25 January 2016

معاركُ رجلٍ في الأربعين

معاركُ رجلٍ في الأربعين

 (1)
للأربعين معاركها. للأربعين الكثير من المعارك الجارية. بعضها محمول على الأكتاف منذ سنوات أسبق، وبعضها قيد الوقوع. منها ما سيخبو خلال فترة بسيطة، ومنها ما سينتقل لسنين العمر القادمة.



(2)
يفكر في نفسه أن الأربعين قد جلبت له بعض الراحة. لقد أصبح أقل قلقا إزاء بعض الأمور. أبسطها أنه قد قضى أكثر من 15 عاما موظفا حكوميا، وقد وصل راتبه إلى مستوى مقبول (قياسا بما بدأ به). سلفية بيته قد مضى نصفها. ويبدو أنه و زوجته قادران على إكمال الدرب (رغم صراعاتهما المتكررة). أطفاله الثلاثة يملؤون حياته (ولكن يزعجه إصرار زوجته على ضرورة مجيء الرابع). لا يبدو أن تهديدا كبيرا يتربص بخط حياته العام. ثم يتدارك ويسأل نفسه: ماذا عن الصحة؟!
لا يتذكر أيهما حدث أولا، ضعف البصر أم إصابته بالسكري. عالج الأول بالنظارة لرؤية الأشياء البعيدة، فإذا الأشياء القريبة تصبح هي العلة. صار يبدّل بين نظارتين. اشترى مرة نظارة فيها القريب والبعيد، علاجان في واحد كما زعم له المحل الذي أخذ 350 ريالا لقطعة من الزجاج. ارتداها فأصبح البعيد ضبابا وأمسى القريب دخانا. قالوا له ستتعود عليها، لكن ذلك لم يحدث. فعاد إلى مسألة النظارتين وأخذ يفكر: ليتني قرأتُ أكثر عندما كان نظري أفضل.
فكّر في جراحات الليزر الحديثة، لكن شيئا ما فيه يجعله يخاف خوض أية جراحة. لماذا عندما يكبر المرء يرفض الجِرَاحات ويختار التعايش مع المرض؟ هناك من ماتوا بالسرطان وسواه لأنهم رفضوا إجراء الجراحة. هناك رجل عجوز يعرفه أصيب بالعمى الكامل لأنه رفض جراحة صغيرة لعينيه قائلا: "بو باقللي ذا النظر. إنْ خاسوه موه هيبقالي؟". أما السكري فلا يبدو بالنسبة له أنه أسهل  من أزمة جراحة الليزر. على العكس من ذلك، فهو يدرك أن الحل بسيط: المشي وتنظيم الغذاء. ولكن من ذا يقول أن هذا بسيط؟ هذا يعني باختصارٍ الكثيرَ من التغيير في نمط الحياة، وهل التغيير سهل لرجل في الأربعين؟

(3)
عندما يسأله الرفاق عن رأيه في الزواج، اعتاد أن يقول: "60 بالمئة إيجابي و 40 بالمئة سلبي". الآن صار يقول: "شرٌّ لابد منه". منذ متى حدث هذا التحول؟ ولماذا؟
هو موقن أنه و زوجته سيكملان الدرب. امممم، يقول ذلك لنفسه في أوقات السلام العائلي (وما أندرها)، أما في أوقات الشدة، فقد فكر في الطلاق ما لا يقل عن ست مرات بجدية تامة. ما مشكلته مع زوجته؟ هي مشكلة جميع الرجال، لا شيء خاصا أبدا. "النساء يحببن المشاكل. يتلذذن باختلاقها. يحببن أن يرين حياتك كسيحة معطلة لأسباب مجهولة، وحين ينجحن في ذلك ويعطلن حياتك يتهمنك بأنك عديم النفع!"، هكذا يقول. هو يعرف أنها ليست مقولته الخاصة به، فخلفان و علي وسعيد وسليمان وسويلم راعي الفرصادة يقولون نفس الشيء. خلفان يقول له: "طنّش تعش تنتعش". أما سعيد فيفكر في الزوجة الثانية وينصح صديقه بها، ويقول "الحرمة ما شي يأدبها غير حرمة غير". لكن ذلك لا يبدو مقنعا له، فالمتأدب الحقيقي "اللي ماشي على عجين ما يلخبطوش" هو الزوج. إنه الزوج دائما. هو متأدب بوجود زوجة واحدة، فماذا سيحل به لو جاءت "كارثة" ثانية؟ لا شك أنه سينفجر لفرط الأدب! هكذا يرد على سعيد، ويردد له مثلا سمعه منذ سنوات في فيلم مصري: "قل لا تتزوج اثنينِ. أنا من وحدة طِلْعِتْ عيني". في الحقيقة، لا تستعصي فكرة على فهمه أكثر من فكرة أن زوجا منكوبا بسبب زوجته ومع ذلك يقرر الزواج بامرأة ثانية! لا يبدو له أن في الأمر شيئا من المنطق، فكيف تعالج جرحك بنفس النصل الذي أدماك؟ لكنهم يفعلون هذا كثيرا في هذا البلد، فهل ينجح العلاج؟
نصحه سويلم راعي الفرصادة أن يعيد قراءة كتاب (الرجال من المريخ.. النساء من الزهرة)، فهو –على الأقل- حلٌّ أرخص تكلفة، لكنه أصبح موقنا أن حلول هذا الكتاب ونظيراته مثالية، وأنّ قراءة الكتاب لا معنى لها إن لم يقرأ الطرف الآخر الكتاب أيضا ويتناقشان فيه. هل يمكن أن يكون حل مشكلة أزلية عامة شديد البساطة بهذا الشكل، ومتوفرا هكذا؟ ربما عليهما أن يجربا ذلك!
مرة قال لزوجته: "كنا سنصبح صديقين رائعين لو لم نكن أزواجا". هل المشكلة، إذن، في الزواج وليست فيهما؟ وهل لهذه المشكلة حل في مجتمع لا يعرف إلا الزواج صيغةً معترفا بها للعلاقة بين رجل و امرأة؟

