هل محاربة داعش ستقضي على التطرف؟
بغض
النظر عن الدوافع الحقيقية للحلف العالمي المكون من 40 دولة والتي يشن البعض منها
حاليا غارات على تنظيم داعش الإرهابي الممتد بين العراق وسوريا، فإن وقف زحف هذا
التنظيم الإرهابي قد أصبح ضرورة عالمية، ومطلبا إنسانيا. أما الضرورة العالمية،
فهي أن هذا التنظيم لديه أهداف توسعية استعمارية، والفكر الذي يتبناه هذا التنظيم
يهدد السلم العالمي، وينشر روح الكراهية والعنف بشكل مقيت، هذا فضلا عن أنّ مقاتلي
التنظيم الذين يعودون لبلدانهم –في الشرق والغرب- يشكلون احتمالية تنظيم خلايا
إرهابية تقوم بأعمال تخريبية في تلك البلدان. أما الناحية الإنسانية التي تدعو
لضرورة التصدي لهذا التنظيم، فهي أن هناك بشرا لاقوا التنكيل الحقيقي بهم في
المناطق التي سيطر عليها هؤلاء المقاتلون العنيفون المتعطشون للدماء، فشردوا مئات
الالوف من المسيحيين وطوائف أخرى، واغتصبوا نساء بلا حصر، وقطّعوا الرؤوس بأبشع
فصل في تاريخ كتاب التعذيب عبر العصور، وفرضوا الذعر في مجتمعات كانت آمنة قبلهم.
من ناحية المبدأ، إذن، كان لابد من وقف زحف هذا التنظيم، بل والعمل على القضاء
عليه في المعاقل التي احتلها وألحق بها الخراب العميم وأذاق أهلها صنوف الترويع
والتنكيل. ومجددا، سأتجاوز دوافع الدول المشاركة في الخطة الطويلة المدى والمكلِّفة
جدا للقضاء العسكري على داعش ووقف تمددهم. سأتجاوز هذه الجزئية لأنها ليست موضوع
هذه المقالة، وأنتقل لسؤالي الذي يعنيني أكثر. هل يمكن بالقوة وحدها هزيمة داعش؟
قبل
أن تصبح داعش تنظيما مسلحا، كانت تيارا فكريا سلفيا. لا أستخدم كلمة سلفي هنا
للإشارة لمذهب محدد من المذاهب الإسلامية، وإنما أعني بها الفكر الديني المغلق الذي
يستقي رؤاه من نصوص الماضي ومرجعياته دونما مراعاة لمتطلبات العصر، والذي يَعْمَد
إلى اختيار الحزمة العنيفة من نصوص الماضي وتجاهل الحزمة المتسامحة. لقد كان أصحاب
الفكر الداعشي موجودين دوما بيننا في زماننا الراهن منذ مرحلة التخلص من الاستعمار
الغربي في النصف الثاني من القرن العشرين (هذا على أقل تقدير)، وازداد تأثيرهم تدريجيا
في السنوات الخمسين الأخيرة، حتى وصل حاليا إلى مرحلة التسلح وإقامة الدولة، حين
غدت الظروف السياسية ملائمة لهم. لقد كان حولنا دائما من يرهنون حياتهم بشروط
الماضي، سواء من رجال الفتوى أو الدعاة أو شيوخ الدين أو الأفراد العاديين، وكان
ضمن هؤلاء قطاع كبير لا يعرف إلا الركون التام لبضعة كتب ألفها بعض الأسلاف ممن لا
يُفترض أن نعود إلى كتاباتهم. أولئك قالوا ما يخص زمانهم، وزماننا ليس بحاجة للعودة
إليهم لنعيشه بمقتضياته التي يطلبها العصر. هذا هو الجذر الأساس للفكر الديني
المتشدد. إنه الاعتقاد بأنه علينا أن نرجع في كل شيء إلى ما كتبه فلان أو أفتى به
فلان أو قاله هذا النص أو ذاك. ويا ليت أنّ العودة للماضي كانت تعني العودة لكتب
المتقدمين في زمنهم ومَن مثلوا رموزا للانفتاح الذهني، ولكنها عودة لرموز الانغلاق
والتعصب. ببساطة، دولة داعش في لحظتها الراهنة هي تحقق عملي للفكر السلفي المنغلق.
