16 August 2014

عندما تذوي الروح

كُتبت في 27 يونيو 2011. ونُشرت في وقتها في جريدة الرؤية.

عندما تذوي الروح

(1)
"لو كان لي أن أعيد حياتي، لما سلكتُ نفس هذا الدرب". لا توجد فكرة تسيطر عليّ هذه الأيام أكثر من هذه الفكرة. أكان ينبغي أن أصدق "الحداثيين" في أوهامهم فأضيّع أجمل سنوات عمري في دهاليزهم، ولم أخرج إلا بعزلة حزينة والكثير من المعارك والتشوهات؟ كم أكره كل بيت شعري قرأته لكل واحد منهم تقريبا خلال العشرين سنة الماضية؛ لقد جعلوني أوشك أن أكره الشعر. كنتُ حقا سأكره الشعر لولا أني وجدتُ "الشاعرية" في السينما، فأنقذتني من هراء الشعراء!
أكان ينبغي أن أتعرف على الشعراء قبل معرفة علماء الأحياء والأنثروبولوجيا؟ أكان ينبغي أن أتعرف على "قصيدة النثر" قبل أن أتعرف على نظرية النشوء والتطور بعشرين عاما كاملة؟ أكان ينبغي أن أمتلئ بكل هذه الخزعبلات عوضا عن أن أمتلئ بكتابات ريتشارد دوكينز وستيفن هوكينج؟ أكان ينبغي أن أعرف شذرات من نقد الشعر قبل أن أتأصل فكريا بالقراءة في العلوم الطبيعية؟ أكان ينبغي أن ألتقي بمتعاطي الثرثرة الليلية والتنظير في الحداثة بدل أن ألتقي بعشاق العلم والمعرفة في العلوم الطبيعية؟ أكان ينبغي أن أصبح بهذه البدانة الجسدية والترهل الفكري، حيث كل ليلة تموت كتلة من خلايا دماغي متسممة بالعصارة الصفراء في جلسات المنظّرين، عوضا عن أن تشع روحي بالرشاقة منتقلة من كتاب لعالم أنثروبولوجي إلى كتاب آخر لعالم فيزيائي أو فلكي معاصر؟ أكان لابد أن أعرف تشارلز داروِن متأخرا كل هذا الوقت—حين لم يعد البقاء هو الأصلح لي لأنني لم أعد الأصلح للبقاء وتهتُ عن درب الانتخاب الطبيعي للمعرفة العميقة بالكون من حولي؟!

(2)
لو كنتُ أستطيع أن أعيد عقارب الزمن للوراء لاخترت السفر للدراسة في أمريكا فور انتهائي من "الثانوية العامة"، ولوضعتُ إتقان اللغة الإنجليزية –أقرب ما يكون للحديث بها كأهلها- هدفا أولَ لي، وكنتُ درستُ شيئا نافعا في الحاسب الآلي مثلا أو البيئة أو علم الحفريات، أو ربما درستُ الإخراج السينمائي، المهم أي شيء إلا هذه الصحافة التي لم تكن سوى تجربة بليدة في مناخ بليد. لو كنتُ قد أتقنتُ الإنجليزية كأهلها لكنتُ الآن دودةَ قراءة. أقرأ بسلاسة عن كل فيلم سينمائي أشاهده وأحبه، كما أقرأ كتب ريتشارد دوكينز بلغتها الأم فور صدورها، ولكنتُ قد اقتنيت مجلة "ناشيونال جيوجرافيك" عددا عددا وقرأتها كلمة كلمة، ولكنتُ من مُريدي المجلات العلمية، ولكنتُ طرحتُ أسئلة تعنيني على مخرجي السينما الأستراليين –وغير الأستراليين- في المهرجانات السينمائية التي التقيتهم خلالها في أستراليا. لو كنتُ قد تأسستُ علميا في الغرب في سن باكرة، لكانت حياتي اليوم أكثر تنظيما وإنتاجية، ومعرفتي أغزر، بل وحتى صحتي كانت ستكون أفضل، إذ لم يكن أزهى سنوات حياتي سينقضي في مجذمة "تشرشل" الحزينة.

(3)
ماذا سأفعل الليلة خلاف ما أفعله في كل ليلة؟ بمن سألتقي في خريفِ عُمرٍ جنيتُ فيه أصدقاء بأقل من أصابع اليد الواحدة؟ بمن ألتقي حين يعز اللقاء بهم—كعادة الغالبية العظمى من الليالي؟ أي فيلم سأشاهد والروح منطفئة عن فتح نوافذها للجَمال والفن؟ أهي الأُسْرة من يفعل ذلك بالمرء، حينما يقع في فخ الروتين المتكرر والباعث على الكآبة المستديمة؟ أهو الإفلاس المادي والرضوخ تحت وطأة الدَين لعمرٍ كامل قادم حتى يسدد المرء قسط بيته؟ أكان لابد من شراء بيت؟ أما كان أجدر لكل تلك النقود أن تذهب لإنتاج فيلم سينمائي أقول فيه كلمتي لهذا العالم –لِلا أحد تحديدا- ثم أمضي؟ أكان لابد أن يعيش المرء في بلد نصف ما يحبه ممنوع أو مفقود فيها، وألا يرى مستقبلا مطمئنا لشيء من حوله، حيث لا يترعرع هنا بضراوة مخيفة سوى هيمنة المتشددين دينيا—أعداء الحرية والإنسانية والحب والجَمال؟ أكان لابد أن يقضي المرء نصف حياته في وظيفة لا ترتبط بشئ من اهتماماته، وألا يجد فرصة للتعبير عن اهتماماته حتى كهواية أو ممارسة فردية، حين لا يجد كثيرين ليشاركوه ما يحب؟ أكان لزاما على المرء أن يعيش كناسكٍ مجبورٍ على العزلة فيما روحه تضج بحب الحياة والرغبة فيها؟ لماذا كان على الحياة أن تكون حقا في مكان آخر، وأن تكون نبوءة كونديرا صحيحة هذه المرة، خلافا للكثير من شطحات الكتاب وأهل الكلمة؟!

(4)
يا بابلو نيرودا: أشهد أنني لم أَعِش!
يا أيها الفانون السعداء بحياتكم: لو كان لي أن أعيد حياتي لما اخترتُ نفسَ هذا الدرب.

No comments:

Post a Comment

Note: Only a member of this blog may post a comment.