(4)
نعم قد ارتفع راتبه عما كان عليه في بداية مشوار حياته الوظيفية، لكن أوجه إنفاقه قد ارتفعت أيضا، وأصبح مسؤولا عن آخرين. لا عن نفسه فحسب.
عشر سنين تبقت على قسط البيت. إذن هي عشر سنين قبل التقاعد. هو لم يعد يطيق عبودية الوظيفة، ولم يدّخر في حياته قرشا أبيض ليعينه في يومه الأسود. وها قد حل اليوم الأسود. لن تكون هناك أعوام أسوأ من هذه السنة والتي تليها. إنه انهيار عام. سيتضرر فيه مثلما سيتضرر جميع البسطاء. خطة التقاعد التي كان يفكر فيها قبل عام أصبحت ضربا من الخيال. كان يفكر أنه اذا تقاعد فسوف يؤسس عملا آخر يعزز دخله، ولكن ها هي الأعمال تتهاوى من حوله، والانهيار مرئي على مد البصر.
أتراه يخادع نفسه عندما يقول أن الأربعين قد جلبت له بعض الراحة و الطمأنينة؟ تبدو له الصورة هكذا من الخارج أحيانا، لكنه عندما يفتت التفاصيل يجد أن السوس ينخر كل شيء. الصحة والمال والحياة الشخصية والمستقبل الآمن. ومع ذلك، يحتاج إلى طمأنة نفسه، ويثق أنه ما يزال قادرا على أنْ يُحِبَ و أنْ يُحَب، وهذا تقريبا يكفيه.
(5)
أما معركته الكبرى فهي أنه لا يكف عن السؤال: هل كان مسار حياتي خاطئا على طول الخط؟ لو استطعتُ العودة للوراء، أكنتُ سأسلك شبرا واحدا في نفس هذا الدرب؟
كم من معارك سأحمل معي للباقي من العمر؟ ولكن، ما الحياة أصلا إذا خلت من كل تحدٍ؟ ما الحياة بلا معارك؟

20 January 2016

شجرةٌ وحيدةٌ عندَ النبع

 إلى مُنى




أريدُ أن ألتقيكِ اليومَ
لساعتينِ أو ثلاثا.

كم أتمناه لقاءً في مكانٍ ليسَ بالعامِ ولا بالخاص
ربما تحت شجرةٍ معزولةٍ على ضفةِ غَيْلِ ماءٍ يجري
أو
على ظلِّ سدرةِ نبقٍ تطلُ مباشرةً على البحر.

ننطرح متعانقَين.
يدي تطوقك.
ولا نتبادل الكلامَ.. لكنّ "بحيرةَ البجعِ" ترفرفُ حولَنا.

نصغي لموسيقى أرواحِنا
ولا نشعر بأسى
أنّ هذا سيكونُ عناقَنا الأخير.

12 January 2016

اشتهاءُ ملاك


اشتهاءُ ملاك





أيّ انتصابٍ عظيمٍ مستديمٍ مرهِق
كان سيفتك بجسدي و يُفنيني
لو كنتِ أنتِ خليلتي وساكنة مأواي و عريني -مثلما تسكنين رأسي-
يا أيها الملاك الكاعب!