إنها رفض للحاضر. هذا الفكر وحاملوه كان دوما بيننا وتشجعه حكوماتنا ويربينا الأهل
على بعض توجيهاته. فالنظر للمرأة بوصفها
عورة أو ناقصة عقل ودين، مثلا، هو جزء من هذا الفكر الشائع في الحياة اليومية.
وقِس عليه العشرات من التفاصيل الصغيرة –التي تخص حياة اليوم- ولكن لا يزال البعض
يريد تطبيق رأي الأسلاف فيها، كالغناء و وضع أحمر الشفاه والاختلاط والسفور وتعلّم
الموسيقى والنحت والرسم الخ.. والسؤال الآن: هل أنّ هزيمة داعش في العراق وسوريا،
لو تمّت، ستلغي هذا الفكر المتغلغل في مجتمعات العرب والمسلمين؟
إذا
كان ينبغي محاربة داعش، وهذه –كما قلتُ منذ البداية- ضرورة إنسانية وعالمية ملحة،
فإنه ينبغي بالضرورة محاربة الفكر الذي أنجبها. وهذا هو المأزق الحقيقي. يقول واقع
الحال أنه لم يصدر لغاية الآن من أية هيئة إسلامية معتبرة بيان رسمي يدين فكر
داعش، وكلنا نعرف الأسباب، وهي أن فكر داعش لم يأت من فراغ، لكنه أتى من بعض
النصوص المؤّسسة لأيديولوجيا هذه الأمة. إن إدانة فكر داعش غير ممكنة بالنسبة
لبلدان لدى كل واحدة منها مؤسسة رسمية مهمتها إخضاع حياة الناس وربط غالبية قوانين
البلاد وتشريعاتها بنفس الأيديولوجيا التي يعتنقها الدواعش. لأجل ذلك، فإن الحرب
على (الدولة الإسلامية) تعني في نفوس الكثيرين حربا على الإسلام نفسه، وهذا هو
السبب الذي جعل وسائل الإعلام العربية تتوقف منذ انطلاق الحرب ضد داعش عن استخدام
مصطلح تنظيم الدولة الإسلامية واستبداله بمصطلح داعش. إذ لو عدنا للوراء قليلا، فإن
التنظيم كان قد أسمى نفسه داعش في البداية (أي الدولة الإسلامية في
العراق والشام)، ثم تحول رسميا إلى (الدولة الإسلامية)، باعتبار طموحه العالمي.
وقد استخدمت وسائل الإعلام العربية هذا المسمى في الشهرين الماضيين. واليوم عادت
لتسمي هذا التنظيم باسم داعش، فقط لكي يبدو مستساغا لعموم المسلمين الهجوم عليه
بوصفه تنظيما إرهابيا، وليس بوصفه ممثلا شرعيا للخلافة الإسلامية التي يحلم
بتحققها كثير من البسطاء وتتبنى فكرها وفلسفتها تلك المؤسسات الرسمية في البلدان
الإسلامية المشاركة في الحرب على داعش!
