06 September 2014

عن الشخص الذي رافقه سوء الحظ طوال حياته

فيلم: هارفي كرومبيت
Harvie Krumpet

تثير مشاهدة فيلم الأنيميشن القصير هارفي كرومبيت  Harvie Krumpetللمخرج آدم إليوت Adam Eliot التساؤل التالي: ماذا هناك؟ ما الذي يجعل من فيلم التحريك القصير هذا قادرا على الرسوخ برأس من يشاهده ومدوّخا لمدة ساعة بعد مشاهدته؟ ما الذي جعل هذا الفيلم ينال الأوسكار وينتزع إعجاب المشاهدين حول العالم إلى درجة الهوس به؟!


"هارفي كرومبيت" فيلمُ تحريكٍ أو أنيميشن قصير موجه للكبار، مدته (22) دقيقة فقط! ومادته الأساسية هي الصلصال. أي أنه من نوعية أفلام التحريك المصنوعة يدويا بطريقة الـ (ستوب موشن) وليس بالمؤثرات الحاسوبية. وأفلام الصلصال -كما تشير التسمية- يتم صناعتها من مادة الصلصال، وهو عمل يدوي مضنٍ، لكنها تعطي الإحساس بالحقيقيّة لأن الشخصية الفيلمية تكون أصلا ذات ثلاثة أبعاد فعلية.
لنعرف حجم الجهد المبذول في صناعة فيلم "هارفي كرومبيت"، نشير إلى أن الفيلم يتكون من 280 لقطة، وعندما يقوم المرء بتصوير مشهد معين لمخلوقات ومكونات صلصالية، فإنه في كل مرة يأخذ اللقطة من زاوية مختلفة، وهو ما يعني تعديل الديكور العام للمنظر السينمائي وتركيب ملحقات وإكسسوارات جديدة. أي أن تصوير 280 لقطة، -وهو بالمناسبة رقم يقترب من متوسط عدد اللقطات التي يتم أخذها لتصوير فيلم روائي طويل بممثلين بشر مدته حوالي 90 دقيقة-، نقول أنه لأخذ ذلك العدد الكبير من اللقطات فإن الأمر يتطلب بناء وإعادة بناء المناظر السينمائية مئات المرات. لأجل ذلك فقد استغرق إنجاز فيلم "هارفي كرومبيت" نحو عامين ونصف، وذلك منذ عام 2001  لغاية اكتمال عملية المونتاج في منتصف عام 2003. لم يَضِع الجهد الذي بذله المخرج آدم إليوت في فيلم "هارفي كرومبيت" هباءً، فقد جلب الفيلم شهرة عالمية لمخرجه وفاز بنحو 17 جائزة دولية مرموقة أشهرها أوسكار أفضل فيلم تحريك لعام 2004.
* * *