سأجازف.. و أضيفك!



سأجازف.. و أضيفك أيتها الفتاة المجهولة.
ستكونين ضمن قائمة أصدقائي.
لا شيء أعرفه عنك بعد (بل لستُ متأكدا أنك فتاة أصلا، لكن حدسي لم يخطئ يوما في شم عبير الأنثى ولو من خلف زنزانة القناع والفزع).
سأضيفك لأن صورة بروفايلك أعجبتني، وأنا أعرف أنها ليست صورتك الحقيقية، فأنتِ على الأرض لستِ باقة ورد أو لوحة لامرأة دامعة العينين من عصر النهضة، ولا حتى وجهَ موديلٍ محسّنة بالفوتوشوب. ولكن سأضيفك لأن صورتك التي اخترتيها ليست قناعا، بل هي القناع-الضد.
سأضيفك لا لأن عدد الأصدقاء المشتركين كبير بيننا (في الحقيقة يزداد قلقي كلما كان بيننا أصدقاء مشتركين كُثُر).
سأضيفك أيتها الصديقة الجديدة المحتمَلة، لأن فكرة أنه (لا شيء أعرفه عنك بعد) تغريني. ولأن كل أنثى هي قصيدة، أو شيء يبدو كقنبلة، ولكن اذا انفجرت فقد تتطاير منها الزهور أو رزاذ العطر. كل أنثى هي وردة شائكة، يجعلنا حزنها ألطف، وإذا بكينا يوما معا -ولو عبر اتصال هاتفي، كما حدث لي مؤخرا، وكما حدث من قبل، وكما سيحدث دائما- فإن ذلك يجعل روحي أخف، و أنفاسي أجمل.
سأجازف.. وأضيفك أيتها الفتاة المجهولة.
ستكونين ضمن قائمة أصدقائي. لأننا حتما سنكون سعداء معا. سنسعد بدمعة مشتركة، وبعناق افتراضي آخر الليل، بعد أن يسكب كلا منا دموعه على وسادة خالية.

10 January 2016

عاشقُ الضحى في الهواء الطلق

يوميات رجل سعيد

أنت تؤمن أنك سعيد، إذن فليسعدك الرب أكثر وأكثر.
تستيقظ على لذعة برد خفيفة من النوع الذي تحبه. النوع المحفّز لا المثبّط. النوع الذي تريد لأجله أن تنهض من السرير، لا أن تتدثر باللحاف أكثر وتستغرق أطولَ مختبئا تحته. تحفزك زاوية صغيرة مفتوحة بالمنزل كي تهرع إليها لتشم هواء نقيا عذبا، هواءً لطيفا. وتفكر، "كم ستكون حياتي أجمل بعد بضع سنوات من الآن عندما أتقاعد، فيكون لدي المجال لأستمتع بصباحاتي بالطريقة التي أريد".


