28 January 2018

ماذا يعني لي أن أكون توأما؟





لي أخ توأم ليس له وجود إلا في ذهن أمي! كان اسمه راشد. توفي بعد أن أكمل حولا واحدا بأيام قليلة. ليس له صورةٌ ولا شهادةُ ميلادٍ باقية. لا أحد من إخواني الأكبر يتذكره، فقد كانوا أطفالا. ولأن أبي متوفى، فليس للطفل وجود سوى في ذاكرة أمي، ولا أسمع عنه سوى منها.

روت أمي أنها عندما كانت حاملا بنا قد حلمت أنها حامل بتوأم، وقررت تسميتهما طالب وغالب! لا أدري هل حدث هذا الحلم حقا، أم أنه قد تشكل لاحقا في لاوعي أمي بعد ولادتنا. إن الذاكرة خؤونة ولا ترتّب الأشياء دوما ترتيبا صحيحا. لا أعلم، على أية حال، لماذا تغيرت أسماؤنا من طالب وغالب إلى راشد وعبدالله!

ومع أن قلة عرفوا راشد شخصيا، لكن جميع أهالي بلدتنا كانوا يعرفون أن لي أخا توأما راحلا. أتحدث هنا عن أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، عندما كان الناس يعرفون بعضهم عن كثب، وكانت القرية كأنها بيت واحد كبير. أن أكون جزءا من أخوين توأم عنى هذا شيئا خاصا للقرية وطقوسها. كان ثمة اعتقاد أن التوائم لديهم بَرَكة خاصة، لذا كنتُ مطلوبا بشكل متكرر في طقسين، ولكني كنت قلما ألبي الدعوة. الطقس الأول هو التبول في فنجان بغرض استخدام بولي في علاج العيون المصابة بالرمد أو بمرض آخر. لقد طُلِبت -وأنا طفل- لأفعل هذا أكثر من مرة، واليوم أشعر ببعض الرثاء لمن تسبب بولي في حرقانٍ بعيونهم، وآمل أنه لم يتسبب بمضاعفات أخرى أكبر. الطقس الثاني هو طقس (المغبار)، وهو طقس لمعرفة سبب (الضر)، أي الضرر، الذي أدى لمرضِ شخصٍ ما. لا أتذكر الكثير من مشاركاتي في هذا الطقس. لابد أن عمري كان أقل من ثمانية أعوام. كان يتم إشعال نار عليها طنجرة بها ماء مغلي، ثم يُصب الرصاص المغلي فيها، أو ربما كانت الطنجرة للرصاص المغلي وبجوارها ماء بارد. لا أتذكر بالضبط، لكن ما أتذكره أن الرصاص الُمذاب يُسكب على الماء فيتشكل على هيئةٍ ما فور تجمده. هنا كنا نغني أهزوجة هدفها مساعدة الرصاص على التشكل. لا أذكر منها سوى جملة "كان طويرة تصوّري" (أي إذا كان سببَ الضر طائرٌ فلتتشكل أيها الرصاص على هيئته). كنا نردد أسماء مخلوقات وجمادات عديدة، ثم يقرر (الباصر) نوعية الهيئة التي تشكّل عليها الرصاص، وبذا يكتشفون سبب الضر الذي أدى لمرض الشخص الذي كان يقام المغبار طلبا لمعرفة سبب علته. بعدها يتم إقرار نوعية القربان المطلوب لرفع الضر، والذي يكون غالبا ذبح ديك ووضع بعض التمر في مكانٍ ما. كان التوائم مفضلين في الغناء في طقس المغبار، بسبب فكرة البَرَكة النابعة بدورها من الاعتقاد بوجود "نقاء" خاص يسري في أرواح التوائم. لقد كنت أكره طقوس المغبار كما كنت أكره التبول في فنجان، وكنت أتهرب دوما من أدائها رغم كثرة الطلب على خدماتي في أوساط أهالي البلدة.

