صعود أنماط الحياة البديلة*
قناة
"ناشيونال جيوجرافيك-أبوظبي" التي يشاهدها اليوم الآلاف في ربوع الوطن
العربي، نموذج ممتاز لواحدة من الممارسات الاجتماعية/الثقافية الحديثة المرتبطة
بما أود تسميته بـ "صعود أنماط الحياة البديلة". "الحياة
البديلة"، في السياق الذي أتحدث عنه، هي حياة مرتبطة ببروز أنماط من التفكير
والممارسات كانت قبل نحو أربعين عاما أو أقل تعتبر شاذة وغير مفكَّر بها. من أنماط
الحياة البديلة الصاعدة حول العالم اتساع رقعة الممارسات الفردية المرتبطة بالحفاظ
على البيئة والدالة على انتشار الوعي البيئي، والاهتمام بصحة الفرد والتغذية
السليمة المتوازنة، وانتشار الزراعة العضوية، وتجرؤ العقلانيين والعلمانيين
والتنويريين على الظهور علنا –ولو في تجمعات صغيرة محدودة- في مجتمعات تنخرها
الخرافة من الوريد إلى الوريد. إنه لأمر عظيم دون شك أن يتجه المزيد من الناس إلى
مثل هذه الأنماط الحياتية البديلة، الجديدة في مرجعياتها الثقافية، وهي مرجعيات
مختلفة تميزها عن مرجعيات جيل الآباء والأجداد. إنها لعلامة على بلوغ الحضارة
البشرية مراتب راقية تعتمد أكثر على العقل والمنطق والتفكير السببي، وتتسم بحس عال
بالمسؤولية الاجتماعية تجاه الأخوّة الإنسانية وتجاه البيئة من حولنا وإزاء قضايا المحيط
الحيوي لكوكب الأرض برمته. صحيح أن البدانة في ازدياد، لكن الأطعمة العضوية والوعي
بأساسيات التغذية السليمة هو الآخر في ازدياد. صحيح أن هناك قتلة عميان بأسماء
مختلف الأديان، لكن هناك دعاة سلام إنسانيو النزعة لا ينطلق نزوعهم الإنساني الخَيِّر
من محدودية دين بعينه. صحيح أن وتيرة قطع الغابات في ازدياد، لكن أعداد الخَضر
ومعانقي الأشجار هي أيضا في ازدياد.
كثير
من الأشياء كانت قبل أربعين عاما أو أقل سلوكيات معزولة يتجاسر على ممارستها قلة
بسيطة من الناس، إلا أنها آخذة الآن في الانتشار على نطاق واسع، في تبدل واضح
لمعايير الكثير من الأشياء. صعود العلوم هو السبب وراء صعود أنماط الحياة البديلة،
فعندما بتنا نعرف المزيد عن أنفسنا والمحيط الحيوي من حولنا، صرنا أكثر دراية
بقربنا وعلاقتنا المشتركة ببقية مخلوقات الأرض من أجناس مختلفة من البشر وحيوانات
ونباتات وغيرها، ولذا زاد حسنا الإنساني بالمسؤولية إزاءها. حتى بعض المؤسسات
الدينية قد اضطرت لتغيير مواقفها المتزمتة من قضايا معينة لأنها أدركت أن صعود
أنماط الحياة البديلة ستعزل الناس عنها، فها هي الكنيسة الكاثوليكية، ومن مقر أعلى
سُلطة فيها، تعلن أن نظرية النشوء والارتقاء لتشارلز داروِن لم تكن يوما متعارضة
مع أفكار الكنيسة! إنه صعود العلم الذي يترك الآخرين معزولين إذا لم يأخذوا بأصول
التفكير السببي في فهم الحياة والتعامل معها. المفارقة المضحكة، أن شعراء
"الحداثة" العربية هم الوحيدون الباقون لغاية الآن بعيدين عن أي تأثر
بأنماط الحياة البديلة التي تسود العالم من حولهم، فلا هم يعرفون شيئا عن البيئة
أو يحسون بشئ من قضاياها (وقد كفوا عن التغزل بالفراشات والزهور لأن ذلك لا يليق
إلا بالشعراء التقليديين)! كما أنهم هم الوحيدون الذين لم يسمعوا بعد بالأغذية
العضوية، ولم يقرأوا لريتشارد دوكينز، ويجهلون تماما من يكون ديفيد أتنبوروج!
التغير
آخذ في التسارع نحو أنماط الحياة البديلة على مستوى القاعدة الشعبية من الناس، لكن
القوى التقليدية (الدينية والاقتصادية والسياسية، على نحو أخص) ما زالت تمسك بزمام
الأمور حول العالم. إنهم رجال سياسة متدينون، أمثال جورج بوش، مَن يشنون الحروب
حول العالم. إنهم رجال دين مَن يقفون ضد استخدام المناظير الفلكية لمشاهدة هلال
رمضان والعيدين. إنهم أصحاب مصانع برجر ونقانق مَن يستمرؤون إنتاج الأغذية المسببة
للبدانة والأمراض. لكن هناك قاعدة عريضة تتنامى ممن رموا البرجر في سلة المهملات
مرة وإلى الأبد وتذوقوا لذة حبوب فول الصويا العضوية، مثلما قفز بعضهم عن الجرافة
وعانق شجرة، أو ترك معتقدا عتيقا باليا كي لا يصير محدودا بجماعة أو عقيدة أو
طائفة، لأنه اختار أن تكون الإنسانية جمعاء عائلته الكبيرة. هناك من هجروا أفلام
جيمس بوند إلى وثائقيات الـ (بي بي سي) عن الطبيعة، ومن رموا الريموت كونترول
وكفوا عن تقليب الفضائيات وخرجوا للتنزه سويعة في الجوار ليتعرفوا - ربما
لأول مرة- على تفاصيل الحي الذي يسكنون فيه!.
لو
كانت قناة "ناشيونال جيوجرافيك-أبو ظبي" قد ظهرت قبل عشرين عاما لما كان
شاهدها سوى قلة محدودة للغاية من الناس، لكن عدد من يستنيرون اليوم ببرامجها
التثقيفية الراقية هم مجموعة غير بسيطة مولعون بها. إنه صعود العلم والتفكير
السببي ونجاح التكنولوجيا في تقريب الشعوب وتبادل وجهات النظر المختلفة هو ما جعل
التربة مهيأة لتنمو وتورق أنماط الحياة البديلة وتكتسب قاعدة شعبية متنامية حول
العالم. سيبقى الأشرار هناك دوما يعيثون في الأرض فسادا، ولكن سيولد في كل يوم عدد
أكبر -عمن ولدوا في اليوم السابق- ممن يكرهون الحروب ويقفون ضد قمع الأفكار وتدمير
البلدان، ليجعلوا من هذا العالم مكانا أفضل للعيش.
*كتبت في 18 سبتمبر 2011 ونشرت آنذاك في جريدة الرؤية العمانية.
No comments:
Post a Comment
Note: Only a member of this blog may post a comment.