03 September 2014

الجذور التي قادت إلى إضراب الأطباء

كُتبت بالأصل في 30 يوليو 2008، ونُشرت في وقتها في مجلة الرؤية
المقالة تأتي سابقة بعدة سنوات لخطوة زيادة المخصصات المالية التي تم تدعيم رواتب الأطباء بها، وهي أيضا سابقة على اضرابات الأطباء التي حدثت خلال العامين الماضيين

إجمالا، يمكن أن يرى المرء في المقالة الجذور التي قادت لإضراب الأطباء.. وهو ما لم تره الجهات المختصة في بلادنا في الوقت المناسب


تحديات الخدمات الصحية في السلطنة

تواجه الخدمات الصحية في عُمان تحديات كبيرة يبدو أنها تزداد عاما بعد آخر، في ذات الوقت الذي لا يبدو فيه أن الجهود المبذولة لتحسين هذه الخدمات قادرة على أن تكون حلا جذريا أمام هذه التحديات. ومما استجد في الآونة الأخيرة أن انخفاض سعر الدولار الأمريكي قد ألقى بظلاله سلبا على الخدمات الصحية المحلية مما يضعها أمام تحد جديد هو هجرة الأطباء العمانيين والوافدين إلى الخارج، وهو أمر لو لم يتم إيجاد حل جذري عاجل له فإنه سيؤدي إلى تدهور حاد في الخدمات الصحية المحلية، وسيؤدي إلى تفاقم الأوضاع السيئة وازديادها سوءا على سوء.


مما لا شك فيه أن مستوى الخدمات الصحية المحلية قد تحسن كثيرا في البلاد قياسا بثلاثين عاما مضت. ينعكس هذا التحسن في زيادة نسبة المستشفيات والقضاء على بعض الأمراض التي كانت شائعة، وانخفاض معدل وفيات الأطفال، وارتفاع معدل العمر الافتراضي للسكان. إلا أن هذا التحسن في الخدمات كان منذ الأساس دون مستوى الطموح لبلد لديها موارد اقتصادية جيدة وعدد سكانها محدود للغاية. فلو قسنا هذا التحسن بمستوى الخدمات الطبية المقدمة في بعض البلدان العربية –لكي لا نفكر في الأجنبية تجنبا لأي إحراج- لوجدنا أن ما وصلنا إليه زهيد للغاية. فالمستوصفات الحكومية تعاني من نقص حاد في الأطباء، ويعاني المرضى من ساعات انتظار طويلة لرؤية الطبيب المناوب. أما من يضطره قدره السيئ للتنويم (الترقيد) في المستشفى فإنه قد يقع أسير معاملة غليظة لا إنسانية من حفنة من الممرضات الوافدات يتسمن بالقسوة المفرطة في التعامل مع المريض كما لو أنهن يتعمدن مفاقمة معاناته. أما من كان بحاجة إلى عملية جراحية أو تصوير مقطعي بالرنين المغناطيسي أو غيره، وكذلك من كان بحاجة إلى لقاء طبيب اختصاصي أو استشاري لفحص مرض معين لديه مثل آلام في الظهر، فإن الموعد الذي سيُمنح له للقاء الطبيب يأتي بعد عدة أشهر تمتد أحيانا إلى سنة كاملة. أيّ منطقٍ أن يظل المريض يشتكي الألم مدة عام كامل؟! إن هذا لوحده مؤشر على أن مستوى الخدمات الصحية المقدم في البلاد يقف كليا دون ملامسة مستوى الطموح الذي يتمناه المواطن. باختصار شديد: إن الخدمات الصحية المحلية ترقد منذ سنوات في غرفة الإنعاش، وقد جاءت مؤخرا أزمة هبوط قيمة الدولار الأمريكي لتكون الضربة القاضية التي وضعت هذه الخدمات في حالة موت سريري، والمطلوب إنقاذ عاجل وجذري قبل أن يفوت الأوان الذي بدأ يفوت بالفعل.