تدور قصة فيلم "هارفي كرومبيت" حول شخصية رجل سيء الحظ، بل لعله واحد من أسوأ الشخصيات حظا التي رافقها سوء الطالع طوال حياته، إلا أن هذا بالطبع لا يعني أن حياته لم يكن فيها شيء من البهجة هنا وهناك. الفيلم إذن يسرد سيرة هارفي كرومبيت من يوم ميلاده إلى شيخوخته، حيث يتركنا الفيلم على ما يبدو  في المرحلة الأخيرة لحياة هارفي كرومبيت وهو مصاب بمرض الزهايمر ويعيش وحيدا في دار للمسنين.
ولد هارفي كرومبيت في بولندا عام 1922، لأبٍ حطاب ورث عنه هارفي خشونة اليدين، وأم تعمل في منجم للمعادن ومصابة بتسمم بسبب زيادة كمية الرصاص في جسمها. ملأ هارفي حياة والديه الفقيرين الكادحين حبورا، إلى أن بدأ في النمو لتظهر عليه عوارض شيء من التخلف العقلي. الصفة الأغرب في الطفل هارفي هي ولعه بلمس أنف كل من يقابلهم. هي حركة لاشعورية يقوم بها إزاء جميع الأشخاص الذين يلتقي بهم للمرة الأولى، وكأن وضع إصبعه على أنف شخص آخر هي وسيلته أو مجسّه الحساس للتعرف على الآخر. سلوكه الغريب وعوارض التخلف العقلي جعلت هارفي منبوذا من بقية الصِبية في مدرسته، حيث كثر ايذاؤهم له ورميهم له بالحجارة. ورغم أن أم هارفي كانت أمية، إلا أنها قررت سحب ولدها من المدرسة وتعليمه كافة "حقائق الحياة" التي تعرفها، علّمته مثلا أن جناحي الفراشة أكبر حجما من جسمها، وغيرها من حقائق الحياة التي كان الفيلم يقدمها للمُشاهِد في قالب مرح ولمّاح في وسط المَشاهد. وما إن بلغ هارفي سن الرشد حتى احترق منزل والديه ووجدا ميتين عاريين ومتجمدين من البرد على دراجتهما الهوائية، وفي تلك الأثناء نشبت الحرب العالمية الثانية وقامت ألمانيا بغزو بولندا، وفجأة وجد هارفي كرومبيت نفسه في سفينة لاجئين متجهة إلى العالم الجديد: أستراليا.
* * *
كآلاف المهاجرين بلا أي دولار في جيبهم، وجد هارفي كرومبيت نفسه في أستراليا في مهن متواضعة جدا: زبالا بين أطنان القمامة قضى هارفي كرومبيت أوائل سنوات حياته في العالم الجديد. وبسبب عادته الغريبة في لمس أنوف الآخرين، فشل هارفي في عقد صداقات مع المحيطين به، بل إنه وبسبب قيامه ذات مرة بلمس أنف أحدهم نال هارفي لكمة قوية أدت إلى كسر في جمجمته. أودع الأطباء صفيحة معدنية بين شقي أعلى جمجمة هارفي للحم الكسر. بعد هذه الحادثة دخلت الكآبة حياة هارفي وأفرط في التدخين وبدأ يشعر بضيق مزمن في التنفس، ولما لم تكن مضار التدخين معروفة في ذلك الوقت فقد ذهب هارفي للطبيبة شاكيا مشكلة ضيق التنفس فما كان منها إلا أن نصحته بالمزيد من التدخين!
بينما كان هارفي يجلس ذات مرة تحت تمثال لأحد فلاسفة اليونان، سمع التمثال يحدثه عن ضرورة الإقدام على الحياة ونبذ الكآبة جانبا والتصرف على سجيته، وهكذا وجد هارفي كرومبيت وكأن شعلة عشق للحياة قد توقدت بداخله. قرر هارفي أن ينتمي للطبيعة، فأصبح من نشطاء تحرير الحيوانات من الأقفاص التي يضعها فيها البشر للتحكم فيها وإجراء التجارب المختبرية المؤلمة عليها. قام هارفي بتحرير الحيوانات وإعادتها للطبيعة، كما انضوى مع جماعة من الطبيعيين الداعين إلى عودة الإنسان عاريا كما كان عليه الحال قبل تعقيدات المدنية المعاصرة. لكن الحظ العاثر ما لبث وأن عانده، إذ فقد في حادث إحدى خصيتيه، كما ضربته صاعقة أصابت قطعة المعدن في وسط جمجمته فنجا من الموت بأعجوبة ونُشرت صورته في الصحف المحلية.
