفراحهم ووقائع حياتهم اليومية. ليس مهما لديّ أن تكون قرية حقيقية يسميها الفيلم بالاسم، ويمكن العثور عليها في "خرائط جوجل"، أو أنْ تكون قرية متخيَّلة. ليس مهما أيضا أنْ تكون قرية معاصرة، ولا أنْ تدور الأحداث في الماضي. المهم هو أنْ يأخذنا الفيلم إلى حياة عدد هائل من البشر. عدة قصص لعدة أشخاص تتداخل مصائرهم وتتشابك. المهم أن أعيش مع الفيلم وكأنني أحد سكان تلك القرية: أعرف أسماء الجميع هناك، وماذا يعملون، وبماذا يغتابهم جيرانهم، وما شكل الحانة المفضلة التي يذهب إليها الأزواج الغيورون والمُحبَطون، ومن هي أجمل النساء التي تغار منها جميع سيدات تلك البلدة. إنها حياة ثرية أعيشها بقضها وقضيضها في واقعية تامة، وكأنني عشتُ حياتي جميعها في تلك القرية. لكن الحقيقة، أنني لا أعرف أحدا هناك، ولذا أنا أستمتع بالتلصص على ما يجري لهؤلاء الناس، وأن أحتفظ بمسافة تعصمني من الاكتواء بلهيب ما يعانونه، فـ "القرية الصغيرة جحيمٌ فسيحٌ" كما يقول المثل الأرجنتيني.


من هذه النوعية من الأفلام، شاهدت بالأمس الفيلم البريطاني/الأمريكي (من ناحية جهة الإنتاج) "شوكولاته" (إخراج: لاسي هالستروم. إنتاج: 2000). من بطولة الممثلة الفرنسية القديرة جولييت بينوش. رغم أن الفيلم كان أقرب للأُمثولة fable tale –ولكنّ أبطالًه بشرٌ وليسوا حيوانات- (وهذا يعني ضمنيا أنه سينتهي بخلاصة أخلاقية moral)، إلا أنه لم يكن فيلما وعظيا إلا بالقدر اليسير جدا. أكثر ما أحببته في الفيلم أنه ينتمي بالضبط لنوعية أفلام "القرية الكاملة" التي أحب مشاهدتها. كما أحببتُ رسالته الداعية إلى انفتاح النفس على الآخر، والانتباه لدائرة الانغلاق، وأزمة التأويل الجامد لتعاليم الدين. عموما كان الفيلم في مجمله جيدا لولا أنه لم يحوِ الكثير من المفاجآت في قصته، ولإدراكي سلفا أن نهايته ستكون سعيدة؛ وهو أمر قد يكون طوباويّا في قصة من النوعية التي يعالجها هذا الفيلم.

تتمركز أحداث الفيلم –لن أحرق النهاية على أحد- حول الشخصية الرئيسية "كارولين"، صانعة الشوكولاتة، التي تأتي نازحة إلى قرية فرنسية "هادئة"، برفقتها ابنتها، وكأن رياح الشمال القوية الباردة قد أحضرتهما إلى القرية. "القرية" هي الكلمة المفتاح في هذا الفيلم. إنها قرية هادئة يعيش فيها الناس فيما يؤمنون أنه "السكون والطمأنينة" Tranquility. تحت وهم الطمأنينة توجد قلاقل كثيرة وأسرار ونار تتلظى تحت الرماد. يوجد: زوجات يسئ الأزواج معاملتهن. العمدة الذي يُسيّر رجلَ الدين ويوجه خطبَه الدينية لصالح الرؤية السياسية للعمدة. رجل الدين الملتزم بالنصوص الحرفية، والذي يقسّم العالم إلى عُصاة ومرضيّ عنهم. الأم التي تربي طفلها الصغير على الخنوع. الزوج السِكّير القاسي الذي ستسعى المؤسسة الدينية-السياسية لاحقا إلى إصلاحه بنور الرب. الجدة التي حرمتها ابنتها من رؤية حفيدها زعما من الابنة أن الجدة لديها تأثير سيئ على أخلاق الحفيد. ثم هناك العنصر المحفز الذي سيخلط أوراق اللعب: الأم العزباء الجميلة "كارولين" التي طرأتْ على القرية، والتي لا تذهب للكنيسة، لكنها تصنع "شوكلاتة" تذوب لها أفئدة الرجال والنساء. كل الخلطة السحرية لأفلام "القرية الكاملة" موجودة في هذا الفيلم، باستثناء مجنون القرية، وهو شخصية كلاسيكية في كل فيلم من هذا النوع، وفي كل قرية حقيقية صغيرة، فهو هنا غائب. عدا ذلك فكل شيء موجود، لاسيما البُغض والتدخل في شؤون الآخرين، وهي السمة الأخلاقية الأولى في السلوك الجمعي لأية قرية صغيرة.