أدى ضعف الخدمات الصحية المحلية إلى فقدان المواطن العماني للثقة في ما يقدّم محليا من خدمات، وأصبحت الهند وتايلند وإيران ودبي البدائل الأربعة الأولى أمام المواطن العماني للعلاج. إن من يركب الطيران التايلندي في رحلة متجهة إلى بانكوك فسوف يفاجأ بامتلاء الطائرة عن بكرة أبيها بعائلات عمانية متجهة بكاملها للعلاج في الخارج. وكل طائرة متجهة للهند تضم هي الأخرى قرابة خمس عائلات عمانية مسافرة للعلاج. إن هذا دليل قاطع على يأس المواطن من الخدمات الصحية المحلية، وهو يأس يعود إلى عدة أسباب منها طول فترة الانتظار لتلقي العلاج، وشيوع الأخطاء الطبية الفادحة دون رقيب أو حسيب للطبيب المخطئ، فضلا عن تخلف هذه الخدمات الطبية نفسها ووقوفها عاجزة عن فعل شيء لمعالجة الأمراض التي يعاني منها الناس، وكذلك ملل الناس من حبوب الأدول التي يتلقونها كعلاج جاهز مهما كان المرض الذي يعانون منه!

بقدر ما يعاني المريض العماني (والمقيم) من الوضع المتردي للخدمات الصحية المحلية، فإن الطبيب نفسه يعاني معاناة لا تقل هوادة. ففي المستشفيات الحكومية يناوب الأطباء عددا هائلا من الساعات غير مدفوعة الأجر. إذ يحدث أن يناوب طبيب مدة ليلتين متواصلتين أسبوعيا بلا أجر إضافي وذلك إضافة إلى دوامه الاعتيادي اليومي. وما أكثر ما سمعنا عن طبيبة عمانية أغمي عليها في غرفة العمليات بسبب الإعياء الذي هي فيه، وكذلك سمعنا كثيرا دفاعا من ألسنة أطباء يدافعون فيه عن أخطائهم الطبية قائلين إن نظام المناوبات المرهق المفروض عليهم من قبل وزارة الصحة لا يمكن أن يؤدي لشيء بالأساس سوى حدوث الأخطاء الطبية! إلا أن العجيب هو أن نسمع زعما من مسؤول رفيع بوزارة الصحة يفيد بأن ساعات مناوبات الأطباء العمانيين هي وفق للمعايير الدولية. ولم يكلف هذا المسؤول نفسه بتسمية اسم دولة واحدة في العالم ترهق أطباءها بشكل يعرض المريض للخطر ودونما زيادة ريال واحد في راتب الطبيب أو وجود أي نظام للعمل الإضافي (أوفر-تايم). أما الأطباء الوافدون فقد بدأت هجرتهم المتسارعة للبلاد منذ نحو عامين وذلك منذ ارتفاع إيجارات السكن وانخفاض قيمة الدولار الأمريكي. فنظرا لكون المبلغ الذي يتقاضاه الطبيب الوافد لم يعد يساوي الكثير بسبب انخفاض قيمة الدولار الأمريكي، ونظرا لوجود مغريات أفضل للمرتبات في دول الجوار، وكذلك نظرا للارتفاع الخيالي الذي حدث لإيجارات السكن في مسقط خلال العامين الماضيين، فإن كل هذا قد أدى إلى عدم استفادة الطبيب الوافد استفادة مادية مجزية من العمل في السلطنة، فراتبه المحدود يذهب لإيجار السكن، ولذا فقد بدأت موجة الهجرة الجماعية للأطباء الوافدين من السلطنة. ولما كان الأطباء الوافدون يشكلون الغالبية العظمى من عدد الأطباء في البلاد في مختلف التخصصات الطبية، فإن هجرتهم تحمل إنذارا خطيرا بدخول النظام الصحي العماني منعطف الخطورة البالغة التي قد تؤدي إلى تقويضه بالكامل خلال سنوات معدودات. لقد سمعنا عن مداولات تدور بين وزارة الصحة ووزارة الخدمة المدنية لإيجاد حل لهذه المشكلة يتمثل في زيادة مرتبات الأطباء الوافدين، إلا أنه لم يتم إقرار شيء بعد وقد لا يتم إقرار شيء إلا بعد خراب مالطة، ولذا فإن تدخلا عاجلا من كل من مجلس الشورى ومجلس الوزراء الموقر مطلوب فورا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. على أية حال فإن الأطباء الوافدين ليسوا وحدهم من يهجرون البلد، فالأطباء العمانيون هم أيضا يغادرون إلى قطر ودول أخرى سعيا نحو فرصة عيش أفضل. إلا أنه إذا كنا قادرين على القول أن هجرة الأطباء العمانيين تعتبر حالات فردية (وإن كانت كل حالة فردية تؤثر كثيرا على الخدمات الصحية نظرا لقلة عدد الأطباء العمانيين)، إلا أن هجرة الأطباء الوافدين ليست أبدا حالات فردية، لكنها حالات جماعية في جميع مناطق وولايات السلطنة.