هل عنى لي أن أكون توأما شيئا خاصا؟ مؤكد أنه عنى شيئا للبلدة وطقوس حياتها، وربما لوالديّ. بل عنى أيضا شيئا لخالتي التي كان لديها رضيع في نفس عمري أنا وأخي التوأم، وكانت تساهم مع أمي في إرضاعنا (إذن هنا شخص آخر يتذكر راشد إضافة لأمي). لقد رضعتُ من سيدتين، وما زلت أتساءل هل هذا في لاوعيي هو سر ولعي البالغ بالنهود وافتتاني الدائم بها؟ على أية حال، لا أظن أن كوني توأما قد عنى لي الكثير على صعيدي النفسي. الشيء الوحيد الذي أذكره هو الإحساس بنوع من الامتعاض الخفيف عندما تجيء أمي على سيرة أخي الراحل –على فترات متباعدة-. سبب الامتعاض أنها تكرر في كل مرة ما معناه أنه كان أكثر وسامة وعيونه أجمل. أو بالأدق، كان وسيما وأنا الزوج القبيح! مؤكد أن هذا ليس له أثر موعىً به في روتين حياتي اليومية، وأستبعد أنه يمثل شيئا عميقا لي في اللاشعور.

توفي توأمي بحمى شديدة وكان قد أكمل حوله الأول منذ بضعة أيام. مر رجل واقترح على أمي دواءً سيفيد في خفض الحمى. أعطاها فنجانا به ويسكي! سقته للطفل، فأمي لم تكن تعرف الويسكي ولا أعرف من أخبرهم لاحقا أن ذلك الدواء ما كان سوى خمرا محرّما. لن أزعم أن هذا سبب وفاة توأمي، فأمراض ذلك الزمن كانت كثيرة، وكان شائعا أن يموت الطفل قبل إكمال عامين. لكني أنتقم لك يا راشد من كل كحول العالم! هل كان الرجل متخابثا وقصد إلحاق الضرر بالطفل، أم كان حَسَن النية مؤمنا أن الويسكي علاج للحمى؟ لن أعرف الإجابة يوما لأنني لا أسعى لذلك. أنا لا أعرف أصلا من هو هذا الرجل ولا أعرف إذا ما كان ما يزال على قيد الحياة. إنها حادثة وقعت عام 1974 وسمعتها من أخي الأكبر الراحل، الذي لا شك أنه سمعها بدوره من والدي أو والدتي.

مرة في حدود عام 1996، كنتُ أعمل مدققا لغويا في صحيفة الشبيبة، وكان هناك رسّام صفحات من صعيد مصر. ذات جلسة، هكذا وبدون مقدمات، نظر إليّ وقال: "انته شِق توم". نطقها بصعيديته، قالبا القاف إلى جيم. ويعني كلامه "أنت أحد زوجَيْ توأم". اندهشت لهذا التصريح الفجائي منه. هذه معلومة لم يعرفها أحد حولنا ولم تكن هناك مناسبة لأحكيها. سألته بسرعة: "كيف عرفت؟". أجاب بما معناه أنه شعر بهذا بالحدس. بالحدس وحده. أتاه حدس فجائي بهذا الأمر! لا زلت أجد هذا غريبا، فهل هناك حقا إشارات يبعثها التوأم أنه تشارك بطنا واحدة مع إنسان آخر؟ أنا لا اصدق كل ما يقال عن التواصل الروحي بين التوائم، وأنهم يشعرون ببعض عن بُعد، عبر نوع من التخاطر الغريب. هذا بالنسبة لي محض هراء، واعتبرته دوما نوعا من الخرافات والخيالات. لكن من أين أتت لهذا الصعيدي فكرة أنني توأم؟ حسنا، في الحياة دوما ثمة أشياء غير مفسّرة. وعلى أية حال فقصة حدس أحدهم أنني "شِق توم" لا تعني لي سوى غرابة الموقف—لا أكثر.
كان لدينا جيران لديهم ابنان توأم. كان النظر إلى التوائم فيه شيء من الطرافة. إنها يتسببان في اللبس. وأحيانا أفكر من باب الدعابة أنه لو كان أخي راشد حيا وصار كبيرا، لربما أضفنا إلى هذه المدينة بعض المرح عبر اللخبطة التي كنا سنخلقها في أوساط أصدقائنا. تخيل أن يلتقيك أحدهم –في الحانة مثلا- ويكون غير واثق هل أنت ذاك الشخص الذي كان يبوح له بأسراره البارحة أم أنه الآن أمام شخص آخر. كان هذا سيجعل حياتي أكثر مرحا. لكن مهلا، لم نكن توأما متطابقا. كان أحدنا أكثر وسامة وبعيون أجمل. ولا أدري أكان الوسيم هو الأكثر سمرة أما أنا البدين. لكني كنت الأكبر حجما حتى منذ أن كان عمري عاما. تبا، حتى لو كان راشد حيا ما كنا سننجح في خلق المرح في محيط حياتنا اليومية. كان الأصدقاء سيميزون بيننا بسهولة لأننا لسنا متشابهَين.

