01 September 2014

في ثقافة العمل الخيري

كُتبت بتاريخ 30 أغسطس 2008.وقد كُنتُ وقتها في مدينة بريزبن بأستراليا للفصل الأخير من شهادة الماجستير.
نُشرت في مجلة الرؤيا--عدد سبتمبر 2008م



في ثقافة العمل الخيري

كنتُ طالبا أدرسُ في أستراليا في ديسمبر 2004م عندما حلت كارثة المد البحري العظيم (تسونامي) التي ضربت بلا رحمة شواطئ عدد من الدول الآسيوية وأوقعت مئات الألوف من القتلى في غضون دقائق. ورغم أن أستراليا ليست بعيدة عن الدول التي ضربتها أمواج تسونامي، إلا أن اتجاه الموج كان في خط آخر ونجت منه أستراليا. كنت سعيدا بنجاة أستراليا لا خوفا على نفسي لأنني كنتُ متواجدا فيها، ولكن افتخارا بهبّة المواطنين الأستراليين لنجدة المنكوبين في شرق آسيا، وهي هبة تعكس الوعي الشعبي ومدى تجذّر ثقافة العمل الخيري والتطوعي المؤسساتي والأهلي في أستراليا وعموم الدول الغربية. ببساطة شديدة، لو أن أستراليا قد تضررت من كارثة تسونامي لتفاقمت معاناة الدول المنكوبة في شرق آسيا، فأستراليا لعبت دورا محوريا في جهود الإنقاذ والإغاثة وجمع التبرعات ومساعدة الدول المكلومة على التعافي. إن هذه اليقظة الشعبية التي شاهدتها إزاء العمل الخيري، تذكرني بحقيقة أخرى ذات صلة موجودة في المجتمعات الغربية وهي متانة ثقافة "الصَدَقة" وإنفاق المال على المحتاجين بكل أريحية، وهو عمل يقوم به الجميع في الغرب لاسيما في فترة الكريسماس حيث يندر أن لا يتبرع أحد بسخيّ المال. أما المؤسسات التجارية والشركات، فلها دائما وأبدا مخصصات إنفاق مالي على العمل الخيري وعلى الأنشطة التي تساهم في الحفاظ على البيئة. في حقيقة الأمر فإن ثقافة العمل الخيري في الغرب لافتة للنظر للغاية لفرط رسوخها وشيوعها. هذه المادة، إذن، تحاول تسليط الضوء على أهمية ثقافة العمل الخيري وأهمية ترسيخها وتأصيلها في المجتمعات، كما تتطرق إلى نماذج من ممارسات العمل الخيري في الغرب يمكن الاستفادة منها. كما أن هذه المقالة مهداة كذلك لروح الراحل سعود بهوان رحمه الله، الذي كان أول رجل أعمال عماني يؤسس لمفهوم العمل الخيري المؤسساتي عبر مؤسسته للأعمال الخيرية، التي نتمنى استمراريتها من بعده، فهي العمل الصالح الراسخ الذي تركه ويبقى من بعد رحيله نافعا للناس.

إذا كانت كارثة تسونامي قد حلت قبل نحو أربعة أعوام وأنا في أستراليا، فأنا الآن في أستراليا مجددا حيث قرأت قبل أسبوع في صحيفة محلية صغيرة عن أسرة أسترالية فقدوا بيتهم في حريق التهم كامل البيت الخشبي. ما حدث لهم أن شركة التأمين رفضت دفع أي تعويض لأسباب لا مجال لذكرها هنا، فلم يجد هؤلاء بابا يطرقونه –بعد أن تشردوا حرفيا في الشارع- سوى باب مؤسسة "جيش الخلاص" وهي مؤسسة خيرية دينية تقوم على جمع الصدقات والتبرعات وتستثمرها لصالح الفقراء والمحتاجين. قدم جيش الخلاص عونا مباشرا للأسرة تمثل في مأوى مؤقت ومستلزمات بسيطة كالأغطية والبطانيات وأدوات المطبخ. وقد تمكن جيش الخلاص لاحقا من جمع مبلغ جيد لإعانة هذه الأسرة، فيما نجحت الأسرة نفسها بوسائل شتى في جمع مبلغ من المال مكنهم من إعادة بناء بيتهم. الخبر الذي أتحدث عنه يبدأ من هذه النقطة: بعد أن انتهى الزوجان العجوزان من إعادة بناء البيت من المبالغ التي تحصلوا عليها من جهات شتى، تحقق لديهم فائض من النقود مقداره بضعة آلاف. ماذا تظنونهم قد فعلوا بها؟ لم يشتروا بها سيارة أو يسافروا بها في رحلة سياحية، بل تبرعوا بها كاملة لجيش الخلاص. تبرعوا له بمبلغ أعظم مما أنفقه عليهم طوال فترة تشردهم، وذلك ردا لجميله كونه كان أول يد تمتد إليهم لإنقاذهم. جيش الخلاص بدوره أعلن رسميا أن المبلغ الذي تم استلامه سيستثمر لصالح أعمال خيرية تستهدف عدة أسر فقيرة في نفس الحارة التي يقطنها الزوجان المتبرعان امتنانا لسخائهما. أيْ أنّ حلقة العطاء والإيثار تدور بيدها الخصيبة، ولا يعترض طريقها جشع أو فساد. هذه القصة ليست حادثة فردية في أستراليا وعموم الغرب، بل هي نموذج صغير للتكافل الاجتماعي الحاصل هنا والذي ترعاه مؤسسات مختصة تَعْرِف ماذا تفعل وتؤمن بصدق رسالتها وإنسانيتها. فكم مؤسسة لدينا في بلداننا تفعل ربع ما تفعله مؤسسة واحدة صغيرة في حارة صغيرة بضاحية إحدى مدن الغرب؟ الإجابة مخزية للغاية، ذلك أن ثقافة العمل التطوعي لدينا تقوم على نوايا حسنة من بضعة أفراد، لكنها لا تمتلك الصفة المؤسساتية التي تكفل لها الديمومة وترسخها كسلوك اجتماعي ضروري.

