كُتبت بالأصل في الثاني من يناير 2009.. ونُشرت في وقتها في مجلة الرؤيا.
سنة صعبة يا جميل!
يتوعدنا خبراء
الاقتصاد حول العالم بأن سنة 2009 ستكون صعبة على الجميع في مختلف بلاد العالم..
فالصورة التي يروجها الإعلام هي أن النصف الأول من 2009 على الأقل –إن لم يكن
السنة بكاملها- سيشهد المزيد من الآثار السلبية للأزمة الاقتصادية العالمية. إذ من
المتوقع انهيار بعض الصناعات أو توقف نموها، وأن تقوم بعض الشركات بتسريح موظفيها
أو تكف عن تعيين موظفين جددا وهو ما يعني ارتفاع نسبة البطالة، فضلا عن ذلك فإن
بعض الدول ستجمد الكثير من برامجها التنموية وتعلق تنفيذها حتى إشعار آخر، أما
أصحاب الصناعات الصغيرة والمتوسطة فهم مهددون بفترة صعبة وبتقلص فادح في الأرباح
وربما تغلق الكثير من المؤسسات الصغيرة أبوابها. ليس السؤال هنا عما إذا كانت هذه
النبوءات جميعها صادقة ولا عن إلى متى يمكن أن يدوم الوضع هكذا، لكن السؤال الذي
يطرحه المرء هو: ألا يمكن أن تعود الأزمة الاقتصادية العالمية ببعض النفع على
البسطاء؟ إلى أي مدى سيتأثر المواطن العماني سواء أكان موظفا حكوميا أم في القطاع
الخاص أم باحثا عن عمل بآثار الأزمة الاقتصادية على الصعيد المحلي؟ أليس لكل أزمة
جانب خفي مشرق يمكن أن يحمل في طياته الأمل بغد أفضل؟ وهل علينا أن نتوقع 2009 سنة
صعبة حقا أم أننا سننجح في اجتيازها بأقل الخسائر؟
لغاية
الآن تبدو الآثار السلبية للأزمة المالية العالمية واضحة على فئات محددة فقط من
المواطنين منهم أصحاب الأسهم في أسواق المال الذين سجلوا خسائر قد لا يكون من
السهل تعويضها قريبا، كما تضرر سماسرة الأراضي والعقارات بانخفاض أسعار الأراضي
والبيوت بشكل واضح في بعض مناطق السلطنة.. وهذه النقطة بالتحديد لها جانبان.. فمن
خسروا هم في معظمهم من السماسرة الذين
أذاقوا الناس العذاب في السنتين الماضيتين بممارساتهم الجشعة في أعمال المضاربات
التي أدت إلى ارتفاع جنوني في أسعار الأراضي والمنازل بلا سبب وجيه. إذا أردنا
الصراحة فإن هؤلاء يستحقون الخسارة لأن ممارساتهم كانت من الأصل غير شرعية ولا
أخلاقية، بل كانت على العكس من ذلك، مضرة بعموم الناس.. شهد عام 2008 أزمة ارتفاع
أسعار البيوت والأراضي بحيث أصبح المواطن العماني ذو الدخل البسيط والمتوسط غير
قادر مطلقا حتى أن يحلم ببيت يأوي فيه أسرته. لا أخجل هنا من أن أتخذ نفسي مثالا
لمن أيقنوا أنه بسبب جشع السماسرة وتقصير جهات الاختصاص في كبح ظاهرة غلاء الأسعار
قد فقدوا الحلم بأن يكون لديهم منزل صغير يؤويهم على هذه الأرض التي أشبعها التجار
الجشعون غلاءً وحولوها إلى مكان لا يستطيع أبناء البلد أن يجدوا لهم موطئ قدم فيه.
