حول التحرش في مسيرات السيارات المُزيّنة
من
المظاهر الاجتماعية المستحدثة في بلادنا الخروجُ الشبابي في مسيرات جماعية
بالسيارات المُزيّنة في مناسبات معينة، أبرزها لغاية الآن مناسبات فوز المنتخب
الوطني في مباريات رياضية، وكذلك بمناسبة احتفالات البلاد بالعيد الوطني. بالنسبة
للجزئية الأخيرة فأنا لا أتحدث هنا عن المسيرات المنسقة سلفا من الجهات الحكومية
المختلفة وعلى رأسها مكاتب الولاة والمدارس، والتي تتم في وضح النهار، ولكني أشير
إلى مسيرات الليل الشبابية التي لم تقم برعايتها –علنا- أية جهة حكومية، وهي
مسيرات أبطالها السيارات والدراجات النارية والشباب المتزينون بإكسسوارات تحمل
رموزا وطنية، كرسم العلم على الوجوه ووضع الشعر المستعار على الرأس. ميادين هذه
المسيرات هي الشوارع الرئيسية في مسقط وبعض الولايات، وقد ازدهرت بالأخص في العيد
الوطني الماضي وهذا العام، وكان لها وجود سابق قوي في حادثة واحدة هي فوز منتخبنا
الوطني لكرة القرم بكأس خليجي 19 عام 2009م، حينما أغلق المحتفلون شوارع مسقط
الرئيسية حتى ما بعد ساعات الفجر. لكن هذه المسيرات كثيرا ما تنتهي بتحفظات
اجتماعية عليها وتؤدي إلى إثارة نقاش حاد، لاسيما لعمليات التحرش ببعض الفتيات
المحتفِلات والذي رصدته كاميرات الفيديو بالهواتف خلال العامين الماضيين. فكيف
نقرأ ما يحدث في هذه المسيرات من خلال ردات فعل المجتمع؟
ثقافة
مسيرات الفرح الشبابية بالسيارات المزينة ظهرت بالتزامن في بلدان الخليج العربي،
ولعل واحدة من أبكر المناسبات التي قادت لمسيرات شبابية في عواصم الخليج هي انطفاء
شمعة ليلة 31 ديسمبر 1999 ودخولنا في الألفية الجديدة. شخصيا كنتُ ليلتها في دبي
حين انطلقتْ مسيرات السيارات المزينة وأصوات (الهرنات) تصطخب في الشوارع. على ما
يبدو أنه لم يكن بمستطاع السلطات أن ترفض مسيرات السيارات المزينة جملة وتفصيلا
منذ أول انطلاقة لها--ربما انتظارا لما سوف تسفر عنه. فبدون حدوثها ليس بوسع المرء
أن يمنعها منعا مسبقا، ولماذا يمنعها وليس بيده دليل على أنه سوف يسفر عنها ما يخل
بالنظام والآداب العامة؟ يبدو أن موقف السلطات الخليجية كان مع السماح بها خشية
وقوع ردود فعل عكسية لو تم المنع. لكن تلك المسيرات أفرزت حقا ما يخل بالنظام
العام والآداب الاجتماعية السائدة. لقد أفرزتْ قطعا للطرق يمتد عدة ساعات ويؤدي
إلى تعطيل حياة الناس، لاسيما مَن هم بحاجة لمشاوير ضرورية. كما أفرزتْ حالات من
التحرش بالفتيات (لا علم لي بعددها وهل هي محدودة جدا أم كثيرة نسبيا)، ورقصا -من
الأولاد، بالأخص- تجاوز حدود اللياقة. وانقسمت الآراء بين من اعتبر ذلك مظهرا
طبيعيا مؤقتا كون الظاهرة كلها جديدة وسف تصنع لنفسها ضوابط ومعايير سنة وراء
أخرى. وهناك من رأى العكس، إذ يخشى هؤلاء أن تتزايد السلوكيات غير المرغوبة عاما
وراء آخر. وكان المتشددون الدينيون، كالعادة، يصيدون في الماء العكر، فسعوا إلى
تضخيم ما يحدث وترويع المجتمع منه، وتحريض السلطات على الشباب المحتفلين اتكاء على
حوادث فردية حدثت، لغاية في نفوس هؤلاء تتمثل في سعيهم الدائم لقتل كل مظاهر الفرح
من حياة الناس. وبين كل هذا وذاك انتشر سجال مجتمعي داخل الأسر وعبر مواقع وبرامج
التواصل الاجتماعي حول مشاركة الفتيات في مسيرات السيارات المزينة سواء كُنّ راجلات
أو على متون سياراتهن. وهو سجال ساخن يستحق التوقف عنده.