تختلف أنواع مؤسسات العمل الخيري في الغرب، فمنها مؤسسات حكومية تشرف على فروعها مكاتب المحافظين والولاة، ومؤسسات أخرى تتبع بلديات المدن، ومؤسسات أخرى كثيرة ترعاها الكنائس، إضافة إلى مؤسسات تطوعية تقوم عليها المجالس المحلية للحارات، أي أنها مؤسسات أهلية مائة بالمائة. جميع هذه المؤسسات تحظى بتخفيض ضريبي خاص وأحيانا إعفاء كامل من الضرائب على أنشطتها المالية، وهو ما يعني أن أرباحها ورؤوس أموالها تذهب بلا انتقاص للمستفيدين منها من المحتاجين. تؤمن هذه المؤسسات بأن العمل الخيري ضرورة إنسانية تنبع من المسؤولية الاجتماعية لكل فرد ومؤسسة إزاء المجتمع. تشجع الحكومات الغربية هذه المؤسسات وتقدم لها الدعم بمختلف أوجهه، كدفع جزء من رسوم إعلانات هذه المؤسسات في وسائل الإعلام. كما تقوم الحكومات بتشجيع المؤسسات الخاصة على التبرع للمؤسسات المصنفة كمؤسسات أعمال خيرية وذلك من خلال تخفيض الضرائب عن هذه المؤسسات التجارية. فكلما تبرعت الشركات الخاصة أكثر للأعمال الخيّرة، نالت تخفيضا أكبر من الضرائب الواجب عليها سدادها للحكومة. وفي موسم مثل موسم الكريسماس، فإن العرف قد جرى لدى جميع أفراد ومؤسسات المجتمعات الغربية بأن يكون هذا الوقت هو موسم تذكّر الآخرين وإنفاق المال والموجودات العينية والتبرع للمؤسسات الخيرية. في الكريسماس يتبادل الناس الهدايا: ما من فرد إلا ويَمنح نحو عشر هدايا نافعة للآخرين، ويتلقى بدوره عدة هدايا نافعة له. وفي أستراليا تحديدا فإن اليوم التالي للكريسماس يسمى "يوم الصندوق"، وهو يوم تقديم التبرعات للمؤسسات الخيرية والأفراد المحتاجين والتي تتكون غالبا من أية مقتنيات شخصية لم يعد المرء بحاجة لها مثل الملابس المستعملة والأدوات الإلكترونية والطعام المعلب. وقد اكتسب اليوم تسميته من عادة قديمة كان الأثرياء يقومون فيها بجمع الأشياء التي لا يحتاجون إليها وتقديمها في اليوم التالي للكريسماس لخدم منازلهم وعمال مزارعهم داخل "صندوق". لو نظرنا لمجتمعاتنا العربية المسلمة سنجد حثا واضحا من ديننا الإسلامي على الزكاة والصدقة، لكن قليلين منا يفعلون ذلك، ليس بخلا ربما، ولكن لأنه ما من أحد يوعّي الناس بشكل صحيح بأهمية العمل الخيري وبالعوائد الحميدة التي يثمر عنها على الأفراد وعلى المجتمع ككل. فالعمل الخيري، فضلا عن أنه يمنح من يقوم به إحساسا بإنسانيته عندما يشعر بمسؤوليته الإنسانية عن الآخرين، فإنه أيضا ينقذ الجوعى والفقراء من أن يتحولوا إلى خارجين على القانون. فإذا عاداك المجتمع فإنك غالبا ستعامله بالمثل، ومن يشاهد الأغنياء يكدسون الأموال ويبخلون بإنفاق الشيء اليسير على المحتاج، فإنه بلا شك سيعاديهم، وهو عداء يتحول عند بعض المقهورين إلى شكل من أشكال الجريمة.