لابد
من التدخل العسكري لوقف تمدد داعش، ولابد منه لتحرير الأراضي والشعوب التي احتلها
هؤلاء البرابرة. لكن لابد أيضا من "حرب تنويرية" ضد منابع الفكر
الداعشي، وهي حرب لن تقوم بها الحكومات، إما لأنها لا تستطيع ذلك، أو لأنها لا
ترغب فيه حماية لمصالح معينة. من يستطيع محاربة الفكر الداعشي ووقف إمداده
بمتطرفين جددا، هم ببساطة الأفراد وأولياء الأمور، وإلى جوارهم التنويريّون من
أصحاب الفكر السببي الذين يعملون على تبصير عموم الناس بالممارسات التي تخلق الفكر
المتشدد. إذا تمكن التنويريون من إصلاح مناهج التعليم، وكان لهم دور في وسائل
الإعلام ووزارات الثقافة ومنابر التوعية الاجتماعية، فإن طاقة مضخات توليد الفكر
المتطرف ستتقلص إلى أدنى مدى ممكن. أما الأهالي، فلن يكونوا لوحدهم قادرين على
تنشئة أجيال متسامحة ومتحلية بالفكر السببي طالما كانوا هم ايضا مربوطين بالماضي
الذي ترعاه مؤسسات الدولية الرسمية من وزارات دينية وسواها، لكنهم سيستطيعون فعل
الكثير بعد ان يبدأ التنويريون العمل. لكن هل يستطيع المفكرون الطليعيون أن يفعلوا
شيئا في أوساط شعوب تنتظر بفارغ اللهفة دخول طلائع داعش إلى أراضيها لينضموا
إليهم؟
اليوم..
تلجأ أجهزة الاستخبارات العربية للتنويريين ليحاربوا الفكر الداعشي بدلا عنهم. لقد
كانوا بالأمس هم رعاة القيادات الفكرية التي أدت إلى نشوئه. إن الدول التي تدفع
المليارات لهزيمة داعش عسكريا، عليها ان تدرك أن خططها قد تنجح فقط في السيطرة عسكريا
على هذا التنظيم في العراق والشام فحسب. أما تجفيف منابع هذا الفكر في المنطقة
العربية فهو يأتي بالتوقف عن دعم المؤسسات الماضوية في هذه البلدان والتي تُفرد
لها حكومات هذه الدول كافة وسائلها الإعلامية وتسن قوانينها بناء على رؤاها. إن
رضى دولةٍ ما بتحريم أو تجريم أي سلوك يدخل في نطاق الحريات الفردية لأسباب
أيديولوجية، وقيامها ببناء قوانينها المدنية وفقا لما قاله السلف، هو بالضرورة
لبنة تضاف لجهودها الجبارة في بناء الجيل الجديد من مقاتلي داعش. والعكس صحيح!
وكمثال فقط، كيف تعتقد دولة مثل السعودية أنها تستطيع محاربة الفكر الذي يولد
الإرهابيين، بينما توجد ضمن مؤسساتها الرسمية هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر التي لا تختلف في منطلقاتها الفكرية عن فكر داعش؟ وإذا كانت هيئة الحسبة
مثالا كبيرا واضحا وضوح الشمس على الفكر المتشدد ضمن مؤسسات الدولة وقوانينها،
فهناك عشرات الأمثلة التي لا تحصى من تفاصيل الحياة اليومية توضح أن محاربة الفكر
الداعشي تبدأ في اللحظة التي تَفْصُلُ فيها الحكومات دساتيرَها ومؤسساتها
القانونية عن المرجعيات الماضوية المتعارضة مع الحريات الفردية وحقوق الإنسان
المعاصرة. ما لم يحصل هذا الفصل، والذي لن تفعله الحكومات يوما إلا ربما بعد ضغط
شديد من التنويريين، فإن محاربة داعش في سوريا والعراق ستكون مجرد علاج جزئي
لمشكلة كبيرة. عموما، الحكومات وأجهزتها الأمنية خائفون الآن من داعش، ويريدون من
التنويريين أن يحاربوا عنهم في الجبهة الداخلية، ولكنهم أيضا غير مستعدين للاعتراف
بأن أنظمتهم تحمي الفكر الذي تترعرع في تربته النباتات الضارة. فإلى أين تتجه هذه
الحبكة المعقدة في هذا المسلسل الطويل الذي ابتدأ منذ بداية التاريخ ويتجه
للاستمرار حتى الأبدية؟