منذ متى لم ألتقِ بأي توائم؟ منذ زمن طويل حقا. فعلا منذ أكثر من عشرين عاما. أظن أن عدد التوائم كان أكبر فيما مضى لسببٍ ما. أتذكر عدة توائم في بلدتنا، لكن هنا في مسقط لم يسبق لي الالتقاء بتوأم سوى أخوين لا أعرفهما معرفة شخصية، لكنهما يترددان على الأماكن التي تستضيف حفلات رقصة (السالسا). أمم، سيكون جيدا لو التقى المرء بفتاتين توأم. هنا قد تكون المتعة الحقيقية😜.

*كُتبت هذه المادة بناء على مقترح من الصديقة الكاتبة هدى حمد لتقديم شهادة عن ماذا يعني لي أن أكون توأما.


10 January 2018

شغفُ تاكو مساء الأربعاء: هواجسُ ليلةٍ شتوية

شغفُ تاكو مساء الأربعاء!


كان ثمة كلامٌ مُحْكَمٌ في رأسي، لكنه تبخر! كانت أفكارٌ تكتب نفسها في دماغي وأنا أقود السيارة. أتراني تأخرتُ على تدوينها؟

ربما أردتُ أن أتحدث عن لماذا حذفتُ الواتساب من هاتفي مؤخرا. إذا كان هذا هو الموضوع، فإنه بسيط. لقد حذفته لأن التفاهة التي تصل من خلاله قد تجاوزت الحد. ولأنه يذكّرني في كل مرة كم أنّ غالبية أبناء هذا الشعب مثيرون للرثاء بسذاجتهم في تصديق أي شيء، وغياب العقل الناقد عنهم، وتجذّر الجهل فيهم، وهي حقائق يسرني أكثر أن أتغاضى عنها وأن أتناساها. إضافة لكل ذلك، فأنا لستُ على استعداد للتواصل مجانا مع من أثبتوا أنهم يستخسرون إنفاق عشر بيسات في رسالة نصية يسألون فيها عن صحتي. هذا ما حدث عندما حذفتُ الواتساب: حذف الكثيرون أنفسهم عن التواصل! ما أرخص الإنسان عندما لا يساوي عند أصدقائه عشر بيسات.

لقد كنت أفكر (هئنذا أتذكر الآن) أنني فاقد للاستمتاع بشيء في الحياة. ليس لديّ حماس لإنجاز أي شيء أو الاهتمام بشأنٍ ما أو التواصل مع أحد. لكنني مع ذلك ما زلت أحب الحياة. إني أستغرب حقا من نفسي كيف أحب حياةً لا أجد فيها ما يُمتِعني! مهلا، ثمة ما أمتعني في الشهر الأخير. إنها وجبات التاكو التي تعرفتُ عليها عبر بوفيه مساء الأربعاء بأحد الفنادق الذي زرته صدفة. على أية حال فأنا لا أستطيع دفع قيمة بوفيه كامل لأجل قطعتيّ تاكو بالروبيان!