إذا أخذنا خريج الجامعة مثالا للحديث، وهو الذي ينال مرتبا يصل حاليا نحو 620
ريالا بعد مرور 5 سنوات على تعيينه بإحدى الوزارات الحكومية، كيف لشخص مثل هذا أن
يحلم يوما ببيت يبنيه أو يشتريه جاهزا في ظل حقيقة أن أرخص بيت جديد في مسقط مكون
من طابق واحد قد وصل سعره بنهاية عام 2008 إلى 80 ألف ريال عماني؟ إذا كانت أعلى
سلفية يمنحها بنك محلي مقدارها 80 ضعفا للمرتب، أي حوالي 50 ألف ريال لمن يبلغ
راتبه 620 ريالا شهريا، فماذا تفعل هذه النقود إذا كان أرخص بيت من طابق واحد، في
العامرات تحديدا—وهي أرخص مكان متاح في مسقط، يصل سعره إلى 80 ألفا؟ ماذا تفعل 50
ألفا إذا كان سعر الأرض في العامرات في المناطق التي وصلتها الخدمات قد فاق
الثلاثين ألفا؟! ما حصل في 2008 هو الجنون بعينه، ولقد نجح التجار ومن يقف خلفهم
من مستغلي المناصب في خداع الناس بأن ذلك كان نتيجة للغلاء العالمي.. إن الغلاء
المحلي كان معظمه في حقيقة الأمر نتيجة لتصرفات جشعة لم تجد من يلجمها فاستفحلت
وتوحشت وكادت أن تجعل من عمان بلدا غير ممكن السكنى للعمانيين!
قادت
الأزمة الاقتصادية العالمية إلى ركود في سوق العقارات في الدول الغربية لامتناع
البنوك عن الإقراض وتخوف الناس من العجز عن سداد أقساطهم إذا ما اشتروا عقارا
مرهونا، أما في بلداننا الخليجية فإن آثار الأزمة الاقتصادية على سوق العقارات لا
زالت جزئية.. لقد انخفضت أسعار الأراضي بعض الشيء في المناطق غير الخدمية، كما
رخصت قليلا أسعار البيوت في بعض المناطق، لكن غالبية المناطق لم تتأثر بعد لكون أن
السماسرة لازالوا قادرين على المناورة بانتظار ما ستسفر عنه الشهور القريبة
القادمة.. يعود السماسرة مرة أخرى ليكونوا اللاعب رقم واحد في فترة الأزمة المالية
العالمية مثلما كانوا أنفسهم اللاعب الأول في فترة طفرة ارتفاع الأسعار عامي 2007
و2008. لم يتغير شيء بعد في عقلية هؤلاء، فجيوبهم المتخمة بالمال وأدمغتهم المثخنة
بالجشع لا زالت كما هي. إنهم يفضلون أن تظل البنايات التي بنوها خاوية على أن
يبيعوها أو يؤجروها بأسعار معقولة، رغم علمهم المسبق بأن الأسعار التي يضعونها
لهذه العقارات مبالغ فيها وتمثل صورة صريحة من صور الاحتكار والجشع والإضرار
بمصالح الوطن والمواطنين. لا يعرف المرء إلى متى سيستطيع هؤلاء المقاومة قد أن
يبدأوا بالرضوخ لضغوطات السوق والواقع ويخفضوا أسعار العقارات ويعودوا بها إلى
المبالغ الفعلية التي تستحقها. إنه لا معنى بالمرة أن تكون قيمة أرض صغيرة في
المعبيلة 60 ألفا فما فوق. هذا الرقم غير منطقي بكل المقاييس ولا يعني شيئا سوى أن
الجشع والاستغلال قد وصلا أبعد مدى ولم يجدا ضوابط أو قوانين فاعلة تكبح جماحهما
وتضع المصلحة العامة فوق المصلحة الخاصة لتلك الفئة المحدودة من ملاك العقارات
الذين يريدون الثراء الفاحش –وليس الثراء المعقول والمشروع- ولو على حساب مئات
الألوف من ذوي الدخل المحدود والمتوسط. إن إحدى إيجابيات الأزمة الاقتصادية
العالمية المتوقعة بالنسبة للإنسان العادي هي احتمالية انخفاض أسعار الأراضي
والبيوت بحيث تعود لأسعارها الحقيقية الطبيعية وتصبح في متناول يد الطبقة المتوسطة
من المواطنين. إن الجشع الحالي في الأسعار يؤدي إلى تحول الطبقة الاجتماعية الوسطى
إلى طبقة فقيرة، وهو أمر مزعج للغاية كون الطبقة المتوسطة هي طبقة المتعلمين
