"أنا
متمللة.. ساعدني"
إلى (ملكة الثلج)..
أول خيوط الوصل
-مرحبا.
مشغول؟
-لأ..
تفضلي
نصف
دقيقة صمت.. ثم تابعتْ: ملل.
ثم
نصف دقيقة صمت حتى سألتُها: اليوم ولا كل يوم؟
-كل
يوم تقريبا.
كانت
هذه البداية الحقيقية لأول حوار أجريه بماسنجر الفيسبوك مع شابة عمانية لا أعرفها.
شابة ضمن قائمة أصدقائي بالفيسبوك تكتب باسم مستعار. لم يكن هذا منذ زمن طويل،
فرغم أنني في الفيسبوك منذ عام 2008 إلا أن عدد أصدقائي هو 87 شخصا فقط، ولم أجرِ
حوارا مع أحد لا أعرفه حتى حدوث ذلك الحوار الذي تسبب به وجود فتاة ملولة، فتاة رغبتْ
بالتواصل معي بدافع الملل، فكانت أولَ شخصٍ لا أعرفه شخصيا يتواصل معي عبر ماسنجر
الفيسبوك. ما حكايتُكَ أيها الملل؟ ولماذا الكل يشكو منك؟ مهلا.. هل هو الكل فعلا،
أم البعض؟ وهل هناك فئة عمرية معينة هي الأكثر ضجرا؟
بالنسبة
للكثيرين، ما الحياة إلا رحلةُ تجزيرٍ للوقت. قتلٌ له بالمسليات والمُلهيات. ليس
بوسع الكائن البشري أن يكون دائما قبطانُ وقتِهِ، بمعنى أن يكون المسيطر والمتحكم
دائما في يومه وساعاته. ثمة بشر لم يحددوا هدفا معينا لحياتهم يسعون وراءه، هؤلاء
هم الغالبية العظمى من الناس في كل الثقافات. كل صراعهم مع الحياة هو صراع مع
كيفية تمرير الوقت والحصول على بعض المرح والتسلية. هل هؤلاء سعداء أم ملولون؟ وهل
السعادة هي عدم الشعور بالملل؟ لنرجئ قليلا التفكير في هؤلاء لنتساءل بشأن تلك
القلة من الناس الذين حددوا هدفا صارما لحياتهم، سواء كهدف مرحلي مؤقت أو كهدف عام
دائم. هل هؤلاء أقل وقوعا في شِراك الملل؟ مثلا الطالب الجامعي الذي يقرر التفوق
ويضعا هدفا رئيسيا له، أو الموظف الذي يريد صعود سلم النجاح بسرعة، هل كل حياة
هؤلاء هي مطاردة لذلك الهدف واشتغال على تحقيقه؟ بالطبع الأمر ليس هكذا قطعا، ففي
الـ 24 ساعة هناك الكثير من الوقت الذي يقضيه المرء بعيدا عن مطاردة هدفه الأسمى.
الطالب الجامعي لن يذاكر طوال اليوم، ومهما ذاكر فسوف تتبقى له سويعات من يومه
تحتاج لِأنْ يملأها بشيء. العامل الساعي للتمكين الوظيفي هو أيضا لديه ساعات طويلة
عليه أن يقضيها خارج محيط العمل، فماذا هو فاعل بوقته؟ إنه مهما كانت شخصية المرء
من حيث امتلاكه هدفا يطارده في حياته أو كونه شخصا قد ترك الأيام تسيّر مصيره، ففي
نهاية المطاف هناك وقت كبير لابد أن يشغله المرء بشيء. هذا الوقت الكبير هو ما
يُوجِد الأرضية الخصبة للإحساس بالملل.
