صداقة في الهواء الطلق
يمتزج صوت تساقط أوراق الليمون الجافة –من الشجرة التي تبعد
عني ثلاثة أمتار فحسب- بصوت زقزقة عصافير على مبعدة عدة أمتار، متخذة من النخيل
الشامخات مَواطنَ آمنةً لها. ومن البعيد يأتي متقطعا صوتُ آلة حفر مزعجة (لكن لي
من العزيمة ما يجعلني قادرا على تجاهلها). أما أصوات السيارات فـ بالكاد تهتم لها
أذني. إن ما يأخذني حقا هو نسمات الهواء العليل حولي، فأنا أكتب لأول مرة في حياتي
في الهواء الطلق.
في الهواء الطلق سأتحدث عنكِ أيتها الصداقة. سأناجيكَ
أيها الشعور بالتناغم مع كل شيء حولي. في هواء المحبة النقي أقدم نفسي قربانا
لمتعة الروح ونعيم الجسد المتخفف من الأثقال. أنا أجلس في زاوية منزلي التي
يسمونها في أوراق البلدية "ارتدادات"، حيث لا يتردد عليّ هنا إلا كل شيء
جميل. يروح النسيم ويجئ، وتتمايل وريقات الشجيرات المزروعة في الأحواض (إذ لا مجال
لغرسها في التربة لضيق المساحة). أما أصوات الطيور بشتى أنواعها فهي تتراقصُ معلنة
تكوين العلاقات والدعوة لتأسيس الشراكات. إنها روح الصداقة تهفهف من حولي. ربما
أشعر بحاجتي لصديق يجلس معي على هذه الكنبة، لنفتح صدورنا لبعضنا ونتشارك أقداح
الشاي ذي الرائحة العطرية—الشاي الذي لا يحلو إلا مع الأصدقاء. ربما أحتاج لصديق
الآن، ولكن لا بأس إن لم يكن أحدهم متواجدا حولي هذه اللحظة (فليس الجميع في إجازة
سنوية مثلي)، ولكن ذلك لا يهم، فإن غاب الصديق فالصداقة حاضرة. إنها حاضرة بقوة
الآن بكل دفئها وبهجتها وحميميتها ونجومها اللامعة.
أكتب لأول مرة في الهواء الطلق، بعد أن تم كل ما كتبته
من قبل في حياتي في غرف مغلقة: حجرات منزلية، مقاهٍ و حانات، ومكاتب عمل. هذه
المرة أكتشف لذة الكتابة في الهواء الطلق. لا شيء أجمل من هذا الجو ليتنفس فيه
المرء هواءً عليلا؛ لا باردا ولا حارا. لا شيء أجمل من حديقة منزل صغيرة حتى يشعر
المرء أنه في مملكة يحسده عليها الآخرون. لماذا تأخرتْ ستة أعوام كاملة مسألةُ جلبِ
كنبةٍ مريحة وطاولة صغيرة أضعهما في ناحية البيت لأجلس وأستمتع بالحياة من حولي؟
لماذا ضاعت خمسة فصول شتاء ومثلها من فصول الربيع القصير قبل أن يَهديني عقلي
لفكرة أنّ حياتي ممكن أن تصبح أحسن بكثير بمجرد الجلوس ساعتين نهارا في حوش البيت
الظليل؟ لاشك أني انتبهت لأهمية هذا الأمر الآن فحسب لأنني الآن فحسب قد قررت أن
أعيش حياتي بمتعة كاملة. أريد لسنواتي القادمة أكبرَ رصيدٍ من المتعة والمحبة.
أريد أن أستمتع بصداقاتي وأحاديثي ومشروباتي وأطعمتي وعلاقاتي (ما ظهر منها وما
بطن). أريد للمحبة والرغبة في الحياة أن تكون قرونَ استشعاري لمناطقَ الجمال في كل
شيء. فيكِ أيتها الضحكة سأبث بذور انتشائي، ويا أيتها النكتة فلتظلل غيومُ بهجتك
كل رفاقي ومعارفي. ويا أيها الحضن فلتتشرب كلَّ ألمٍ أو لحظةِ حزنٍ وتأخذها بعيدا
عن نفوسنا. فلتمتص في جنتك –أيها الحضن- أيةَ شوكةِ سوءِ تفاهمٍ نبتت بالخطأ في
الدرب الوارف بالتفهم وحسن النية. ويا أيتها اليد الحانية فلتتشابك أصابعك بأصابعي
لنؤكد أننا معا أكثر صلابة ضد صعوبات الحياة. ويا أيتها القُبلة لا تخجلي من نفسك،
فأنت قِبلة المُريد لصفاء الروح ونعيم الولع. ويا أيها الكِتاب فلتفتح صفحاتك
للمعرفة والتجارب المثمرة، ولتغرقي نفوسنا يا قصائدُ و روايات بخفقات من النور
تجعل قلوبَنا تنبض من جديد.
عنكِ أيتها الصداقة أتحدث في الهواء الطلق، حيث كلي رغبة
في التسامح. كلي رغبة للتصالح مع الكون كله. أريد أن أتصالح مع جسدي فأرمم ما
أفسده تجاهل الماضي له فباء بآلام الأسنان وأمراض العصر. أريد أن أحبكَ أيها الجسد
لتحملني بخفة إلى القادم السعيد من أيامي. أريد ألا أحصر متعتي فيكَ أنتَ وحدكَ يا
مائي المقطّر بعناية، فليكن الشاي العطري –مثلا- زهرة جديدة في باقة اللذة. فليكن
المقهى في الهواء الطلق—وليس بالضرورة الحانة الغالية المفتوحة على بركة السباحة.
فليكن الفرح في كل شيء، وليتمرءى بكل الأشكال: في المزيد من ضحكات طفلتي وهي تقول
لي : "بابا انته تضحكني". فليكن فيكِ وأنتِ تكتبين لي –مشاكِسةً-
"فديتك"، وأنا أجيبك: "لا تكرري ذلك غاليتي فما أسرعني في
التصديق". فليكن في عصفورٍ حط على النافذة و فرّ قبل أن ألحق بتصويره. فليكن،
الفرحُ، في أغنية صغيرة ترسلها لي بصوتها صديقة من البعيد لتشاركنا جلسة طرب لم
تتمكن من حضورها. فلتجئ، يا أنتَ أيها النور السامي، على هيئة أيقونةِ قلبٍ خافق
يبعثها لك -بإحدى برامج التواصل الاجتماعي- إنسانٌ يفتقدك من مكان ما في هذا
العالم. فلتكن حتى فتاةً تحب تدخين الشيشة أجالسها وهي تنفخ دخانها في وجهي لأنها
تحب القيام بذلك للمرح. سأجد في هذا لذة بلا ريب. سأجد لذة حتى في بكائكِ عندما
يكون صدري هو المكان الوحيد الذي اخترتيه من بين كل صدور الرجال في الكون لتدفني
فيه أوجاعك وترميها إلى يوم يبعثون. في الهواء الطلق سأتنفس كل هذا، وسأكتب عنه
-عائدا للكتابة- بقلب يمد يديه للعالم للعناق. "سأسمي الذي ليس شَعبيْ.. شَعبي"،
وسأخطو بروح مهفهفة إلى حضنكِ النبيلِ الحميم، أيتها الصداقة؛ يا كنزَ الحياة
الأثمن.