بعد الصاعقة التي ضربته دخل هارفي المستشفى، وهناك اكتشف أن قطعة المعدن المركّبة على سقف جمجمته تعمل كالمغناطيس، إذ بإمكانها جذب المعادن إليها.. وهكذا صار لهارفي خصلة طريفة جديدة تضاف إلى مجموعة طرائف حياته المضحكة المبكية.
في المستشفى تعرف هارفي على ممرضة وقع في حبها وبادلته الحب، وسرعان ما تزوجا ليعيشا في بيت بسيط دافئ بالحب الأسري وبقطتين وببغاء مصاب بمرض تساقط الريش، حيث كانت زوجة هارفي تحيك له كنزة صوفية لتدفئه بها، لكن الببغاء –حتى الببغاء- لم يقع يوما في غرام هارفي بل كان كثيرا ما يسكب فضلاته على رأس هارفي الأصلع!
* * *
فشلت غدة إنتاج هرمون الذكورة الوحيدة التي يملكها هارفي في مساعدته ليكون له أبناء من نسله (وذلك لفقده إحدى خصيتيه في حادث)، فتبنى هو وزوجته طفلة ملأت حياتهما بهجة، وقد حرص هارفي على تعليمها كافة "حقائق الحياة" التي يعرفها ومنها أهمية العودة للطبيعية وتحرير الحيوانات من الأسر وغيرها.
شبت الطفلة ذكية لماحة، وبعد إتمامها المدرسة سافرت للدراسة الجامعية في أمريكا لتكون محامية. وفي عيد ميلاده الخامس والستين توفيت زوجة هارفي كرومبيت فجأة رغم أنها لم يسبق لها أن اشتكت من أي مرض. بعدها عمت الكآبة نفس هارفي وبدأت عليه علامات مرض الزهايمر، حتى انتهى به المطاف في دار للعجزة بعد أن رآه الجيران يحاول سحب النقود من الميكرويف الموجود بمطبخه!
في دار العجزة عاش هارفي كرومبيت حياة لها طبيعتها الخاصة، حيث تبدلت به الأحوال من لحظات مرح ودعابة ومقالب ضاحكة يتسبب فيها لبقية النزلاء حوله، إلى لحظات كآبة لاسيما مع ازدياد حدة مرض الزهايمر. أما بهجته الحقيقية فكانت عندما يتلقى رسالة من ابنته في أمريكا، حيث كان يعيش بانتظار أن تقوم بزيارته، إذ كانت تلك أغلى أمنياته.
ينتهي الفيلم بهارفي كرومبيت في دار المسنين متأرجحا في حياته بين الكآبة تارة والعشق العارم للحياة تارة أخرى، محاولا اعتصار لذّاتها حتى في أحلك الظروف. هي حياة طويلة عشناها مع هارفي كرومبيت في 22 دقيقة فقط. ثلث ساعة تقريبا عشنا فيها حياة كاملة بمرها ومرها وحلوها البسيط، حيث قال فيلم هارفي كرومبيت في تلك الدقائق القصيرة ما لا تستطيع أفلام روائية طويلة أن تقوله أحيانا رغم أنها أطول منه زمنيا بخمسة أو ستة أضعاف!
المزاوجة بين الدعابة والجدية والألم في كيان آسر خصلة اتسم بها فيلم هارفي كرومبيت جعلت مشاهديه يعيشون دقائقه القليلة بلا إطرافة جفن وبحرص على أن لا تفلت منهم تفصيلة واحدة. بين ثنايا مَشاهد الفيلم كانت تقفز للشاشة معلومات طريفة بمثابة حقائق حياتية يتعلمها هارفي في رحلة حياته بالأسلوب الذي ابتدعته والدته حين سحبته من المدرسة وقررت تعليمه بنفسها. أضافت تلك الحقائق أو المعلومات نكهة ساخرة للفيلم وحسا تأمليا له رغم إيقاعه السريع، أما الأداء الصوتي للممثل الأسترالي الشهير جيوفري رَش Geoffery Rush الذي قام بدور السارد فقد منح الفيلم طزاجة وحيوية.
أجمع الكثير من المشاهدين بعد مشاهدتهم لفيلم هارفي كرومبيت، على أن هذه الشخصية الصلصالية قد أضحت قريبة منهم وحميمة إليهم، ولا يجد هؤلاء شكا في أحقية الفيلم في الجوائز الدولية العديدة التي حصدها أينما حل وارتحل.

No comments:

Post a Comment

Note: Only a member of this blog may post a comment.