21 October 2014

عن أمهاتنا في الطفولة التي عشتها

نساء في زمن البساطة!


قضى والدي –رحمه الله- آخر عشرين سنة من حياته في السعودية، عاملا بسيطا كغالبية أبناء جيله، يكدح لتنشئة عائلة في دواخل عُمان؛ البلد التي لم يكن يتسنى له أنْ يزورها إلا مرة في السنة لأقل من شهر (وقطعا كان أكثر حظا من غيره في هذا). قبل السعودية كان أبي قد عمل في قطر والكويت بأعمال أكثر مشقة منذ كان مراهقا. أما أمي فلم تزر السعودية إلا عندما أصيب أبي بنوبة قلبية أدخلته العناية المركزة لعدة أيام، وزارتها لاحقا للحج والعمرة. في ذلك الزمن، لم تكن البنوك موجودة أصلا في ولايتنا، ولذا كان أبي –حاله كحال مغتربي عُمان في دول الجوار- يرسل مبلغا سنويا أو نصف سنوي مع أحد رفاقه العمانيين المغتربين. يأتي الرجل بالمبلغ نقدا يسلمه كأمانة إلى أهل الرجل الآخر المغترب—الذي هو أبي في هذه الحالة.

هكذا عندما كان سالم بن علي القيوضي –أعز أصدقاء أبي- (أعطاه الله الصحة أو أسبغ عليه رحمته إنْ كان قد غادر دنيانا).. أقول عندما كان القيوضي –طيّب الله ذكره- يعود من السعودية إلى بلدته في نفس ولايتنا، كان يأتي للبيت لتسليم الأمانة عندما تسنح له ظروفه. لم يكن هناك هاتف لنعرف أن الرجل سيزورنا اليوم أو غدا، ولكن لعل أحد أبناء تلك البلدة يزورنا او يزور جارا لنا فنستعلم منه أن القيوضي قد وصل، ولأنه يحمل أمانة فسوف يحرص على تسليمها في أقرب فرصة متاحة لديه. كنا جميعا أطفالا. وأكبر أخوتي كان مراهقا. وكانت الحال بسيطة. ولم تكن الفواكه تتوافر في البيوت إلا في الأعياد وعند وصول نبأ أنّ ضيفا سيحل على بيت من بيوت القرية. لذا كان الرطب أو التمر (حسب الموسم) والقهوة الطازجة هي كل أدوات إكرام الضيف. وإذا توافر السفرجل أو الموز العماني فتلك مائدة فاخرة. لم يكن في هذا "الحال البسيط" غضاضة بين الناس البسطاء المتكافلين المتراحمين. فالجود بالموجود. ولكن أمر الجود لا يقف هنا فحسب، فزيارة ضيف لبيت أحد من أبناء القرية كانت تعني تكاتف القرية كلها لضيافته. هذا هو الشيء الجميل الوحيد الذي أستعيده من حياة القرية، وهو شيء أتذكره بمناسبة يوم المرأة العمانية. فالحكاية كلها هي حكاية امرأة ودورها في المجتمع وصلاحياتها آنذاك والآن.

عند وصول الضيف القادم من بلدة أخرى، ستعرف الحارة جميعها أن بيت (ولاد قوم فلان الفلاني) جايينهم خطّار. الكل حاله واحد، أو متقارب، من مُتع الدنيا. ولكن الكل سيبذل أفضل ما لديه. بيتٌ من بيوت الجيران سيرسل دلة قهوة صنعوها للتو. بيت ثانٍ سيرسل وجبة دنجو و "سِفّ خبز" بلدي. بيت ثالث سيرسل السفرجل، وربما عنبا محليا، وربما الجح. وسيأتي أقرب الجيران الشيّاب لاستقبال الضيف لأنه يعتبره كأنه قادم لبيته، فهذا الجار نفسه يعتبر أن بيتنا هو بيته ولذا من واجبه الترحيب بالضيف. ولكن قبل وصول الجار تكون أمي قد استقبلت الضيف وصافحته وهي تلف يدها بطرف "الوقاية" التي ترتديها، وأدخلته المجلس ورحبت به، وسألته عن العلوم والأخبار وعن جديد أهالي بلدته جميعا. بعد القهوة سيسلم الضيف الأمانة التي جاء من أجلها. مبلغ المال الذي جاد به الزمن على والدي. و كيسا من الهيل. و مَنٌّ مِن القهوة (المَن: وحدة تعادل أربعة كيلو)، كلها مرسلة من أبي. وقد يكون هناك كيلو هيل من نوع آخر هدية من الضيف نفسه. أو نوع من الدنجو الملون الجاهز للأكل كهدية من الضيف للعائلة وتفريحة للأطفال. المشهد إجمالا هو التكاتف والإخاء في أنبل صوره وأطهرها. ستكون الصورة واحدة سواء كان الضيف ضيفنا نحن أم ضيف الجيران. الكل سيؤدي ما يؤمن أنه واجبه إزاء حقوق الجيرة. ولن يلوم أحدٌ امرأة أنها جلست مع الضيف. بل سيشيد بها الكل أنها تصون بيتا كاملا في ظل غياب الأب—فما أكثر البيوت التي كانت كبيتنا بأب غائب حاضر وبأم هي تجسيد للمهارة والكفاءة في إدارة شؤون عائلة تتكون غالبا من سبعة أطفال إلى اثني عشر طفلا!