بعد
أن أثبتت كاميرات الفيديو بالهواتف وقوع حالات تحرش بالفتيات المحتفِلات، تمثلت
غالبا في محاولات بعض الشباب فتح أبواب سيارات الفتيات وإخراجهن منها، وهي على ما
يبدو حالات محدودة جدا وفقا لما صورته مقاطع الفيديو، وقد يكون هناك أكثر منها مما
لم يتم توثيقه.. بعد ثبوت هذا، سارعت طوائف كثيرة في المجتمع إلى لوم المرأة
وكأنها هي المسؤولة الأكيدة والوحيدة عما حدث. وانبرى من يطالبون بعدم مشاركة
الفتاة في مثل هذه المسيرات الشعبية. هذه الفئات شملت المتدينين الذين كانوا دوما
وأبدا يرون مكان النساء في الخيمة المغلقة عليها، كما شملت آباء وأخوة أرادوا
إراحة رؤوسهم من تقريع المجتمع، مع أنه –كالعادة- فإن نصفهم يذهبون لهذه المسيرات
لرؤية الفتيات المتزينات قبل أي سبب آخر. وأيضا كانت هناك نساء ربما يكن أكثر
شراسة من تلكم الطائفتين، وهن نساء تشددن في إدانة أخواتهن اللاتي يخرجن في هذه
المسيرات باعتبار أنه ليس عليهن أن يقلدن الشباب الذكور. ربما كان من ضمن هؤلاء
نساء يستشطن غيظا لأنهن لا يستطعن الخروج في المسيرات لأسباب مختلفة، فتأتي ردة
فعلهن بالغيظ على من تستطيع ذلك من بنات جنسهن من مبدأ "اللي ما يطول
العنب...". وهكذا، فقد وُجِدت شرائح جماهيرية مختلفة –كلٌّ له أسبابه الخاصة-
ألقت بلائمة التحرش في مسيرات السيارات المزينة على الفتيات وحدهن، وتم اعفاء
الشباب الذكور من أية مسؤولية عما يجري!
لو
تأملنا المشهد أعمق، لرأينا حزمة من التوجهات والأفكار غير المنصفة تجاه المرأة
فيما يخص مسألة مشاركة الفتاة في هذا النوع من المسيرات وفي قيام بعض الأولاد
بالتحرش بهن. الفكرة التي ترى أنه ليس على الشابة المشاركة في مسيرة بسبب فوز
المنتخب في مباراة لكرة القدم هي فكرة ترى أن الفرح حق مقصور على الذكور فقط. إنها
وجهة نظر تتجاهل حقيقة أن هناك عددا كبيرا جدا من الفتيات لهن اهتمام بالرياضة
ويتابعنها بنفس الشغف كالرجال. وبالتالي فإنه أمر فطري أن يكون للفتيات حق التعبير
عن الفرح بفوز المنتخب مثلما هو حق مكفول للأولاد. نفس هذا الفكر الذكوري المهيمن هو
ما يتبنى مسألة إدانة المرأة عندما تقع التحرشات في المسيرات، وكأن الفتاة هي التي
دعتْ الشباب ليقتحموا عليها سيارتها ويحاولوا سحبها منها. ما رصدته كاميرات
الهواتف أنّ بعض الذكور هم من تطاول وامتدت يداه لتفتح الأبواب، مثلما تطاولوا
بالألفاظ النابية والجارحة يرشقون بها الفتيات. فما ذنب الضحية حين يُعتدى عليها؟ في
حالات كهذه، مهما كانت نادرة، فإن الانكفاء على سجالات (هل يحق للمرأة المشاركة في
المسيرات أو لا يحق) هي سجالات ليست ذات أهمية بقدر أهمية تفعيل القوانين المدنية
ضد من يخالف القانون. لو أنّ من قام بفعل التحرش في العام الماضي نال عقابه
القانوني على فعلته بموجب القوانين المدنية المنصوص عليها لفكّر الشباب الطائشون
مرتين وثلاثا قبل أن يرتكبوا سلوكا مشابها هذا العام. لكن فلات الجاني من العقاب
أو نيله عقابا مخففا هو ما يجعل فئات اجتماعية تستمر في لوك الكلام حول (هل
الفتيات هن السبب فيما يحصل لهن). إن التساهل في عدم إيقاع عقاب قانوني بحق
المتحرشين يشجع على التحرش. وقد باتت نساء كثيرات يخشين من هذا الأمر. مَن يخرجن مِن
دوامهن ليلا، ومن يضطررن للذهاب للمستشفى أو أي مشوار، وخصوصا من يعلقن بالصدفة في
شارع تحتله مسيرة سيارات مزينة دون أن يكون قصدهن التواجد للمشاركة في المسيرة،
هؤلاء صار لديهن تخوف من وقوع التحرش طالما لم تكن القوانين والعقوبات الرادعة
مفعّلة على أرض الواقع. طالما كان المجتمع يلقي باللائمة على الشابة إذا تحرش بها
أحد ويبرّئ الشاب من الإدانة، فإن عددا متزايدا من النساء يعشن خوف تحولهن إلى
ملكية عامة مشاعة اجتماعيا إذا لم يتم حقا تفعيل القوانين والعقوبات الواجب
إيقاعها على من تثبت مقاطع الفيديو ارتكابهم جرم التحرش ونراهم يسرحون ويمرحون حولنا
دون أن يحاسبهم أحد على ما فعلوه.
No comments:
Post a Comment
Note: Only a member of this blog may post a comment.