21 September 2014

عن أوبرا (مكبث) بدار الأوبرا السلطانية

حين تحركتْ غابةُ بِرنام بدار الأوبرا السلطانية!


بواحدة من أهم تراجيديات وليام شكسبير الكبرى، وبأحد أهم أعمال جوزيبي فيردي عند تأليفهِا (إذ كان عُمر مؤلفها 34 عاما فقط آنذاك)، افتتحت دار الأوبرا السلطانية مسقط موسمها الجديد 2014 / 2015 بعرض أوبرا (مكبث)، المبنية على نص أعده فرانسيسكو ماريا بياف عن المسرحية المعروفة. مسرحية (مكبث) عمل عميق، خالد، عن النفوس المعقدة التي تضحي بسلامها الروحي من أجل السُلطة، وليس مُهمّا لديها مقدار الدماء التي تتخضب بها يداها في سبيل الحفاظ على السُلطة. هذا الصراع الدرامي العميق ما يزال يُلهم اليوم مخرجين مسرحيين وسينمائيين عديدين لإعادة إنتاجه، إلا أنّ أوبرا فيردي هذه تضيف لعظمة النصِ الموسيقى المذهلة، والأداءَ المستحدثَ في أسلوبه الفني. أما إنتاج فرقة مسرح (فيردي تريستي) التي قدمت هذا العمل بدار الأوبرا السلطانية، فهو أخاذ بصريا وإخراجيا، وحابس للأنفاس على صعيديْ الإضاءة وتصميم المناظر.
سأقتبس تلخيص حكاية أوبرا (مكبث) من مقالة نشرها مؤخرا د. ناصر الطائي مستشار دار الأوبرا السلطانية للتعليم والتواصل المجتمعي، بتصرف محدود للغاية. تدور أحداث أوبرا "مكبث" في مقاطعة موراي في شمال أسكتلندا. تبدأ الأوبرا بالجنرال مكبث وصديقه بانكو اللذين تستوقفهما مجموعة من الساحرات وهما في طريق العودة من موقعة كبيرة، وإذ بالساحرات ينادين مكبث بلقبه الجديد لورد كاودور ثم بالملك. أما بانكو فألقين عليه التحية قائلات: "ستكون أقل شأنًا من مكبث وستكون موفور السعادة!" وتنبأن له بأن أبناءه من بعده سيكونون ملوكًا. وتحقيقا للنبوءة، تساعد الليدي مكبث زوجها على قتل الملك دنكن وتكتمل الجريمة بإدانة حارسي الملك النائمين بعد تلطيخ أيديهما بالدماء.
في الفصل الثاني نرى مكبث وقد أصبح الآن ملكًا ولاذ مالكوم ابن دنكن بالفرار. يسعى مكبث الذي تسيطر عليه نبوءة الساحرات حول مستقبل بانكو إلى قتل بانكو هو الآخر وابنه، إذ قالت الساحرات أن أبناء بانكو سيصبحون ملوكا لاسكتلندا. وبالفعل يلقى بانكو مصرعه فيما يتمكّن ابنه من الهرب. في إحدى مآدب الطعام، ليلة مقتل بانكو بتدبير من مكبث، تغني الليدي مكبث أغنية عن الشراب، ويبدأ مكبث بالهذيان حيث يرى شبح بانكو جالسًا مكانه على العرش. يعتقد الضيوف أن مكبث قد فقد صوابه على الرغم من محاولة الليدي مكبث إعادة النظام.
في الفصل الثالث، تعود الأحداث مرة أخرى الى عالم الساحرات المظلم إذ يجتمعن في كهف ويبلغن مكبث بثلاث نبوءات: أنْ يحذر من ماكدف (أحد القادة المخلصين للملك المغدور به دنكن)، وأنه لا يمكن لأي رجل ولدته امرأة أن يُلحِق الأذى به، وأنه لن يُغلَب إلا إذا تحركت أشجار غابة بِرنام وجاءت إلى قلعته.
وفي الفصل الأخير، يصر ماكدف على الانتقام لزوجته وأطفاله الذين لقوا حتفهم (على يد مكبث)، وينضم إليه كل من مالكولم ابن الملك دنكن والجيش الإنجليزي الذين يحملون فروعًا من أشجار غابة بِرنام متخفين خلفها، وينقضون على قوات مكبث.
كانت مسرحية (مكبث) مغرية دوما للمخرجين لتقديمها، لعمق موضوعها، وقوة البُعد السيكولوجي فيها. فمكبث والليدي مكبث تقودهما أطماعهما لارتكاب الجرائم، إلا أنّ كل جريمة يرتكبانها –للحفاظ على العرش- تزيد عذاب ضميرهما أكثر فأكثر. وكل جريمة لابد من التغطية عليها بجريمة أخرى، حتى يولغان تماما في الدماء، ولكنهما أيضا يوغلان في الهلاوس والخوف، وينسيان راحة البال تماما، بل وينسيان النوم. في الفصل الرابع من الأوبرا التي لحنها فيردي، ثمة مشهد مهم آسر. الليدي مكبث تسير وهي نائمة (مُسَرنَمة)، وتهذي بالكيفية التي لطّخت فيها يديها بدماء الأبرياء. يراها الخدم ويسترقون إليها النظر، وهي تسير