لستُ جيدا لا في التواصل الاجتماعي ولا في التواصل في العالم الافتراضي (عبر برامج السوشيال ميديا). إنني أفضّل التواصل بالبريد الإلكتروني أكثر عن أية وسيلةِ تواصلٍ أخرى (لولا أن بُطئي في الطباعة يُكرّهني في الأمر). أكره الحديث بالهاتف، وأفضّل التواصل مع الماكينات عن التواصل مع البشر.

لم أُتقِن شيئا يوما كما ينبغي. لا الإخراج ولا النقد ولا كتابة القصة ولا المقالة ولا المسرحية، ولا حتى إمتاع امرأة كما أشتهي (تبا لسرعة القذف). جرّبتُ من كل بستان زهرة—حتى أن أكون جناينيّا أزرع الطماطم والفلفل. لم أتقن إعداد طبخة واحدة، ولا برعت في استخدام الحاسب الآلي رغم تأليفي لكتاب عن أساسياته. والحق يقال أنني برعتُ في عبّ الجعة باستمتاع كبير قلّ نظيره على مدار سنوات وسنوات، لكن جسمي كافأني بالسكري تحية لهذا الشغف!

ربما لستُ سيّئا كأب لطفلتي الوحيدة، ولكن ليس في هذا سلوى كافية. حتى السفر الذي تمنيته، لا أستطيع إتيانه لضيق ذات اليد، وإذا فعلته فإنني دوما بلا رفيق (عدا عن استثناء لمرة واحدة). والصديقُ قبل الطريق، كما يقولون!

أأنا خذلتُ حسناواتي أم هنّ خذلنني؟ أأنا لم أعد أستمتع بالأفلام أم لم يعد هناك سينما جيدة؟ منذ متى لم أتعلم شيئا جديدا؟ منذ متى لم أكمل قراءة كتاب؟—وإذا فعلتُ فإنه لا يمنحني المتعة التي أبتغيها!

كنتُ مع مطلع كل عام ميلادي أسطّر حقيبةَ أحلامٍ أتمنى تحقيقها. لم أكن أحقق منها الكثير. لكنني منذ عامين لم أضع حتى رؤوس أقلام بشيء أريده. لم يعد لدي رغبة سوى في سير الأمور كما هي عليه. لم يعد لدي سوى حلم واحد، لكنني لا أعمل لتحقيقه. هو أن أتقاعد. لكن بديوني هذه فأنا مربوط بالوظيفة حتى يطردني منها يوما مديرٌ حديثُ التعيين في نصف عمري!

إنني لا أأسف على أي شيء فعلته أو لم أفعله، وهذه هي كارثة حياتي. كل الأمور متساوية عندي. المهم أن يمر الوقت بسرعة. الشيء الوحيد، الوحيد ربما، الذي أتمناه في هذا العمر، هو لو أنني لم أكن مصابا بالسكري. إنه مَخْزَنٌ كبيرٌ للشرور. مستودَعٌ للدمار. يدس أنيابه بخفاء في كل مفاصل الحياة فيدمرها بصمت. ولكن ماذا كان سيحدث لو أنني غير مصاب بالسكري؟ ماذا كنت سأكسب؟ حسنا، لا شيء، سوى المزيد من الطعام والجعة بلا قلق أو مخاوف! (وهل هذا بالشيء اليسير؟!)

أأريد شيئا حقا؟ أجل بالطبع. أريد أن تقول ابنتي ذات يومٍ -وأنا ببطن التراب أو ما زلت على سطح الأرض- أنه كان لديها أفضل أب في العالم. أريد أن أسافر وأستمتع. أن أعيش بلا قلق الديون. أن أشاهد فيلما يأسرني ويجعلني أرتعش. أن أشرب كأسي بلا قلق من سرطان قد ينجمُ عنه! حسنا، أريد أن يكون الشغف متجددا، بحيث يكون هناك بين الفترة والأخرى تاكو جديد أعشقه. لا عن التاكو أتحدث، ولكن عن شيء أشغف به كما يشغفني حاليا تاكو بوفيه مساء الأربعاء.

"ونحنُ نحبُ الحياةَ
إذا ما استطعنا إليها سبيلا".*



*محمود درويش