في ذلك الوقت، أي ما تستعيده ذاكرتي من ذكريات أواخر السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، كانت المرأة العمانية لها كلمتها في محيطها. كانت تستقبل الضيوف تماما كما كان سيفعل زوجها الغائب، بذات الترحاب وحسن الضيافة. كانت تذهب للحقل وتعود جالبة البرسيم وطعام الحيوانات على رأسها. كانت تذهب تروّي الماء و الهاندوّة على رأسها. وفي بعض القرى، كانت تخاشم الرجال كما يفعل الرجال مع بعضهم البعض. كان هناك تقاسم قديم للأدوار بينها وبين الرجل فرضته ظروف المجتمع الاقتصادية والتاريخية قبل أن تفرضه العادات والتقاليد. باختصار، كانت المرأة ذات مقدار معقول –وفقا لطبيعة زمنها- من الأدوار القيادية فيما يتعلق بالبيت والعائلة. وكانت كثير من ممارساتها الفطرية عادية وغير مستنكرة. لم تكن العباءة بالطبع موجودة، والبرقع كان لظروف محددة مؤقتة فقط في الحياة الريفية والحضرية وليس شيئا يتم ارتداؤه طوال اليوم. لم يكن البرقع أداة قمع متعمدة، بل كان مجرد جزء تقليدي من زي بعض المناطق. اليوم، ذهبت الكثير من هذه الأشياء أدراج الرياح، وتحاول شابة اليوم استعادة بعض مناخ "المشاركة في لعب الأدوار القيادية" كما كانت تفعل أمهاتهن. اليوم اختفت المصافحة، أو بالأحرى تقلصت، بينما كان مخاشم المرأة للرجال لا غبار عليه قبل 30 عاما! واختفى البرقع التقليدي كزي تقليدي، وفُرِض مكانه على بعض النساء نقاب أسبابه دينية وإقصائية وعنصرية، وصارت هؤلاء العواجيز أنفسهن يرتدين قفازات سوداء بعد أن كانت سواعدهن مشَّمرة للعمل في الحقل! حتى بعض الأمثال الشعبية التي كانت تستخدمها النساء في حوارهن اليومي العادي، لو استخدمها أحد اليوم لبدت صاعقة، وأترك هنا لمن هم في مثل عمري وأكبر أن يتذكروا بعض الجمل الشعبية التي لم تعد نساء ورجالات اليوم يستطيعون تبادلها في حواراتهم العامة.

ليس الأمر هنا تباكيا على الماضي أو تقليلا من شأن الحاضر. ولكنه استعادة لزمن كان أكثر فطرية وتسامحا حين لم يكن ذوو اللحى الكثة قد تناسلوا وسمموا المجتمع بأفكارهم حول الحلال والحرام. كان الناس يعرفون الحلال والحرام بدون مشايخ الفضائيات وبدون أطنان من الرجال بدشاديش قصيرة ونوايا خبيثة شديدة الطول. لأن أمثال هؤلاء قد توغلوا في حياتنا، تضاءلت البراءة. فحين تنتشر الذئاب تصبح الحملان كثيرة التلفت خوفا حولها، وقد تُؤْثِر عدم الخروج إلى المراعي الخضراء. أما حياة الدعة الحالية لكلا الرجل والمرأة، فأدت إلى ضياع ما كانت تمتلكه المرأة من ثقل في اتخاذ القرار بشأن حياة أسرتها، لأن دورها قد تضاءل بوجود أكثر من نصف المتزوجات مَعيلات من قبل الزوج حالهن كحال الأطفال والقُصر. بينما لم تكن أمي ونساء جيلها يعتمدن الاعتماد الكامل على ما يبعثه أبي سنويا أو كل ستة أشهر مع القيوضي من السعودية، بل كانت لديهن أبقار وأغنام ودجاج تلبي احتياجات العائلة جزئيا، وكن يعملن في الحقل. كن يساهمن في نصف اقتصاد المنزل. الحظ الأوفر اليوم لتحقيق الذات واستعادة أدوار المرأة المُشارِكة في اتخاذ القرار في مجتمعها وعائلتها هو في يد النساء العاملات المستقلات اقتصاديا والواعيات فكريا، المساهِمات بدخلهن في الإنفاق على الأسرة في احتياجات الأسرة الفعلية، وليس من ينفقن مرتبهن في شراء سيارة فاخرة منذ أول يوم للتعيين ويصرفن فيها ثلاثة أرباع المرتب، ويبقين لآخر الشهر معولات كليا من قبل أزواجهن كالأطفال والقُصّر! بلا مشاركة اقتصادية فاعلة في إدارة شؤون العائلة اليومية، لن تتحقق للشابة اليوم القدرة الكاملة على أخذ دور مهم في تقرير مستقبل العائلة ومصيرها، ولن تتمكن من فرض كلمتها وتعزيز موقفها المستقل في اختيار خياراتها بعيدا عن وصايا الرقباء والفضوليين وأصحاب الدشاديش القصيرة والنوايا الخبيثة الطويلة.

No comments:

Post a Comment

Note: Only a member of this blog may post a comment.