مفتوحة العينين لكنها لا ترى شيئا. ثم تقوم بغسل يديها دونما ماء، في ذروة لحظات تأنيب الضمير، إذ تعتقد أن ذلك سيطهر يديها مما أراقته من دماء. لقد كانت الليدي مكبث أقوى شكيمة من مكبث، فقد بدا مكبث مترددا منذ البداية في ارتكاب الجرائم، لكن نبوءات الساحرات بأنْ يصبح ملكا كانت تغريه. وحين كان يتردد في القتل، كانت الليدي مكبث هي المحفز له، بل تُكمل جرائمه التي لا ينجح هو إلا في ارتكاب نصفها وتركها مُعلّقة. هذا ما يحدث في اليقظة، على مستوى الوعي: تكون الليدي مكبث الأكثر إصرارا على ارتكاب الجريمة بدم بارد. لكن على مستوى اللاوعي، فإن العذاب والندم يفعلان بها الأفاعيل، فيحرمانها حتى من النوم، لينتهي بها المطاف وقد قتلت نفسها لأنها لم تعد تحتمل أكثر!
المشهد الذي تسير فيه الليدي مكبث مُسَرنَمة، كان أكثر مقاطع الأوبرا لفتا للنظر بالنسبة لي من الناحية الموسيقية. لقد كان أطول مشهد تستمر فيه الموسيقى دونما غناء أو حوار (باستثناء مقدمة الأوبرا overture). وقد كانت الموسيقى مسترسِلة، ممتدة، مسافرة في حلم طويل. لستُ موسيقيا لأصف الأمر بكلمات أكثر تحديدا، لكنْ يمكنني القول أنّ موسيقى هذا المشهد كانت مسرنمة هي الأخرى. على أية حال، فقد شكلت أوبرا (مكبث)، منذ تقديمها لأول مرة، تحديا لمغني الأوبرا، وذلك بسبب طبقة الصوت المطلوبة لليدي مكبث ولمكبث ايضا. فبخصوص الليدي مكبث، فالأمر بحاجة لمغنية تؤدي بطبقة تجعل صوتها معبرا عن طاقة الشر الكامنة لدى الليدي مكبث، وهو أمر صعب للغاية، إذ انْ ذلك يتنافى ظاهريا مع فكرة "الصوت الجميل". السهل هو إيجاد مغنية تجعل صوتها يبدو كما لو أنه قبيح، ليحاكي روح الشر المنشودة. لكن مسألة "كما لو أنه" هي ما شكلت تحديا لفيردي ومن أتوا من بعده. المطلوب هو الشر، وليس محاكاة الشر. لذا يمكنني القول أن السوبرانو المجرية سيسيلا بوروس التي أدت دور الليدي مكبث في عرض دار الأوبرا السلطانية كانت مذهلة بحق.
يقول د. ناصر الطائي في مقالته المشار إليها: فيردي كان يعي تمامًا الأهمية التاريخية التي تمثلها مسرحية شكسبير، ولقد كتب إلى فرانشيسكو ماريا بياف، مؤلف نص عمله الأوبرالي قائلًا: "إن هذه التراجيديا هي أعظم ما أبدعه قلم إنسان! وإن لم نستطع أن نصنع منها شيئًا عظيمًا فدعنا نحاول على الأقل أن نصنع شيئًا مختلفا". إن الساحر الوحيد الذي يبدو أنه لم تواجهه مشكلة في عرض أوبرا (مكبث) هو هينينج بروخاوس، مخرج العمل، إذ قدم عرضا مبهرا وظف فيه الإضاءة والديكور بشكل يأخذ الألباب. لقد جعل بروخاوس غابة بِرنام تتحرك فعلا على خشبة المسرح، في مشهد مهيب، وأعطى مَشاهد الليل حقها من الوحشة، وجعلها "كناية عن الجانب المظلم من حياتنا ومن الإنسانية" (كما يقول بروخاوس نفسُه). كما كان الإخراج ثريا بصريا في مشاهد الساحرات أثناء طقس إلقاء نبوءاتهن. أما صور الجماجم التي امتلأ بها الديكور، فكانت انعكاسا لعتمات الشر وظلام الفوس، وقد أضافت بعدا "أخلاقيا" للعمل، وربطت واقعنا المعاصر –المملوء بالرؤوس المقطوعة- بهذا العمل المثخن بأساطير الساحرات والعرافات.
لا يزال عرض (مكبث) مستمرا ليوم غدٍ الإثنين على مسرح دار الأوبرا السلطانية مسقط، وهو عمل لا يمكن تفويته. أما فنانو المسرح والدراما في بلادنا، فعليهم بالقطع أن يجعلوا مشاهدته مساء الغد على رأس قائمة أولوياتهم –إنْ لم يكونوا قد فعلوا ذلك فعلا-، لأن عملا كهذا قد لا يتكرر في القريب العاجل. وستبقى أنّة الليدي (مكبث) ماثلة في نفوسنا إلى أمد بعيد، وهي تزفر بمرارة: "إن جميع العطور العربية لن تكفي لغسل يديّ الآثمتين". لا شيء آخر سيعصم حياتنا من الوقوع في المزيد من الآثام.. سوى الفن.

No comments:

Post a Comment

Note: Only a member of this blog may post a comment.