رغم أن أحداث الفيلم تدور في قرية متخيلة، إلا أنه ليس صعبا أنْ نرى مجتمع تلك القرية منعكسا في قرى كثيرة نعرفها بالاسم. ما أشبه تحالف العمدة ورجل الدين بكافة أنظمة وطننا العربي. ألسنا نعرف قرىً، بل ومدنا، بل ودولا كاملة، تعيش على هذا التحالف، من أجل حفظ "طمأنينة" متوهمة؟ طمأنينة على السطح، ونار تحت الرماد؟ ألسنا نعرف زوجاتٍ لا يُبلّغن عن اعتداءات أزواجهن عليهن لاعتبارات اجتماعية مختلفة، فيما القرية كلها تعرف ذلك، ومع ذلك يغض الجميع الطرف عما يحدث؟ ألسنا نعرف جميعا قرى يُضطَهد فيها الأشخاصُ المختلفون، ويحارَب فيها جالبو السعادة من فنانين وتنويريين (الذين تجسد فنهم ورؤاهم التنويرية في هذا الفيلم "الشوكولاتة" اللذيذة المُبهِجة)، بتواطؤ من قِبل العادات والقيم البالية، وبإيعاز من تحالف السلطتين السياسية والدينية؟ ألسنا نعرف قرى لا ينشغل رجالها ونساؤها بشئ غير النميمة، ثم يبتسمون في وجوه الآخرين عندما يصادفونهم في الطريق أو المتجر؟  إن القرى هي أكثر مكان تظهر فيه الكراهية بوضوح، لا لأن حجم الكراهية فيها أعلى من المدن. ولكن لأن القرى يعرف فيها الجميع بعضهم بعضا وترتبط حيواتهم اليومية ببعض بشكل مباشر. القرى لا مكان فيها للفردانية، لذا فتأثير الآخرين وتدخلهم في حياة الفرد واسع، وهو ما لا يلمسه المرء في المدينة بشكل ظاهر للعيان. وفيما تُحيل كلمة قرية عند كثير من الناس إلى بساتين خضراء، فإنها بالنسبة لي شخصيا، تكاد ترادف كلمة "بغضاء"، ولذا لا تغادر أذنيّ يوما مقولة كارل ماركس: "بعيدا عن هذا الريف البائس"! حقا أحِب أن أشاهد أفلاما عن قرى بكاملها، لأنني لا أتعرف في الفيلم على عالَم شخص واحد ومعاناته وجُوّانيّاته، لكنني أعيش مع الكثيرين دفعة واحدة. أتعرف على ألف حكاية وحكاية، وألف طموح موؤود وألف طموح متقد. نعم أحب أن أشاهد أفلاما عن القرى، ربما لأنها ليست المكان الذي أحب أن أعيش فيه فترة طويلة، ولأنها المكان الذي عليّ أنْ أكافح دوما لأنجو منه!

No comments:

Post a Comment

Note: Only a member of this blog may post a comment.