تلك الأُبوّة.. ملتقى الحب والقسوة!
الفيلم الأسترالي
"المشوار الأخير" (إخراج: جليندِن إيفن. إنتاج 2009)، يتحدث عن موضوع
يبدو أنه يستهوي عددا لا بأس به من المخرجين الجادين. الموضوع هو الأبوّة،
وبالتحديد: العلاقة الشائكة بين الأب وأبنائه الذكور، ومعاملته القاسية لهم، الممزوجة
بفهمه الخاص للأبوّة. هذا موضوع خالد حقا، فهو مطروح في كل الأزمنة والأمكنة، وحين
يأتي فيلم أو رواية أو أي عمل إبداعي ليقدم رؤية أو معالجة جديدة لهذا الموضوع،
فإنه بالطبع شأن جدير بالالتفات إليه.
أثق أن كثيرا من المخرجين
حول العالم تناولوا موضوع علاقة الأب بأبنائه، وحتى لو ضيقنا النطاق وركزنا على
علاقة الأب بأبنائه الذكور (وليس علاقته ببناته)، فإن هناك عددا جيدا من الأفلام
اللافتة للنظر في هذا الشأن. أول ما يخطر ببالي هو الفيلم الروسي
"العودة" (إخراج: أندريه زياجنتسيف. إنتاج: 2003) وهو واحد من أهم
الأفلام التي تناولت موضوع قسوة الأب على أبنائه إيمانا منه بأن هذا هو السبيل
الوحيد ليصنع منهم رجالا. في فيلم "العودة" يعود أب غائب عن حياة طفليه،
حيث اختفى لمدة 12 عاما لا يعرف أحد أين كان خلالها، ولا يعرف عنه الطفلان سوى
صورة قديمة له. يأخذ الأب طفليه بالقارب في رحلة إلى جزيرة معزولة، وفي مَشاهد
ينتاب المشاهدين خلالها مشاعر مختلطة ومضطربة بين كراهية الأب والتعاطف معه
والشفقة عليه وعلى الأبناء يُعلّم الأبُ أطفاله دروسا في الحياة، دافعها النبل
والمحبة من وجهة نظره هو، لكنها قاسية على الطفلين وجمهور الفيلم معا. إنه لغز لا
يُفك بسهولة، تلك العلاقة الشائكة بين هذا النوع من الآباء وأطفاله والطريقة التي
يختارها ليصنع منهم رجالا. إنه من الظلم أن نصف الأب بالقسوة ونكتفي بهذا الوصف،
فسلوكه القاسي كان مبعثه محبة صادقة، ولقد رأينا حبه لأبنائه حين أدت تصرفاته -غير
المقصود منها الشر- إلى وقوع الشر لأحد أطفاله. هنا رأينا الأب المنصهر حزنا وألما
وحبا لولده، وهنا نتعاطف معه، وقد نحبه أيضا. فكيف للقسوة والمحبة أن يجتمعا بهذا
الشكل؟!
قبل فيلم "المشوار
الأخير"، قدمت السينما الأسترالية نفسها أكثر من معالجة لعلاقة الأب بأبنائه.