والخريجين الجامعيين والمثقفين المعوّل عليهم المساهمة في مجالات الإبداع المختلفة
من سياسة وعلوم وأدب وطب وغيرها، وانهيار هذه الطبقة وتحولها إلى طبقة فقيرة من
العمال الكادحين يعني غوص الاقتصاد في نمط الأشغال اليدوية البسيطة وبالتالي غياب
الإنتاجية والمبادرات الخلاقة، وهو ما يعني تحول المجتمع إلى طبقتين فقط وليس
ثلاثا هما طبقة الأرستقراطيين ذات الأقلية العددية البسيطة التي تتحكم في مصير
الطبقة الثانية المكونة من الشغّيلة والعمال البسطاء. إن هذا السيناريو مرعب لأنه
يعني وجود نظام قائم على ثنائية المالك والأجير مع غياب الطبقة الوسطى التي تصنع
التوازن الحقيقي في أي مجتمع. حين يفكر المرء بأن لكل شيء جانبا مشرقا، حتى
للكوارث، فإن الحسنة المأمولة للأزمة الاقتصادية العالمية على الصعيد المحلي هي أن
نشهد عودة الطبقة العمانية الوسطى إلى ممارسة دورها الطبيعي الذي كان موجودا ذات
يوم قبل استفحال جشع الإقطاعيين الجدد من التجار والسماسرة. إن أول ما يحتاجه
أفراد الطبقة الوسطى هو تأمين متطلبات الحياة الرئيسية وعلى رأسها المسكن الملائم،
فبدون هذا لن تكون الطبقة الوسطى وسطى ولكنها ستكون معدمة حالها حال الطبقة
الدنيا. يأمل المرء صدقا أن تعصف الأزمة الاقتصادية العالمية بغطرسة الجشعين من
الاحتكاريين ممن لم يفعلوا شيئا في السنوات الماضية سوى تهجير العمانيين إلى كافة
دول الخليج بحثا عن لقمة العيش بعد أن انسدّت في وجوههم كافة أبواب الرزق في بلاد
ثرية يفتَرض بها أنها قادرة على إعالة أهلها!
قد
تعاني الطبقة الدنيا أكثر في عام 2009، فالأيدي العاملة الافتراضية –أي التي هي
حاليا خارج سوق العمل- والتي من المفترض أن تعمل في المهن ذات الخبرات البسيطة قد تزداد
في أوساطها نسبة البطالة، وما يخشاه المرء أن تبدأ بعض الشركات فعلا في تسريح عدد
من عمالها. إن أمنية المرء هنا هي ألا تدوم الأزمة الاقتصادية العالمية طويلا، كما
أن بعض العزاء سيتحقق لو أسفرت هذه الأزمة عن نيل الطبقة المتوسطة بعضا من حقوقها
المسلوبة حاليا وعلى رأسها حق المقدرة الشرائية لامتلاك منزل. على أية حال فإن
انخفاض السلع الأساسية –وعلى رأسها المواد الغذائية- أمر متوقع كإحدى ثمرات الأزمة
المالية الدولية.. قد يفيد هذا الانخفاض الطبقة الدنيا ويخفف من أعبائها. لقد
بدأنا نشهد فعليا انخفاضا طفيفا في أسعار بعض السلع الاستهلاكية، وهو ما نتمنى له
الاستمرارية من أجل البسطاء من الناس الذين أرهقهم الغلاء ووقفت الجهود المبذولة
قاصرة عن فعل شيء جذري وفعال للتخفيف من معاناة الناس.
هي
سنة صعبة علينا مثلما هي صعبة على بقية العالم، ولكن هناك أمل في أن يستفيد منها
البعض في استرداد بعض حقوقهم المسلوبة المتمثلة في توافر مسكن –تمليكا أو
استئجارا- بأسعار مناسبة، وكذلك القدرة على الحصول على المواد الاستهلاكية
الأساسية بأسعار لا تحوّل حياة الناس إلى جحيم.. إن جميع مؤسسات الدولة مدعوة
للنظر إلى سنة 2009 باعتبارها سنة للوقوف إلى جوار المواطن البسيط، وليس المطلوب
أكثر من بعض الرحمة بالناس وذلك بالوقوف في وجه سماسرة الأزمات ومستغليها من ملاك
العقارات وملوك المضاربات المتوحشة على الأراضي والعقارات واللحوم والأسماك وحليب
الأطفال.
No comments:
Post a Comment
Note: Only a member of this blog may post a comment.