02 November 2014

في بيتنا كلب

في بيتنا كلب!



لم تكن علاقتي بالكلاب جيدة في يوم من الأيام. وعلى الرغم من أنني أمتلك الآن جروا صغيرا بالبيت، وبفضله أصبح بإمكاني الزعم أني أعيش شهر عسل مع الكلاب، فإن علاقتي بهذه المخلوقات الوفية مازال يشوبها الخوف. هو الخوف الذي أود اقتلاعه، ولا أريد مطلقا أن يجد مكانا له ذات يوم في نفس طفلتي. ولذا، ففي بيتنا كلب!

الكلاب التي تجري خلف السيارة التي تقلنا إلى المدرسة، هي واحدة من أبكر الصور التي تستعيدها ذاكرتي للكلاب. هي صورة مربوطة بالخوف. كائن سريع ينبح بصوت مخيف. يطاردنا نحن الأطفال في (البيك-أب). فمه مفتوح وأسنانه بارزة. ولسانه الطويل الخارج من فمه تجسيد لكل الشر في الكون. ما أقبحكِ أيتها الكلاب وما أبغضك! ثم إنك تنبحين فجرا لأنك ترين الشياطين التي لا نراها نحن البشر، لذا أنتِ مقرونة بالرعب والشر والقوى الغامضة. كنتُ أتوجس خيفة إذا استيقظتُ يوما على نباح كلب ذات فجر. لابد أن الجن حولي. هكذا استوطنتني هذه الأساطير. حتى كنت ذات يوم في السادس الابتدائي. وكان لزاما عليّ الذهاب أحيانا ماشيا لشراء بعض مستلزمات البيت من مكان يبعد عنا أقل من كيلومتر، ولكن الطريق إليه محروس بكلبة سوداء لمالكتها (شَمُّوس). كانت كلبة شَمّوس هي ذعر حياتي. أسير بحذر للدكان، وفرحة حياتي هي عندما لا يكون هناك أثر لتلك الكلبة. أما عندما تكون بالجوار، فأسير على أطراف أصابعي، وأحاول الابتعاد عنها قد المستطاع. لكن كلبة شمّوس من إنْ ترى سيارة حتى تجري خلفها. إنه الذعر كله! وذات يوم وأنا في طريقي للدكان، وقد كنتُ بمحاذاة بيت الجارة شمّوس، إذا بالكلبة السوداء المرعبة قادمة تجري نحوي بكامل سرعتها. فما كان مني إلا أنْ أطلقتُ ساقيّ للريح جهة باب بيت شَمّوس الذي كان مفتوحا وكانت بعض نساءٍ يقفن عنده. رميتُ نفسي من الخوف بينهن وأنا ألهث. لا تستعيد ذاكرتي نهاية المشهد، لاشك أن الكلبة قد انشغلت بسيارة أخرى مارة في الشارع وذهبت لتطاردها. أما أنا، فلا شك أني أيضا ذبتُ خجلا عندما ألقيتُ بنفسي وسط "الحريم"، فهذا مشهد لو عرف عنه رفاقي في الفصل لعيروني به مدة خمسين مليون سنة ضوئية قادمة!

تجنبتُ الكلاب طوال حياتي. ولكن في الفترة من 2002 إلى 2005 كان لابد لي أن أراها يوميا. إنها فترة دراستي في أمريكا ثم أستراليا، حيث الكلاب أكثر من البشر. كلاب من كل نوع وحجم وشكل. في كل بيت. حتى البيت الذي سكنتُ فيه في أستراليا كان به كلب صغير! ماذا فعلتُ يا ربي لأنال كل هذا الشقاء؟ وكيف نجوتُ إذن؟