أبرز تلك المعالجات فيلم "ذَهَبُ كولانجاتا" (أو "جائزة كولانجاتا
الذهبية". إخراج: إيجور أوزينس . إنتاج: 1984). الفيلم عن علاقة الابن الأصغر
بوالده وأخيه الأكبر. الأبناء هذه المرة ليسوا أطفالا. إنهم شباب. الأب الذي كان
بطلا في سباقات الجري في شبابه، يضغط على ابنه الأصغر (لوكاس) ليكون نسخة منه،
وكثيرا ما يقارن بينه وبين أخيه الأكبر (آدم)، الذي هو في رأي الأب، مثاليّ في كل
شيء. بسبب التفرقة في المعاملة التي يزرعها الأب بين أبنائه الإثنين، وبدافع يحدو
الابن الأصغر ليكف والده عن مقارنته بأخيه الأكبر على الدوام، بسبب من ذلك يقوم
الابن الأصغر بإفساد الأمر على أخيه الأكبر في السباق القادم، إذ في ليلة السباق
يرتب لأخيه حفلة ساهرة مليئة بالكحوليات، فيستيقظ الأخ الأكبر غير قادر على الجري
تلك المسافة الطويلة التي يتطلبها السباق. يفعل (لوكاس) ذلك بلا وعي منه، فهو يحب
أخيه الأكبر، لكن الحال كان قد ضاق به من مقارنة والده له بأخيه الأكبر
"المثالي في كل شيء". في حوارهما، يسأل (آدم) أخاه الأصغر بعتاب: لماذا
فعلتَ بي ذلك؟ فيجيبه: "لو لم تكن أنت رائعا جدا، لما بدوتُ أنا سيئا
جدا". بمعنى، وفقا لذلك السياق، أنه: لو لم يكن أبي يراك مثاليا في كل شيء، لَمَا
بدوتُ أنا رديئا في كل شيء. أنا لستُ رديئا إلا عند مقارنتهم لي بك. ولو فشلتَ
أنتَ مرة فلن تكون هناك مقارنة ولن أبدو أنا ردئيا/فاشلا. خلال الفيلم -الذي كنتُ
أبكي في الكثير من مشاهده لأنه يمس جانبا خاصا بي-، تأتي لحظات نتعاطف فيها مع
الأب ونتفهم لماذا يقوم بما يقوم به. إنه ليس شريرا بالفطرة (هل من أحد كذلك
حقا؟)، ولكن الشر هو في المنهج الذي يتبعه -بدافع المحبة- لتربية أبنائه وتحفيزهم
ليكونوا رجالا أشداء بالطريقة التي يريدها هو. ما يظن الأب أنه يحفزهم، هو في
الحقيقة يحبطهم. ما يظنه لصالحهم هو ضدهم. ما يراه فيضا من الحب نحوهم يرونه فيضا
من القسوة ضدهم. فكيف للمحبة والقسوة أن يجتمعا بهذا الشكل؟!
يأتي فيلم "المشوار
الأخير" ليطرح هذا الموضوع من زاوية جديدة. الأب الهارب من القانون يطوف مع
ابنه الصغير ربوع جنوب أستراليا وصحاريها في رحلة يريد منها أن تعلّم ابنَه دروسا
عديدة في الحياة. ما الذي يمكن أن يقدمه أب هارب من وجه العدالة -بسبب جريمة
ارتكبها- لطفل كان حريا به أن يكون بين أقرانه على مقاعد الدراسة؟ ستعرفنا نهاية
الفيلم أن هذا الأب، الذي سنكرهه في معظم مَشاهد الفيلم، قد قدم الشيء الكثير
للطفل. سنرى الأب يضرب ابنه، وسنراه يعلمه السباحة عن طريق إلقائه في بركة الماء
فجأة، وحين يصرخ الطفل -الذي يكاد يغرق- أنه لا يجيد السباحة، سنرى الأب يرد
بقناعة: "هذه هي أفضل طريقة للتعلم". لكن الطفل حقا يتعلم السباحة. قرب
نهاية الفيلم، سنعرف ما الجريمة التي ارتكبها الاب ويطارده عليها القانون، ولماذا
يفر مع ابنه هائما في سيوح أستراليا. لقد حطم الأب وجه أحد أصدقائه عندما رآه يوما
يتحرش بولده. كان الطفل لحظتها غافلا عما ينتوي صديق والده المحبوب لديه ان يفعله
به، فإذا بالغريزة الأبوية تدفع بالأب الغاضب ليهوي باللكمات على وجه من يعتدي على
طفله البرئ، لكن لكماته تنتهي بقتل الصديق، وهنا يصبح الأب فارا من العدالة مع ابنه
الذي لا يوجد من يرعاه. يصبح الأب طريدا لجريمة أوقعه فيها حبه لولده وغريزة
حمايته عند الاعتداء. هذا الأب الذي ظنناه قاسيا في معظم مشاهد الفيلم، هو في
الحقيقة الحامي الأكبر لطفله. إنه يعرف أن بقاءه حاميا لطفله لن يدوم طويلا (لأنه
مطلوب للعدالة)، ولذا يسرّع عملية تعليم الطفل دروسَ الاستقلالية في حياةٍ خشنة.
كل تلك الخشونة كان دافعها الرقة، وكل تلك الأذيّة للطفل كان هدفها تهيئته ليواجه
عالما لا يرحم، وهذا الأب الذي نكرهه لوهلة، لا نلبث أن نتعاطف معه، بل قد نحبه
أحيانا. فكيف للمحبة والقسوة أن يجتمعا بهذا الشكل؟!
No comments:
Post a Comment
Note: Only a member of this blog may post a comment.