بقدر ما تعمل مؤسسات العمل الخيري في الغرب على إيجاد وسائل لجمع التبرعات وتوزيعها على المحتاجين وفق آليات واضحة، فإنها أيضا تعمل على استمرارية ترسيخ ثقافة العمل التطوعي لدى الناس. فهذه المؤسسات تهتم بالناحية التثقيفية اهتماما كبيرا وتعمل على التأكد من بقاء الوعي الشعبي بأهمية العمل الخيري فاعلا في أذهان الناس. تستغل هذه المؤسسات الخيرية الدعم المقدم لها من الحكومة ووسائل الإعلام لنشر إعلانات منخفضة التكلفة، كما تتواجد في كافة المحافل وتوزع منشورات بأهدافها وطرق عملها وأوجه إنفاق المبالغ التي تتحصل عليها. إن النقطة الأخيرة مهمة للغاية، فإذا كان الشخص أو صاحب المؤسسة واثقا أن نقوده التي سيتبرع بها ستذهب فعلا للمحتاجين لها وليس للأشخاص الخطأ، فإنه سيتبرع باطمئنان. وتعمل مؤسسات رقابية مختلفة، أهلية الطابع هي الأخرى وتطوعية غالبا، على التأكد من أن إنفاق المؤسسات الخيرية يذهب في الاتجاه الصحيح. وتقوم المؤسسات الخيرية بنشر تقرير دوري عن أوجه الإنفاق المالي التي تستثمر فيها نقود المتبرعين (دون ذكر أسماء المستفيدين كاملة إذا كانوا أفرادا حفاظا على الخصوصية). ومن أجل استمرارية تدفق الأموال وتوافرها لتصب في النهاية لصالح المحتاجين لتضييق هوة الفوارق الطبقية في المجتمع، فإن مؤسسات العمل الخيري الكبرى لا تعتاش فقط على التبرع، لكنها تستثمر جزءا من رأس مالها في أعمال مفيدة تدر عليها الربح وتضمن استمرارية بقاء المؤسسة قائمة وناشطة كأية مؤسسة تجارية أخرى، وهذه هي النقلة النوعية الكبرى التي حققها رجل البر والإحسان الراحل سعود بهوان، فهو أول من أنشأ في بلادنا مؤسسة للأعمال الخيرية لها نشاط استثماري يضمن استمراريتها ويعزز قدراتها للإنفاق على أبواب الخير المختلفة.

كنتُ سعيدا حقا أن أستراليا لم تتضرر من تسونامي، فقد رأيت كيف تعاضدت المؤسسات الخيرية الكبيرة والصغيرة فيها لجمع التبرعات وتنظيم الجهود لإغاثة البلدان المنكوبة، وقد هب الناس للنجدة بأموالهم، وسافر مئات من الأستراليين تطوعا للدول المنكوبة لإنقاذ الناس والتخفيف عن معاناتهم. أما المشاهد الأنبل فكانت لؤلئك الأستراليين الذين كانوا موجودين أصلا للسياحة في البلدان التي ضربتها كارثة تسونامي ونجوا، فهؤلاء لم يعودوا لبلادهم عندما وقعت الواقعة، لكنهم ازدادوا تصميما على البقاء مكانهم والتحول من سياح إلى عمال إغاثة. إنهم ببساطة لا يمتصون خيرات الأمم وهي معافاة ثم يفرون عنها عندما تحتاج إلى نجدتهم. لم يكن للروح النبيلة لأمثال هؤلاء أن تصعد فوق الأزمات لولا رسوخ ثقافة العمل الخيري في بلدانهم كإيمان إنساني واجتماعي متأصل. فكيف نستطيع ترسيخ هذا الإيمان في نفوس مجتمعاتنا أفرادا ومؤسساتٍ استثماريةٍ وحكومات؟

No comments:

Post a Comment

Note: Only a member of this blog may post a comment.