لأجل إنقاذ الخدمات الصحية المحلية ينبغي وضع خطة إنقاذ عاجلة وملزِمة التنفيذ. تنبني خطة الإنقاذ هذه أولا وقبل كل شيء على الشفافية والاعتراف بأن هناك مشاكل جادة حقيقية تعاني منها بشدة الخدمات الطبية المحلية. ذلك انه بدون الاعتراف بوجود مشكلة لا يمكن إيجاد حل، أما التغني بمنجزات الماضي فهو لا يفعل شيئا سوى مفاقمة الجراح.

إن المطلوب أولا وقبل كل شيء زيادة الميزانية المخصصة للإنفاق على الخدمات الطبية وذلك من إجمالي الموازنة العامة للدولة. فالصحة والتعليم يجب أن يكونا فوق جوانب إنفاق أخرى تلتهم عادة أكثر من نصف الموازنة. كما يجب وضع هذه الميزانية بيد من يحسن استخدامها، وأعني هنا ضرورة وجود تخطيط سليم للاحتياجات الطبية وأوجه الإنفاق، ووجود رقابة على صرف هذه الميزانية. فضلا عن ذلك فإن تغييرا جوهريا مطلوب في الإدارة الطبية المحلية، إذ أن هناك حاجة ملحة لدماء جديدة وكفاءات إدارية ذات عقليات معاصرة قادرة على إدارة عملية تقديم الخدمات الطبية في السلطنة بصورة أفضل من الموجود حاليا. إن التغيير الإداري مطلب ضروري للخروج من الوضع الراهن، ذلك أنه حتى لو تم اعتماد ميزانية مالية سخية فإن الحال لن يتحسن دون تطوير الإدارة وتغييرها نحو الأحسن. فضلا عن ذلك فإنه مطلوب جدا زيادة مرتبات العاملين في القطاع الطبي من عمانيين ووافدين وذلك لوقف مسألة نزيف الأدمغة الطبية للخارج. أيضا مطلوب إحداث تغيير في جدول المناوبات وتقليل الضغط على الأطباء لتخفيف الأخطاء الطبية، وهو ما يعني بالضرورة زيادة عدد الكادر الطبي الموجود باستقدام عدد أكبر من الأطباء الوافدين وزيادة عدد الطلاب المسموح بدخولهم كلية الطب بجامعة السلطان قابوس. كذلك فإن تطوير الخدمات العلاجية والدوائية يعد مطلبا جوهريا لاستعادة ثقة المواطن بالمؤسسات الصحية المحلية بعد اهتزاز هذه الثقة. وقريبا من هذا المعنى فإن المطلوب أيضا اختيار كفاءات طبية جيدة من أطباء وممرضين ومضمدين يفهمون فن التعامل مع المريض بشيء من الإنسانية والرحمة والاحترام. وأخيرا فإن المطلوب الاهتمام أكثر بالتثقيف الصحي لنشر الوعي الصحي بين المواطنين مما يقلل حدوث الحالات المرضية ويجنب الناس الوقوع في أمراض يمكن اجتناب الكثير منها بقليل من الوعي والتبصير، وهذا بدوره سيقلل من الازدحام على المستشفيات وبالتالي يساعد وزارة الصحة في تحسين وتطوير خدماتها الصحية متى امتلك القائمون عليها الرغبة الحقيقية لإحداث هذا التغيير المنشود.

No comments:

Post a Comment

Note: Only a member of this blog may post a comment.