هذه الأيام أنت تعيش عينة مبكرة لمستقبلك كمتقاعد، فأنت في إجازة سنوية. لا تشعر بالفراغ مطلقا، إذ لا يخلو يومك من مشاوير وارتباطات لتنجزها، بل إنك تشعر أحيانا أن الأربعة والعشرين ساعة ليست كافية لما تود القيام به. مشاوير للبيت والعائلة ولنفسك ومع الأصدقاء. ووقت للكتابة والقراءة، والبحث عن فرص تنفيذ أعمال خارجية متقطعة تزوّد بها دخلك لتنفق بسخاء على ملذات حياتك—وليس على الأساسيات. لم تعد قلقا بخصوص الأساسيات مثلما كنتَ وأنت في العشرينيات من عمرك. لديك الكثير مما يمكن أن تبدأ به صباحا بهيا، إذ يمكن لك الذهاب لمقهى مفتوح لتجرب شايا عطريا. أو تبدأ يومك بكتابة مقالة وجدانية لمدونتك أو استكمال قراءة رواية جيدة كنتَ بدأتَ بها البارحة. أو مشاهدة فيلم خلاق من ثمار السينما اليانعة الشهية التي تبدعها أنبل عقول البشرية من الرائين. كما أنه  لديك (سنابتشات) يمكن أن تبدأ به صباحك. تطبيقٌ لا تمل من التلصص فيه على حيوات بشر من مختلف البلدان واللغات أذنوا لك بمتابعة وقائع أيامهم، ومعظم ما يبثونه لحظات بهيجة مملوءة بالمرح و الغشمرة. بل لديك –في سِنابِك- حتى فاطمة النبهانية، لاعبة التنس الدولية التي تعتبرها بطلةً شخصيةً لك منذ ما قبل حملتها ضد أكياس البلاستيك، هذه الحملة التي جعلَتها أعلى شأنا في نظرك لأنها جاءت في وقت لا يعير فيه الكثيرون أي شأن للقضايا البيئية. كم كانت فاطمةٌ بعيدة، والآن هي في سنابتشات الخاص بك وترى يوميا طلتها الحلوة وابتسامتها الساحرة وتسريحة شعرها المتموج التي تدعو ربك ألا تغيّرها في يوم من الأيام، فهي علامتها الجمالية الخاصة وماركتها المسجلة. ألا يكفيك قُربُ النبهانية (الموجودة على راحة يدك) –يا عاشق الضحى في الهواء الطلق- لتكون سعيدا؟ فديتك أيها الحالم المتواضع!
* * *
تجلس لتخطط للقاء يجمع الرفاق، ليتعارفوا، ليتحابوا، ليتعاضدوا ضد قسوة الحياة. حياتك لا معنى لها دون أن يكون أحبابك حولك. لا تحتاج سوى لبضعة اتصالات لتدعوهم ليلتقوا، ثم الكثير من الصلاة لتسمح ظروفهم باللقاء. تعلم أنهم سيستمتعون معا، وستستمتع بوجودك بينهم. وبينما أنت تفكر فيهم يباغتك أحدهم برسالة ليدعوك بـ "يا أطيب قلب". تبتهج بالطبع، وتدرك أنه عليك أن تصلي في هذه اللحظة بالذات حتى لا يعتذر أحد عن اللقاء.
هناك تحضُرُ الضحكاتُ والموسيقى، ويأتي البوح الحميم. ولن تكون الرؤوس مشغولة بالتفكير في أزمة هبوط أسعار النفط وخطط التقشف التي –حتما- ستطال الجميع. لن يكون أحد معنيا بعالم الجشعين وصراعاتهم، فذاك ليس الوقت المناسب ليتذكر فيه الضحايا أنهم ضحايا. إنه الوقت الأنسب ليعلو فيه الطيبون على فكرة الظلم. ليصعدوا بأرواحهم إلى سماوات توحدهم جميعا كبشر نبلاء أطيابا خيّرين ولا شيء آخر. قد يأتون في الحديث على ذكر بعضٍ مما يزعجهم أو يؤرقهم. هذا طبيعي تماما. إنها وسيلة للاستشفاء. لرمي المكابدة جانبا لبعض الوقت، فما إنْ يبوح المرءُ بما يزعجه حتى يصبح قادرا على خطو خطوة للأمام بكاهل أكثر تخففا. لا بأس يا أشقّاء الروح إن جئنا على ذكر ما نقاسيه، فنحن هنا لنتعاضد. ها إني أرى أحدهم سرعان ما يطرح نكتة، أو تدندن فتاة مقطعا من أغنية عاطفية تحبها، أو يتنهد إنسان زافرا ذكرى قديمة يشعر في تلك الحظة، في تلك اللحظة فحسب، أنها باتت أقل إيلاما. ها أني أرانا نضحك، نستخرج الطفل الذي لم يكبر بعد بداخلنا، ونتوجه للطفلة الفعلية الوحيدة –بحسابات العُمر- الموجودة معنا في جلستنا و نكبُر حتى نكون أطفالا مثلها. ها نحن نلاطفها. ها هي تستمتع مثلنا، فهي لا تحظى دوما بكل هذا التجمع من الأرواح الطفولية حولها. ها أننا جميعا في عمر واحد. إننا أطفال الفرح و أبناء اللحظات السعيدة.
* * *
أيتها الأرواح عيشي طفولتك دائما، ولا تكبري أبدا.
الصباحُ طفولةُ اليوم. رضيعُ النورِ البرئ، الحابي نحو الرشاقة والعطاء.
هو الطفل الذي لا يعرف إلا اللعب والاكتشاف.
هو الطفل الذي يعصم الأرواح من التكلس أو التخشب، فيمنحها قبسا من براءته.
أيتها الأرواح كوني دائما طفلة. مشعة بالحياة وعشبُ خطاكِ مُخضَرٌ بالفرح والمحبة.
التقِ يا أرواحُ وقتما تشائين، فلقياكِ صبح. ولتهنأ أنت يا عاشقَ الضحى في الهواء الطلق، حيث لن يعرف يومُك كلُّه سوى جذل الطفولة و كركراتها الصافية.