تتفاوت
أنصبة الناس من الملل بتفاوت ظروف حياتهم، وباختلاف تركيبتهم الشخصية وحساسيتهم
الذاتية تجاه هذا الأمر. هناك أفراد تشغلهم عائلاتهم ويحبون دوما التواجد بين
إخوانهم وأقاربهم، يتجاذبون الحديث والضحكات وينشغلون بما يشغل بال الآخرين
ويتفاعلون مع أهم أحداث حياتهم. لهؤلاء –بصفة عامة- فرصة أضعف في الشعور بالملل،
ومع ذلك فإن فيهم من سيشعرون به بمجرد اختفاء غلالة الانشغال الاجتماعي تلك وخلو
المرء إلى نفسه. ومنهم من لن يشعروا بالملل، فإذا انفض الأقارب كان هناك
التليفزيون، أو القراءة، أو كرة القدم، أو النوم، أو وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة
للجزء المتبقي من يومهم.
يتراءى
لي –في تقديري الشخصي للأمر- أنّ المراهقين، وطلبة الجامعات، والموظفين الجدد، هم
أكثر الأشخاص شعورا بالممل. فلنقل إذن هم الأشخاص في الفئة العمرية بين 14 و 28
سنة تقريبا. ليس صعبا أن نفكر لماذا يشعر هؤلاء بالملل أكثر من غيرهم. إنها
هرمونات النمو التي تجعل المرء مليئا بالطاقة، مثلما هي روح الشباب التي تجعل
الذهن راغبا في الانشغال الدائم بإنجاز شيءٍ ما والتوق الواضح إلى التغيير. من
تجاوزوا تلك الأعمار يشعرون بالملل بدرجة أقل غالبا، فمعظمهم تكون لديهم حياة
اجتماعية لها التزاماتها ومتطلباتها ومشاويرها المتعددة التي لا تُبقي لديهم أصلا
وقتا حتى يشعروا فيه بالضجر، ولديهم أيضا طموح تحسين الوضع المالي الذي يضطرهم
لقضاء ساعات عمل طويلة في أكثر من وظيفة أحيانا، ولديهم رفاق ثابتون يلتقون بهم
بين وقت وآخر، وتلك هي متعتهم الأهم. إن المفارقة هي أنّ أفراد الفئة العمرية بين
14 و 28 سنة، وعلى الرغم من تمتعهم بعدد أكبر من الزملاء والرفاق حولهم، فإنهم
يبدون الأكثر تبرما وضجرا. لماذا؟ لأن رفاقهم مثلهم يشعرون بالضجر! ما الذي يفعله
طالب المدرسة بعد عودة رفاقه إلى بيوتهم؟ ما الذي يفعله طالب الجامعة في الفراغ
بين محاضرتين، وبعد عودته للبيت، وفي عطلة نهاية الأسبوع؟ ما الذي يفعله الموظف
المغترب من إحدى الولايات في مسقط بعد انتهاء ساعات الدوام؟ جميع هؤلاء يبحثون عن
طريقة لتجزير الوقت ويستغيثون من وحش متربص بهم دوما اسمه الملل.
أحاول
استعادة فترة مراهقتي ودراستي في الجامعة، أي أنني أتكلم عن العشر سنوات بين 1985
و 1995—سنة تخرجي من الجامعة. هل كنتُ أشعر بملل شديد؟ هل كان من حولي يستغيثون من
الملل بنفس الحدة التي يتشكى فيها الشباب اليوم من الملل، وبنفس المقدار الذي دفع
تلك الشابة لتفتح دردشة إلكترونية مع شخص غريب فقط لتهرب من الملل؟ لغاية عام 1986
لم يكن لدينا هاتف ثابت بالبيت، فقد وصل الهاتف تلك السنة. ولعل الكهرباء الحكومية
قد سبقته بثلاث سنوات تقريبا. اما الهاتف المحمول فقد ظهر في نوفمبر 1996. لقد
كانت سنوات ليس فيها مجال لتزجية الوقت بأي شيء من معطيات التقنية الرقمية المتاحة
حاليا. لم يكن هناك إلا التليفزيون بقناتين فقط، عمان وأبوظبي! لقد كنت شخصيا
مراهقا منطويا إلى حد ما، وأحب القراءة والكتابة، ولو تركت الحديث عن نفسي وتحدثت
عن أقراني الذكور فقد كانوا يتميزون عني بلعب كرة القدم عصرا وهو ما لم أكن أفعله.