مشهد كلبة شمّوس تكرر عام 2003 في أمريكا. حيثُ ذهبتُ مع خليلتي لزيارة إحدى صديقاتها في ولاية أمريكية أخرى. كان الاتفاق أنني عندما أكون بالصالة فإن عليهم أخذ كلبتهم إلى غرفة أخرى. ولكن ذات يومي ما كاد أحدهم يفتح باب الغرفة حتى اندفعت الكلبة جارية باتجاهي، فوقفت على الكنبة وصرخت. كانت كلبة أنيقة، لكن هذه الجملة لا مكان لها في الإعراب في تلك اللحظة. تصرّف أحدهم وأبعد الكلبة بسرعة، بعد أنْ كانت الدماء قد نشفتْ في عروقي. حاولوا إقناعي أنها كلبة غير مؤذية ولا يمكن أن تهاجمني يوما، بل إنها هي الخائفة مني (يا راجل!!). على المستوى العقلي كنت أعرف أن كلامهم صحيح، ولكن على المستوى العاطفي لم يكن ممكنا مقاومة فزعي. على أية حال، فإنه من العبث أن تخبر شخصا مصابا بفوبيا الكلاب أن الكلاب غير مؤذية. هذا هراء لا معنى له للمصاب بالفوبيا. وفوبيا الكلاب هي إحدى فوبيات حياتي الأربع أو الخمس التي مازالت تفعل فيّ الأفاعيل في يقظتي وكوابيسي!
في أستراليا تعرفتُ على (مارك)، جارنا في البيت الملاصق. شاب في منتهى اللطف. كانت لديه كلبة صغيرة من نوعية (تشيواوا) مخلوطة مع سلالة أخرى نسيتُ اسمها الآن. بذل مارك جهدا ليساعدني في التغلب على فوبيا كلاب. إن ارتباط مارك بكلبته المحبوبة (فيبي) عنى شيئا واحدا: إما أنْ أقبلهما معا كصفقة واحدة، أو أنساهما معا. وقد كان مارك شخصا رائعا، وكان دليلي لفهم ثقافة أستراليا. أول مرة دخلتُ فيها غرفة مارك، أخبرني أنه لابد لفيبي أن تلعقني، فهذه طريقة الكلاب في التعرف على الآخرين. تيبستُ كالخشبة وأنا أترك فيبي تمرر لسانها عليّ. ثم تنفستُ الصعداء عندما انتهى الأمر. مرت الأمور بعدها بسلاسة. ربما لأن فيبي كانت صغيرة فقد بدا لذهني المشوَّش أنه لو هاجمتني يوما فبإمكاني أن أرديها بلكمة واحدة. أظن كان هذا سبب طمأنينتي. وسارت الأمور جيدا مع فيبي ولم أعد أخشاها إلا بالحد الأدنى. صحيح أنني كنتُ اشعر بالتقزز جراء لعقها لي، ولكن الخوف قد تناقص بشدة. في تلك الفترة جاءت طالبة كندية هي وأخوها ليسكنوا في بيتنا الطلابي ذي الغرف الست. مالكة البيت اجتمعت بنا وقالت أنها تريد موافقة الجميع على سكن (ليزا) معنا لأن ليزا لديها كلب صغير من نوعية (مالطيز). كنتُ أعرف نوعية المالطيز، وهي كلاب صغيرة كثة الشعر. وسعيا مني للتخلص من فوبيا الكلاب وافقتُ على سكن ليزا وأخوها وكلبها، ولأهداف أخرى في نفس يعقوب تخص الفتاة الكندية الجميلة. ورغم أن الكلب كان صغيرا ووديعا، لكني كنت أخاف منه. وذات يوم أخذته في حضني وطلبت منهم أن يصوروني وأنا أداعبه. كانت ابتسامة واسعة (مزيفة بالطبع) تملأ وجهي، ولكني كنت بحاجة للصورة لأضعها في بروفايلي في مواقع التعارف الاجتماعي الموجودة آنذاك، ففرصتي في مصادقة فتاة أسترالية ستزداد كلما كنتُ محبا للكلاب. لا أخفي سرا أنني كنت أكره الفتيات اللاتي لديهن كلاب، فقد كان ذهني المريض بفوبيا الكلاب يتصور وجود علاقة غير سوية بينهن وبين كلابهن. ولذا، لم أنجح يوما في تضبيط علاقة مع أسترالية! إلى الجحيم يا شقراوات طالما كان الثمن أنْ أصادق كلابكن اللعينة!

الآن.. تريد طفلتي كلبا! ويلاه يا رباه، هل مازالت معاصيّ مستعصية على الغفران حتى تأتيني عضة الكلب من عقر داري؟! حسنا. أفهم الآن شيئا واحدا. إذا كانت لديّ عقدة من الكلاب، فعليّ تجنيب ابنتي هذا المصير. عليها أن تنشأ في علاقة سوية مع الحيوانات. لاشك أن قراءاتي في الداروينية في السنوات الأخيرة وإيماني بها لتفسير وجودنا الإنساني في هذا الكوكب كان لها أثر واضح لأرى الأمور بشكل علمي. الآن أعرف لماذا يُخرِج الكلب لسانه وهو يلهث. لا لأنه يريد أن يعضني (كما كنت أتصور في طفولتي)، إنه يفعل ذلك عند التعب وعند شدة الحرارة لأن جلد الكلب ليس به غدد عرقية كجلدنا، لذا يُخرج الكلب لسانه المبتل حتى يساعد جسمه في تبخير الماء فتتوازن درجة حرارته. لن أتغلب على الفوبيا في يوم وليلة، ولن أجلب للمنزل كلبا كبيرا، لكن الجرو (من نوعية جاك راسل) الذي بحوزتنا الآن –ولا نعلم بعد بصفة مؤقتة أم دائمة- هو في الحقيقة كائن ابتدأت أحبه، وأفتقده حين أسهر خارج البيت، وأستمتع باللعب معه. نعم مازلت أقرف من قيام حيوان بلعقي طوال الوقت، لكن لكونه جروا فأنا أراه مثل طفل صغير بحاجة إلى اللهو واللعب والرعاية والحب. هو بالفعل طفل، وهو جدير بإعطائه فرصة عله يُشفي روحي من واحدة من مخاوفها الكبرى غير المبررة.

No comments:

Post a Comment

Note: Only a member of this blog may post a comment.