عدا ذلك فقد عاش الجميع حياة متشابهة تقريبا في كل شيء، ولم تمر على أسماعي وقتها
كلمة "ملل" إلا نادرا جدا. كنا نقضي معظم الوقت داخل بيوتنا مع عوائلنا
الكبيرة العدد، تتخلل الوقت زيارات الجيران والأقارب، ونقضي وقتا نستمتع فيه
بالمسلسلات والأفلام المصرية والمسلسلات الأجنبية المترجمة وبرامج المنوعات. وننام
مبكرين. ورغم أننا شباب تحركنا نفس هرمونات النمو ونتمتع بذات الطاقة للعمل والتوق
للتغيير وروح التمرد التي يتمتع بها شباب اليوم، إلا أننا كنا أقل ضجرا بكثير مما
يعانيه جيل اليوم. لماذا يا ترى؟ أود لو أنني أترك الإجابة مفتوحة ليبحث عنها كل
قارئ في حياته الشخصية وحياة المحيطين به، لكني لا أستطيع أن أتجاهل ما أراه واضحا
بخصوص دور "العالم الافتراضي" في حياتنا المعاصرة في تعزيز الشعور
بالملل.
في
الماضي كانت لنا حياة واحدة، هي حياة الواقع. لم نعرف سواها. اليوم لكل منا حياة
واقعية وحياة واحدة عالأقل افتراضية، ولربما عدة حيوات افتراضية لمن لديه عدة
حسابات في الفيسبوك وتويتر بأسماء مستعارة. نستطيع اليوم قتل الوقت في حياتنا
الفعلية بنفس الطرق التي كنا نمرره بها قبل عام 2000، ولكن كيف نقتل وقتا افتراضيا
في حياة افتراضية؟ هذا هو التحدي الأكبر. جذر المشكلة هو أننا نسعى اليوم لتجزير
الوقت باستخدام هاتفنا المحمول وتطبيقاته المختلفة، ونكاد لا نملك وسيلة أخرى لفعل
ذلك. لقد اخترنا الأمر على هذا النحو. اخترنا أن نفكر في الوقت الافتراضي فقط، وهو
وقت مراوغ لأنه ليس من لحم و دم. والصراع معه غير متكافئ لأنه ليس بوسع آدميّ أنْ
يقتل شبحا، والنتيجة هي استشراء الملل. مهما زاد عدد أصدقائنا الافتراضيين في
الفيسبوك فليس من بينهم شخص متاح لنلتقيه على فنجان قهوة أو نذهب معه للسينما.
وطالب الجامعة لن يذهب بين المحاضرات ليبحث عن كتاب في المكتبة، لكنه يجوجل الكتاب
ليحصل على نسخة إلكترونية، أو يكتفي حتى بتصفح جديد الانستجرام ولا يفكر حتى
بالكتاب الإلكتروني. وزميله العاشق الخجول لن يتصيد اللحظات حتى يجد فرصة مناسبة
لفتح حوار مع زميلته الحسناء منتظرا لحظة التعارف التي طالما تطلّع إليها، ولكنه
سيضيف تلك الفتاة –والعشرات مثلها- إلى قائمته في الفيسبوك—إنْ لم يكن كلاهما
اختار معرّفا لا يتضمن اسمه الحقيقي، وصورة هي أفتار لا يمثلهما! حين تختار العالم
الافتراضي ميدانا لمعركتك فأنت قد اخترت معركة افتراضية، ولا أمل لك في الفوز
فيها. إذا سعينا لقتل الوقت في العالم الافتراضي، فعلينا أن ندرك أننا لن نجني سوى
عكس ذلك: إننا نعطي الوقت الافتراضي الفرصة الذهبية كي يقتلنا. إننا نزرع الملل
ونحصد الملل، وبين الغرس والحصاد عمر ينقضي في رعاية الملل والعناية به وهو ينمو
ويتغول حتى يستل أنفاسنا ويخطف أعمارنا في العالم الواقعي—وليس الافتراضي!